كتب

كيف واجه المؤمنون بالديمقراطية الليبرالية الأوليغارشية الجديدة؟ كتاب يجيب

أصبحت روما عظيمة، كما أشار غيبون (Gibbon)، جزئياً لأنها سمحت بالتنوع الديني ووفرت للغرباء، بمن فيهم العبيد السابقون، فرصة للارتقاء بوضعهم.
الكتاب: "قدوم الإقطاع الجديد - تحذير إلى الطبقة الوسطى العالمية"
الكاتب: جويل كوتكين 
ترجمة: د. نايف الياسين
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2023
(373 صفحة من القطع الكبير).

تشكيل المجتمع الإقطاعي الجديد


تتشكل جميع الأنظمة البشرية من القرية البدائية إلى الإقطاع القروسطي إلى الديمقراطية الليبرالية، ليس بالأفكار وحسب، بل أيضاً بالسيطرة على البيئة المادية والموارد. "وتقوم الأنظمة الديمقراطية إلى درجة ما على الاعتراف بحقوق الملكية الفردية ورعايتها؛ فمعظم المجتمعات الديمقراطية أو الجمهورية في التاريخ ـ في أثينا، وروما، وهولندة وبريطانيا وفرنسا وأمريكا الشمالية، وأوقيانوسيا ـ خلقتها وأدامتها طبقة وسطى كبيرة ومالكة للعقارات والأشياء.

في القرن العشرين، تحقق نمو أصول الطبقة الوسطى بشكل كبير عن طريق توسع وصولها إلى ما يتجاوز مركز المدينة، الأمر الذي سمح لعدد أكبر من المواطنين بشراء العقارات في بيئات واسعة وآمنة توفر قدراً من الخصوصية. وقد روّج للمثل الأعلى القائم على ملكية واسعة للعقارات منذ أمد بعيد سياسيون يمينيون ويساريون في معظم البلدان ذات الدخل المرتفع. قال الرئيس فرانكلين د. روزفلت: "إن أمة من مالكي المنازل، من الناس الذين يملكون حصة حقيقية من أرضهم، أمة لا تهزم". فقد رأى في ملكية المنازل أمراً حيوياً ليس للاقتصاد وحسب، بل أيضاً للديمقراطية ولفكرة الحكم الذاتي بحد ذاتها.

يقول المؤلف جويل :اليوم، تجري عملية عكس لدمقرطة ملكية الأرض. في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم، يُدفع عدد متزايد من الناس إلى العيش في شقق أو منازل مستأجرة، مع عدم وجود فرصة تذكر لتحقيق الاستقلال المالي. وهذه النزعة ليست ببساطة نتاجاً لقوى السوق. فقد روّجت الأوليغارشية، وأكثر منها خبراء الأسر التخطيط في طبقة الكتبة لاستئجار المنازل - سواء على شكل شقق أو منازل لأمر منفردة - رغم أن امتلاك المنازل تفضله الأغلبية الساحقة من الناس في الولايات المتحدة، وأوروبا، وأستراليا وكندا. بالنظر إلى ارتفاع كلفة التطوير العقاري المكثف، فإن الأجيال المستقبلية قد تصبح أكثر اعتماداً على المساعدات الحكومية أو وحدات السكن الجماعي التي تستطيع تحمل تكاليفها. لا يمكن لاقتصاد يعتمد فيه معظم الناس على تحويلات الثروة من القلة المحظوظة أن يتعايش بسهولة مع تقليد المبادرة الفردية وحكم الذات"(ص227).

هل تستطيع البشرية تحدي الإقطاع الجديد؟

يرى المؤلف جويل أن الأمل برؤية توافقٍ عالميٍّ حيال الديمقراطية، كما تنبأ به  في وقت من الأوقات فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama)، وتوماس فریدما ( Thomas Friedman)، بین آخرین بعيد على نحو متزايد مع تنامي مكانة الصين غنى وقوة، لا سيما أنَّ الصين من وجهة نظر هؤلاء المفكرين الغربيين أصبحت تمثل "شكلاً استبدادياً من رأسمالية الدولة." وعالمياً، يبدو أن الحوكمة الديمقراطية وصلت ذروتها في عام 2006، ثم أصبح عدد كبير من البلدان ـ بما في ذلك تركيا، وروسيا، والصين ـ أكثر استبدادية. حتى الهند الديمقراطية وكثير من البلدان الأوروبية شهدت أنظمتها الدستورية ضغوطاً بسبب الخلافات الداخلية والانقسامات العرقية والدينية.

تمثل "دولة الحضارة" الصينية المتجذرة بعمق في آلاف السنوات من التاريخ، أكثر التحديات الفلسفية عمقاً للقيم الليبرالية منذ نهاية الحرب الباردة. يتنبأ جورغن راندرز (Jorge Randers الأستاذ الفخري للإستراتيجية المناخية في كلية الأعمال النرويجية بمستقبل عالمي تحت الهيمنة الصينية، رغم كثير من التحديات البيئية وغير البيئية التي تواجهها البلاد.

ويجادل راندرز أن "الدول الغربية لن تنهار، إلّا أن العمليات السلسلة والطبيعة الودية للمجتمع الغربي ستختفي، لأن انعدام العدالة سيؤدي إلى انفجار سيفشل المجتمع الديمقراطي الليبرالي، في حين أن حكومات أقوى مثل الصين ستكون هي المنتصرة".. حتى دون التحدي الصيني، فإن الدول الغربية تشهد أصلاً درجة أكبر من المركزية الاقتصادية، ولو كان ذلك في أيدي الأفراد على مدى العقود القليلة الماضية، راكمت مجموعة صغيرة من الأوليغارشيات مثل وارن بوفيت (Warren Buffett)، ثروات ضخمة. من خلال شراء شركات دون منافسة تذكر كوسيلة لضمان تحقيق أرباح احتكارية." الأمر الأكثر أهمية هو أن النخبة التكنولوجية، الخبيرة جداً في استغلال القوانين الضريبية لمصلحتها، تستمر في تعزيز سلطتها في قطاعات حيوية من السوق، وتجعل من أنفسها أسياداً أكثر نفوذاً وقوة من معظم الحكومات.

في خاتمة الكتاب

 السؤال المطروح: كيف يستطيع أولئك المثقفون الغربيون الذين يؤمنون بالديمقراطية الليبرالية أن يردوا على التحدي المتمثل في صعود طبقتي الأوليغارشيية والكتبة من المثقفين والأكاديميين والإعلاميين الذين تم توظيفهم في خدمة الأوليغارشية الجديدة؟

إن "الثورات الفلاحية" الناشئة في شمال أمريكا وأوروبا تفتقر عموماً إلى برنامج متماسك لتحدي السلطات المهيمنة. وهي تلجأ في معظم الأحيان إلى الأصالة البدائية والحنين الثقافي الذي لا مكان له في ديمقراطية القرن الحادي والعشرين.

يتمثل مفتاح مقاومة الإقطاع الجديد اليوم في النوع نفسه من الناس الذين أنهوا النسخة الأولى من الإقطاع، أو ما وصفه عالم الاجتماع اليساري بارنغتون مور (Barrington Moore)، بـ "طبقة كبيرة العدد ونشطة سياسياً من سكان المدن"... بعبارة أخرى، الناس الذين ينزعون إلى امتلاك بعض العقارات والممتلكات وفي كثير من الأحيان شركاتهم الخاصة، والذين يبنون مجتمعات حول احتیاجات أسرهم. في أواخر القرن الثامن عشر، انضم مثل هؤلاء الناس إلى الفلاحين المستقلين لتحدي الأرستقراطية الوراثية والتراتبية الدينية. في وقت لاحق، نجحت الطبقة العاملة في تقييد السلطة الافتراسية والتراكم غير المتناسب للثروة في أيدي الرأسماليين الاحتكاريين في العصر الذهبي.

المطلوب اليوم نوع جديد من الممارسات السياسية التي تركز بصورة رئيسية على تحقيق تطلعات الطبقة الثالثة ـ وتوسيع الفرص المتاحة للطبقتين الوسطى والعاملة. إن التأكيد الراهن على العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع الثروة والدعم الحكومي لا يزيد فرص الارتقاء الاجتماعي، بل يعزز الاتكالية ويركز السلطة في أيدي عدد قليل من الناس.

الأوليغارشية الجديدة اليوم، تتكون من الأفراد الذين استفادوا إلى الحد الأقصى من الأسواق الحرة، وحماية حقوق الملكية والمثل الأعلى للجدارة إلّا أن غطرستهم وجشعهم من شأنه أن يثير ردة فعل ضد امتيازاتهم. فكر في الغضب الشعبي الذي أثارته فضيحة القبولات الجامعية في الولايات المتحدة، التي كشفت قيام نخب هوليوود وقطاع الأعمال بالغش، ورشوة المسؤولين، وتزوير السجلات لإلحاق أبنائهم بأفضل الجامعات..

إلا أن الأوليغارشية ربما تقوض أساس حظها وثروتها. فجزء كبير من الطبقة الأوليغارشية متحالف مع تقدميين متشددين ذوي أجندة أساسية معادية لليبرالية الكلاسيكية والمبادرات الرأسمالية الحرة." وهذا شبيه بما حدث قبيل الثورة الفرنسية، عندما كان كثير من الأرستقراطيين الفرنسيين يعيشون حياة متهتكة لكنهم كانوا يدعمون كتاباً انتهى الأمر بأعمالهم السجالية تهدد "حقوقهم هم بل وجودهم نفسه" كما لاحظ توكفيل..

حتى الآن، كانت السياسات التي يناصرها اليسار التقدمي غالباً على حساب الطبقتين الدنيا والوسطى.. إلا أن الجيل الجديد من التقدميين باتوا أكثر جرأة وأكثر شبهاً بعاقبة الثورة الفرنسية أو الحرس الأحمر الذي أُطلق من عقاله خلال الثورة الثقافية في الصين في أواخر ستينيات القرن العشرين... في المستقبل، قد لا يتسامح الناشطون الشباب مع تجاوزات الأوليغارشية كما فعلت أجيال سابقة من قيادات الحملات البيئية في المحصلة إذا كان العالم على شفا قيامة عالمية، ويعاني أيضاً من مستويات مرتفعة من انعدام المساواة، كيف يمكن لأساليب الحياة الباذخة لعدد كبير من أكثر الشخصيات العامة المناصرة للسياسات الخضراء ـ من الأمير تشارلز إلى ريتشارد برانسون إلى ليوناردو دي كابريو وآل غور ـ أن تكون مقبولة؟ قد يتحول اليسار البيئي ضد أصحاب المليارات الذين يتباكون على التغير المناخي وفي الوقت نفسه يستعملون طائراتهم الخاصة في التنقل لمناقشة "الأزمة" في أماكن مثل دافوس.

تحولت معارضة النظام الإقطاعي الجديد في كثير من الأحيان إلى كراهية الأقليات، مثل المهاجرين واليهود والمسلمين، والاعتقاد بأن المجتمع يواجه تهديداً على يد المهاجرين من ثقافات مختلفة.
الناشطون الذين يدمجون الخضر البيئيين مع الحمر الاشتراكيين لا يميزون بين أصحاب المليارات الجيدين وأصحاب المليارات السيئين. بمرور الوقت، فإن الأوليغارشيات ذوي الميول اليسارية قد يكتشفون أن حلفاءهم السياسيين الظاهريين، بل حتى موظفيهم، يتمردون عليهم. وبينما يمنح الأوليغارشيات دعماً مالياً كبيراً للديمقراطيين، فإن بعض المسوحات تشير إلى أن عدداً أكبر من أعضاء الحزب يدعمون الآن الإشتراكية لا الرأسمالية... بل إن ثمة حركة اشتراكية متنامية في أوساط موظفي الشركات التكنولوجية في وادي السليكون الذين ليس أمامهم أي فرصة في مراكمة الثروة التي تمتعت بها أجيال سابقة في منطقة الخليج." ومن غير المفاجئ أن بعض أباطرة التكنولوجيا وأوليغارشيات وول ستريت يضعون أصلاً خطط طوارئ للنجاة في حال حدوث اضطرابات مدنية. "

حتى الآن، تحولت معارضة النظام الإقطاعي الجديد في كثير من الأحيان إلى كراهية الأقليات، مثل المهاجرين واليهود والمسلمين، والاعتقاد بأن المجتمع يواجه تهديداً على يد المهاجرين من ثقافات مختلفة. "بالنظر إلى الاتجاهات الديموغرافية ليس في أوروبا وحسب، بل في أمريكا الشمالية وأقيانوسيا أيضاً، فإن مثل هذه الأجندة القائمة على كراهية الأجانب من المرجح أن تُحدث أثراً عكسياً، وهي غير متوافقة مع مجتمع ليبرالي يمكن أن يدمج القادمين الجدد في الثقافة الوطنية بنجاح.

المجتمعات العظيمة بطبيعتها تميل إلى التوسع والانفتاح لا إلى الإنغلاق. أصبحت روما عظيمة، كما أشار غيبون (Gibbon)، جزئياً لأنها سمحت بالتنوع الديني ووفرت للغرباء، بمن فيهم العبيد السابقون، فرصة للارتقاء بوضعهم. على عكس أثينا، حيث كانت المواطنة مقيدة، فإن روما وسعت المواطنة إلى أبعد حدود الإمبراطورية، وبحلول عام 212 كان جميع الناس الأحرار مؤهلين لأن يكونوا مواطنين. "أحفاد الغاليين، الذين حاصروا يوليوس قيصر في أليسيا، قادوا أفواجاً، وحكموا مقاطعات وسمح لهم بالوصول إلى مجلس الشيوخ في روما، كما كتب غيبون".