كتب

كيف تكون الفنون فاعلا جوهريا في عمليات التنمية؟

الفنون تجعل حياتنا أكثر ثراء وأكثر جمالا
الكتاب: "الثروة الإبداعية للأمم.. هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية إلى الأمام؟"
المؤلف: باتريك كاباندا
المترجم: شاكر عبد الحميد
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- عالم المعرفة، 2022


باتريك كاباندا هو أحد مستشاري التنمية في البنك الدولي، وهو أيضا مؤلف موسيقي وعازف من أصول أوغندية، وكتابه هذا يرتبط بخبراته المبكرة وبحوثه حيث يجمع عبر صفحاته بين معرفته للفنون باعتباره ممارسا للموسيقى، وبين خبرته وتدريبه في الشؤون الدولية. في تقديمه للكتاب يتساءل عالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا سن حول كيف يمكن أن تعزز الفنون عمليات التنمية، ويتبع تساؤله بالقول أن الإجابة واضحة تماما، إذ ينبغي النظر إلى التنمية من خلال منظور إنساني، بدلا من النظر إليها في ضوء التوسع في الوسائل المادية، أي أنها ينبغي أن تراعي عملية إثراء حياة البشر.

ويضيف أن الدور الأكبر للفنون الذي يتفوق على ما عداه من أدوار هو أنها تجعل حياتنا أكثر ثراء وأكثر جمالا، وبهذا المعنى تكون الثروة الإبداعية للأمم، التي تتمثل في التراث وكذلك في الممارسات الخاصة بالفنون، جانبا مهما من جوانب عملية التنمية. وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة، فإنها تستحق التأكيد عليها، بحسب سن، لأن الإغراء الخاص بإضعاف عملية فهم الطبيعة الشاملة للتنمية، ومن خلال التركيز الاستثنائي على الموضوعات المادية أو وسائل الراحة، بدلا من الاهتمام بنوعية الحياة، هو أمر شائع وعلى نحو محزن في أدبيات النمو والتنمية.

لذلك تأتي أهمية كتاب كاباندا من حيث أنه يوضح كيف يمكن للفنون أن تعمل على إثراء اقتصادات العالم، حتى في تلك المناطق المنكوبة أو المبتلاة بالفقرالمادي، وذلك من خلال إيجاد وإنتاج سلع قابلة للبيع والرواج، إذ يمكن أن يستفيد العالم منها، وبالنسبة إليها ومن خلالها، قد تكون بقية الإنسانية جاهزة لتقديم مساهمة مادية معينة أيضا، ليتحقق التكامل بين ما هو اقتصادي وما هو ثقافي.

إعادة نظر

فكرة أساسية يؤكد عليها كابندا في كتابه هي أن الفنون والثقافة ليستا من "الرفاهيات" لكنهما أمران جوهريان في تلك المهمة الأساسية للتنمية ألا وهي: تحسين حياة الناس. فإذا كانت الأمم قادرة على التفعيل الكامل لثروتها الإبداعية، فإنه سيكون من المحتمل أيضا أن تحصد مكاسب مالية وغير مالية كبيرة. فالثقافة يمكنها أن تولد نشاطا اقتصاديا مباشرا، عن طريق العروض وتبادل السلع والخدمات الثقافية، ومن خلال قدرة الفنون على تحرير أو تشجيع الخيال الإنساني، وعن طريق غرس التضامن والتعاون داخل المجتمع.

ويقول إننا لو نظرنا إلى البنية المترابطة الخاصة بالثقافة، في أثناء عملية التنمية، سوف نرى مثلا أن الإبداع والابتكار يمكن أن يؤديا إلى خلق الوظيفة، ويمكن أن يسهم ذلك في تحسين مستوى نوعية حياة الناس. إن النمو الاقتصادي نمو يحركه الإبداع والابتكار بقوة، وبما أن الفنون محفز كبير للإبداع والخيال، فإن هناك مبررا قويا لأن تكوّن الفنون علاقات طيبة وناعمة، بحسب باكندا، مع مجالات مثل التعليم وريادة الأعمال، وعالم التجارة، والبحث والتطوير. إنها تدفعنا إلى توسيع مدى التفكير الخاص بنا، وتستثير فينا عمليات التحدي من أجل مواجهة المشكلات الصعبة، وتشجعنا على العمل الجماعي.

لو نظرنا إلى البنية المترابطة الخاصة بالثقافة، في أثناء عملية التنمية، سوف نرى مثلا أن الإبداع والابتكار يمكن أن يؤديا إلى خلق الوظيفة، ويمكن أن يسهم ذلك في تحسين مستوى نوعية حياة الناس.
من جهة أخرى غالبا ما تنصح الدول النامية ، ذات المدى المحدود من السلع التي يمكن تصديرها، وكذلك الترتيبات المحدودة الخاصة بخلق الوظائف، بأن تنوع مصادرها، وهكذا فإنه إذا كانت لبعض تلك الدول ميزة تنافسية نسبية في القطاع الثقافي سيكون هناك مبرر ملح بالنسبة إليها لأن تعيد النظر في مواردها الخاصة بالفنون، ومن الممكن إنجاز مثل ذلك العمل في ظل ذلك الإطار العام الخاص بالتطوير للصناعات الثقافية.

الفنون، بحسب باكاندا، يمكنها أن تسهم بوسائل مختلفة في التقدم الاجتماعي والاقتصادي، سيما في العالم الذي يطلق عليه "النامي" حيث يتسم بثراء ثقافي مدهش. لكنها لا يمكنها القيام بذلك وحدها، إنها جانب من الحل، لذلك فإن دعم الإبداع في الدول النامية قد يؤدي دورا ملحوظا في خفض الفقر المدقع، وفي تحقيق الازهار المشترك أيضا، إذا "تولد لدينا اهتمام بوضع مثل هذه الثروة، وعلى نحو فعال، داخل مجال تفكيرنا". يضيف باكندا أنه على الرغم من أن أهداف الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية المستدامة قد قصرت في الاعتراف الكامل بالدور الممكن للثقافة في التنمية، فإنه قد ورد ضمن هذه الأهداف أهمية "إدراك وتفهم التنوع الثقافي، وكذلك إسهام الثقافة في التنمية المستدامة".

بعيدا عن النمطية

يلفت كاباندا إلى أن الفنون كانت قديما وعاء للمعرفة ووسيلة للحصول عليها، لكنها عبر مسيرة التاريخ تُركت في الخلف وقدم البشر عليها العلوم والرياضيات باعتبارها الوسائل الوحيدة في تكوين الثروات. وبسبب ذلك فإن الأنظمة التعليمية حول العالم تركز اليوم على هذه الموضوعات متجاهلة ما للفنون من دور في إثراء العملية التعليمية. فتعليم الفنون قد يساعد الطلاب على تطوير حب الاستطلاع المعرفي لديهم، وأن ينشئوا كذلك علاقات بين الفنون والموضوعات الأخرى التي يدرسونها، ومثل هذه المعرفة تساعد الطلاب أيضا على أن يكونوا أفرادا يتمتعون بأساليب تفكير أكثر تحضرا وأكثر خيالية أيضا.

في هذا السياق يشير كاباندا إلى معهد أفغانستان القومي للموسيقى، وما يثيره وجود مثل هذا المعهد لدى أصحاب "الإطار النمطي للتنمية" من تحفظات باعتبار أن الأولوية هي لتوفير الأمن لا الموسيقى. ويقول في رده على ذلك أن الأمن أمر مهم بالتأكيد، والواقع أن وجود مثل هذا المعهد بحد ذاته يحتاج أيضا إلى الأمن المستدام. لكن ماذا لو فكرنا في أن الأمن بمعناه الشامل لا يقتصر فقط على توفر القوة العسكرية ؟.

يقول كاباندا أن هذا المعهد يسعى لتبني عملية خاصة بالشمول الاجتماعي، في بلد كان له نصيبه من الحروب المستعرة والمستمرة، بما في ذلك الحروب الثقافية. يأتيه الطلاب من مختلف الخلفيات العرقية والدينية والاقتصادية، وتشتمل مجموعة الطلاب هؤلاء على أيتام من مقاطعات مثل باميان، وجلال أباد، وكونار، ونرستان، وعلى عدد من الطالبات أيضا. وهم يدرسون الموسيقى الأفغانية والغربية أيضا. لقد تمكن العديد من اليافعين الفقراء الذين لا تتاح لهم عادة فرصة تعلم الفنون أو حتى الالتحاق أحيانا بمؤسسات التعليم التقليدي أن يكتشفوا عالما براقا، عادة ما يكون امتيازا يتمتع به الأثرياء فقط.

وتمكن الملتحقون بهذا المعهد من اكتساب مهارات متميزة، وتعاونوا مع أقران لهم من خلفيات متباينة، سيطرت عليها لعقود الخلافات والصراعات. معهد الموسيقى في كابول استطاع من خلال الشراكات أن يبني جسورا محلية وعالمية، كما ازدادت قوة حضوره عالميا من خلال الرحلات السياحية التي ينظمها والحفلات الموسيقية. إنه بشكل ما جسد ما يسمى بالدبلوماسية الثقافية، وتمكن من نقل صورة مغايرة للصورة النمطية عن أفغانستان. يضيف كاباندا "بالإضافة إلى التنمية البشرية للطلاب، فإن معهد أفغانستان القومي للموسيقى قد أصبح أيضا مكانا مجسدا للتعلم والنشاط الجماعي في منطقة غالبا ما تستبعدها أماكن كثيرة في العالم من اعتبارها".

وسيلة لتعافي المجتمعات

في أحد فصول الكتاب يتحدث كاباندا عن قيمة الفنون العلاجية في مجال الصحة النفسية، حيث تعاني المجتمعات، بحسب ما يقول، من الاكتئاب كما هو حال الأفراد نتيجة الضغوط والصدمات المختلفة. ويضرب أمثلة لتجارب ناجحة في هذا السياق من أماكن متعددة مثل أوغندا ورواندا ونيوارك في الولايات المتحدة وريو دي جانيرو في البرازيل. في رواندا وبعد عشر سنوات من التطهير العرقي قررت مجموعة من النساء أن تساعد نفسها بطريقة إبداعية، فبالإضافة إلى بيعهن المثلجات، "قررن أن يسحقن الألم بقرع الطبول.. قررت أوديل كيتس الممثلة والكاتبة تكوين فرقة "إنغوما نشايا" لمساعدة النساء الروانديات على التغلب على صدمات التطهير العرقي.

ولسوف تؤدي هذه الفرقة أيضا إلى تغيير وجهة النظر بشأن ثقافة قرع الطبول في رواندا التي يسيطر عليها الذكور، ـ ليس لأي سبب سوى الاعتقاد الشائع بأن الطبول ثقيلة لا يمكن للنساء حملها ـ وإلى إنشاء أول مهرجان قومي للطبول في رواندا". يقول كاباندا ان الجهد الذي بذلته كيتس كان متعدد الأبعاد، فبالإضافة إلى توجيهها ضربة قوية إلى الحواجز الجسدية والنفسية الموجودة بين الجنسين فيما يتعلق بالمساواة في التعبير الثقافي، فإن الفرقة توضح أن التعافي الثقافي يمتلك قوة لا يستهان بها، فالأرامل واليتامى وزوجات وأطفال الجناة كانت هذه الفرقة بالنسبة لهم أشبه بمكان يمكنهم من خلاله البدء بحياة جديدة ثانية، وأن يشفوا من جراح الماضي.

في رواندا وبعد عشر سنوات من التطهير العرقي قررت مجموعة من النساء أن تساعد نفسها بطريقة إبداعية، فبالإضافة إلى بيعهن المثلجات، "قررن أن يسحقن الألم بقرع الطبول.. قررت أوديل كيتس الممثلة والكاتبة تكوين فرقة "إنغوما نشايا" لمساعدة النساء الروانديات على التغلب على صدمات التطهير العرقي.
أما في ريو فقد تسببت حادثة في العام 1993 بإطلاق نشاط منظمة غير حكومية "أفروريجاي" قصد منها مواجهة عنف رجال الشرطة وعصابات المخدرات من خلال الموسيقى والرقص. لكن المنظمة وسعت أيضا أنشطتها وبحلول عام 1994 أسست أول نواة اجتماعية للثقافة، وبدأت بتقديم ورش عمل بشأن إعادة تدوير النفايات، وتعلم العزف على الآلات الايقاعية أو تعلم الرقص. وتواصلت المنظمة التي شكلها بالأساس أندرسون سا، شقيق أحد ضحايا عنف الشرطة في حي فيغاريو، وجوزيه جونيور، الناشط الاجتماعي في الأحياء الفقيرة، مع حكومة المدينة من أجل أن تكفل الأحياء الفقيرة بالرعاية والصداقة، وأثمر ذلك عن إقامة حفلات كبيرة في تلك الأحياء زارها ضيوف بارزون ونجوم محليون.

بينما كان وجود المنظمة في فيغاريو ثقافيا في الأساس، مع التركيز على المسرح والموسيقى والرقص، فإنها كانت تمتلك في حي فقير آخر،لوكاس، مركزا لتكنولوجيا الكمبيوتر، حيث جمعت بين أحدث التطورات فيما يتعلق بالأجهزة وبين التدريب. وفي كونتاغالو، وهو جزء من مجمع سكني يتكون من ثلاثة أحياء فقيرة في مكان مرتفع فوق التلال أقيم مشروع السيرك. وفي العام 2004 قرر القائمون على أفروريجاي أن يشاركوا مع كتائب الشرطة في "غزوات ثقافية في ولاية ميناس غراس المجاورة. فمن الآلات الإيقاعية إلى الرقص، وكرة سلة الشوارع ورسومات الحوائطإلأى المسرح، ولمدة أربعة أشهر، استهدف أفراد الشرطة هذه المنطقة ولكن بطريقة جيدة من أجل أن يدمجوا أفرادها على نحو أفضل في المجتمع.

يقول كاباندا: لقد كان ذلك مثالا أساسيا على استخدام الثقافة في إقامة علاقات مفعمة بالمعنى في المجتمع. تضع مثل هذه الأنشطة الناس في قلب التنمية، إنها استثمارات تحدث في رأس المال الثقافي للمجتمع.