كتب

هل تؤذن ثورة شبكات التواصل الاجتماعي بنهاية الدولة الحديثة؟

كتاب يسلط الضوء على التأثير الذي باتت تمثله شبكات التواصل الاجتماعي على الحياة بشكل عام
الكتاب: "شبكات التواصل الاجتماعي"
المؤلف: روبير ريديكير
المترجم: سعيد بنكراد
الناشر: المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء المغرب
الطبعة الأولى: 2023
عدد الصفحات: 336


استأثرت شبكات التواصل الاجتماعي بدراسات كثيرة توقفت بعضها على دورها في المجال العام وتأثيرها على الحقل السياسي، فيما اهتمت أخرى بالتحولات القيمية والثقافية التي أحدثتها، والأبعاد الجديدة التي أضافتها للإنسان أو سلبتها منه، فيما اهتمت أخرى بالسلطة التي أضحت تمثلها قواعد البيانات التي تجمعها المؤسسات الكبرى التي أطلقت تطبيقات التواصل الاجتماعي، وحدود تأثيرها في المنظومات القانونية، وأيضا في صناعة الرأي الانتخابي، وتغيير الأنساق الانتخابية، حيث أعادت إحياء جدل الداخل والخارج. لكن هذه المرة ليس من بوابة تدخل الدول الأجنبية في القرار السيادي، أو في المنظومات القانونية المحلية، ولا من بوابة المنظمات الدولية، ولكن، من بوابة قواعد البيانات الكبرى، والشركات المتحكمة فيها، وقدرتها على صناعة المحتوى أو تدويره على  أصحاب الحسابات في وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف التحكم في  الرأي العام وصناعته وتوجيهه.

ومع كل الوفرة التي تمثلها هذه الدرسات، فإن التراكم الذي حصل فيها لم يصل بعد إلى درجة الاكتفاء وذلك بسبب خضوع وسائل التواصل الاجتماعي لتحولات كبيرة في والإمكانات الجديدة التي تتيحها، وأيضا في بنيتها القيادية ومواردها البشرية وسياساتها الجديدة، والخلفيات الكبرى التي أضحت تؤطرها مما يتطلب مزيدا من المواكبة والاجتهاد البحثي.

ويعتبر كتاب "شبكات التواصل الاجتماعي"، لروبير ريديكير، واحدا من المساهمات الجادة التي طرحت نقدا عميقا للسلط التي أضحت تمثلها هذه الشبكات، والمدى البعيد الذي وصلت إليه أهدافها، لاسيما ما يتعلق بتأثيرها على مسار الدولة الحديثة، أو على كينونة الإنسان وجوهره الإنساني، وسعيها نحو تغيير معناه ورهاناته، وطمس المعنى الروحي الجواني فيه، وتحويله إلى جسد عاري مكشوف الظاهر والباطن، وقتل حياته الخاصة والحميمية، وتدميرها لخصوصية المنزل، وانتصارها للفوضى، وقتلها للانتماء، وإنهائها لمفهوم الرأي العام، وتحولها إلى تنين  يبتلع الدولة.

شبكات التواصل الاجتماعي والدرس الترامبي

يتوقف الكاتب عند حدث مهم لم يحظ بالتأمل ولا التحليل الكافي من قبل المثقفين، وهو مصادرة تغرديات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على تويتر، وحذف حسابه نهائيا منه، بحجة عدم انضباطه للمعايير التي وضعتها تويتر.

يعزو الباحث هذا العزوف عن تحليل الحدث وإيلائه ما يستحق من التأمل، إلى العداء والكراهية التي كان يكنها المثقفون والإعلاميون للرئيس ترامب وسلوكاته العدائية معهم، ويرى أن الحدث لم يكن عاديا بالمرة، وأنه كان يفترض أن يتوقف عنده طويلا، فالرجل الذي وجهت له هذه الإجراءات التضييقية، هو رئيس أكبر دولة في العالم، وهي الوريثة للتراث الديمقراطي لتوماس هوبز، هذا إن لم تكن ديمقراطيتها قد تجاوزته، بحكم أنها أسست لتعاقد ضمني بين ساكنيها في المقام الأول، وبينها وبين الساكنة والحكومة في المقام الثاني، يقضي بحماية الناس وحماية حرياتهم في التعبير نظير خضوعهم للقوانين.

ويعتبر الباحث أن الحدث يدل على منعطف خطير عرفه الزمن، يؤشر على شكل من أشكال الانتقال إلى السلطة، إذ لم يكن ترامب الضحية إلا نموذجا للإنسانية التي راحت هي الأخرى ضحية مثله، ويعتبر أن الحرب التي نشأت بين ترامب وتويتر، أو بالأحرى الغافام (الشركات الكبرى التي تدير تطبيقات التواصل الاجتماعي) سوى تعبير عن حرب التنانين: تنين الغافام، وتنين الدولة الحديثة، التي كان روسو وهوبز منظريها الأساسيين.

يصور الكاتب مسار هذه المعركة منذ مباديها الأولى، فبعد أن سلبت الدولة من الله اختصاصاته وصلاحياته، جاء تنين "الغافام" ممثلا في الشركات المهيمنة على وسائل التواصل الاجتماعي بالاستيلاء على هذه السلطات، لتعكس الحرب بين ترامب وبين تويتر - في الجوهر- القوة المذهلة التي تتمتع بها هذه الشركات.

صراع التنانين.. أو من تنين الدولة إلى تنين شبكات التواصل الاجتماعي

يسلط الكاتب الضوء على التأثير الذي باتت تمثله شبكات التواصل الاجتماعي على الحياة السياسية، وأن الثورة التي أضحت تمثلها لم يتم بعد اكتشاف وتحديد مضمونها وتداعياتها المستقبلية، وإن كانت بعض القرائن والمؤشرات الأولية بدأت تعطي صورة عن خطاطات الحياة السياسية وبنياتها التي أعادت شبكات التواصل الاجتماعي تشكيلها.

يفضل الكاتب أن يقارب هذا الموضوع بالبدء بسؤال من بات يقرر في المحظور وغير المحظور؟ ومن أضحت له هذه السلطة؟  ليخلص منه إلى أن الأزمنة الجديدة، التي اكتسحتها شبكات التواصل الاجتماعي، لم يعد فيها بإمكان الدولة أو الله أو الإنسان أو الشعب أن  تكون مصدر هذا القرار أو السلطة، ويعلل ذلك بكون التكنولوجيات الحديثة جعلت التمتع بحياة حميمية أمرا متعذرا، وأن رقمنة العالم التي سرعت من وتيرتها شبكات التواصل الاجتماعي  تقود إلى تحولات كبيرة في سلوك الناس، أسقطت الكثير من الحواجز، ومنها على الخصوص الفواصل الموجودة بين الحياة العامة والخاصة، وجعلت للفضاء العمومي  مفهوما واسعا، يدمج ضمنه حتى الحياة الخاصة والحميمية للناس، وأن مفهوم يورغن هابرماس للمجال العمومي، والذي كان يعكس في الحقيقة الصعود القوي للبرجوازية، أضحى مع وسائل التواصل الاجتماعي من غير حدود، وأن الفواصل بين الحياة الخاصة والعامة انمحت تماما، وأن سرية الناس أخلت المكان لمبدا للانكشاف، وأن المبدأ الجديد الذي اصبح يؤطر شبكات التواصل الاجتماعي هو الشفافية التي لا تبقي على خصوصيات الروح وملاذاتها الباطنة ومضمراتها الجوانية، وأن عصر ازدواجية الروح والجسد، أو الظاهر والباطن قد انتهت بالكامل، لجهة تحويل كل شيء في الإنسان بما في ذلك جوانيته وحميميته إلى شيء منكشف براني معروض على الجمهور، فهيأت شبكات التواصل الاجتماعي بذلك الفرصة لانتصار الإنسان الأحادي البعد، الذي لم يعد يحتفظ بأي هامش لأسراره أو حياته الخاصة.

أضحت شبكات التواصل الاجتماعي بديلا عن الله وعن الدولة وعن القانون، وبديلا عن الإنسان نفسه، إذ أضحت وحدها تقرر ما إذا كان هذا الممثل أو غيره هو من سيكرم في هذا المهرجان، وتختار من يترشح للانتخابات ومن لا يترشح، من يفوز ومن لا يفوز، وتحولت إلى أجهزة تقنية حاسمة في موضوع الأخلاق وإقامة القانون، وحلت محل القضاء ومختلف المؤسسات التقليدية التي كان موكولا إليها القيام بهذه المهام، فصارت في الجوهر بدلا عن المؤسسات السياسية والفلسفية والدينية، وصارت هي الشعب، وبديلا عنه
وهكذا وتبعا لذلك، أضحت شبكات التواصل الاجتماعي بديلا عن  الله وعن الدولة وعن القانون، وبديلا عن الإنسان نفسه، إذ أضحت وحدها تقرر ما إذا كان هذا الممثل أو غيره هو من سيكرم في هذا المهرجان، وتختار من يترشح للانتخابات ومن لا يترشح، من يفوز ومن لا يفوز،  وتحولت إلى أجهزة تقنية حاسمة في موضوع الأخلاق وإقامة القانون، وحلت محل القضاء ومختلف المؤسسات التقليدية التي كان موكولا إليها القيام بهذه المهام، فصارت في الجوهر بدلا عن المؤسسات السياسية والفلسفية والدينية، وصارت هي الشعب، وبديلا عنه، فأصبحت تضم سلطات فوق الدولة، تجسد الروح القديمة التي تريد السلطة الحقيقية، فأضحت تحدد معايير الحق والشر، والجمال والقبح، والحق والباطل، وتصنع القيم، وتقرر الأحكام وتنفذها في الآن ذاته، وأضحت الدولة في كثير من الأحيان مجرد آلية تنفذ الأحكام  التي تقررها وسائل التواصل الاجتماعي، بل إن سلطة هذه الشبكات بلغت إلى مدى أكبر من ذلك، إذ أضحت تؤثر على سيادة الدول، وتشكك في تشكل الشعوب والأمم، وصارت تمثل في الواقع آلات ضخمة تصنع السياسة وتطوح بمن تريد من السياسيين، وتصنع من تشاء منهم، وتلهم الشعب، وتبتلع الدولة، وتصنع قيمها بنفسها، وتفرضها بواقع الهيمنة والتأثير على كل المؤسسات القائمة.

مهمة الوشاية

يلفت المؤلف إلى بعد آخر من الأبعاد الخطيرة التي أدخلتها شبكات التواصل الاجتماعي إلى حياة الناس، فيستلهم من الدرس الفلسفي والتاريخي اليوناني مقاربة مهمة، تتعلق بمهمة الخدم الذين يقومون بالوشاية في نظام القضاء بأثينا، ويقارن بين هذه المهمة وبين الدور الذي أضحى الإنسان المتصل يقوم به عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل طوعي ومن غير الخضوع لأي إكراه أو تعاقد مع أي جهة. فالمتصل في شبكات التواصل الاجتماعي يتحول إلى خادم واشي، لا يكتفي فقط بتقديم الوشاية ضد الناس، بل يتحول نفسه إلى موضوع للوشاية، ويسمح للأجهزة الذكية باختراق أسراره ونقل خواصه المضمرة إلى الخوادم العملاقة، فيحيطها علما بأي نوع من الأكل يحب، وأي نوع من وسائل النقل يريد أن يستقل، وفي أي المطاعم يرتاح أن يأكل فيها، والجهات التي يحبذ السفر إليها، والأشخاص الذين يحب التفاعل معهم، والأشخاص الذين يكره التواصل معهم، والأفلام التي يحب مشاهدتها، والتي يحلو له الخلوة معها حين ينفرد بنفسه.

على أن الأمر لا يقتصر فقط على الهواتف النقالة أو الحواسيب المجهزة بالكاميرات والشاشات التلفزيونية الذكية، بل يشمل كل الأجهزة الذكية التي يحرص الإنسان على شرائها ووضعها في مطبخه أو حمامه أو غرفة نومه.

وتمتد مهمة الوشاية لأكبر من مجرد الإخبار عن الذات وعن الآخرين، بل تتحول إلى تقديم معطيات لا يرغب الآخرون أن تنشر عنهم في سياق تصفية الحسابات أو التعليق على التدوينات والتغريدات، فيتحول التعليق على موضوع يتضمن أفكارا للنقاش العمومي، إلى فضاء لتدمير الآخرين ونشر أخبار صحيحة أو زائفة عن سلوكات أو معلومات أو أسرار لا يريد المستهدفون بها أن يظهر الناس عليها.

شبكات التواصل الاجتماعي وامتداد الفوضى

يشير المؤلف إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في خلق فضاء من الفوضى يتمدد ويكتسح المساحات، ولا يبقي على أي مساحة تخضع لمنطق مبدئي.

لا يعني المؤلف بالفوضى في هذا السياق ما استقر عند الفلاسفة الفوضويين المعروفين بأصحاب "الأعلام السوداء"، وإنما يقصد بها شيئا آخر، ينمو ويتوسع خارج حدود المبادئ، فتصير الحياة وما تتطلع إليه البشرية من المدنية والحضارة أشبه ما يتكون بالتسلق في عالم الفراغ من غير تشبث بأي مبدأ مستقر. فالمبادئ، هي ما تنتجه الفوضى، فتجعلها مرجعية حينا، وتنقلب عليها حينا آخر، وتضع قانونها الخاص، وتحدد معاييره، وتوجه للحكم به، ثم تنقلب عليه كلما تطلب التسلق في عالم الفوضى ذلك.

ومع أن المؤلف ينفي أي صلة للفوضى بالتيار الفلسفي المعروف بالتيار الفوضوي، إلا أنه لا ينفي صلته بتار فلسلفي آخر، هو   التيار التفكيكي، إن صح أن يسمى تيارا، بحكم أن الحركة التي أنشأها التيار التفكيكي اتجهت رأسا إلى تدمير كل الأسس الثقافية للعالم الغربي.، ويعتبر أن الفوضى التي أنشأتها شبكات التواصل الاجتماعي هي النتيجة الطبيعية للوضعية الثقافية العامة التي نشأـت في بداية القرن الواحد والعشرين، حيث تكسرت الأسس الثقافية وهدمت المبادئ، وفقدت كل شرعية يمكن أن يستند إليها لتبرير مرجعيتها أو سلطتها على المجتمع أو فيه.

يستدل المؤلف على كلامه بإيراد جملة من التوصيفات التي انتشرت لدى الفلاسفة عن الوضعية الثقافية التي يعرفها العالم اليوم، إذ وصفها بعضهم بـ"الفوضى"، والبعض ألآخر بـ"عالم اللادلالة"، كما وصفها آخرون ب"عصر الفراغ" أو "الزمن السائل" أو "السوق الإلهي"، وغيرها من الاصطلاحات التي تصب في معنى واحد، يجمعه غياب المعنى والمبدأ، والافتقاد إلى المرجعية التي يجتمع عليها الناس، ويضفون عليها شرعية تحكم سلوكهم واقوالهم وعاداتهم وطريقتهم نطرهم إلى العالم والوجود ووظيفة الإنسان وغايته فيه.

شبكات التواصل الاجتماعي وقتل الانتماء

يلفت المؤلف إلى ملحظ مهم في الوظائف التي أضحت شبكات التواصل الاجتماعي تقوم بها، فقد نقلت الإنسان أو المواطن من فرد يحكمه تعاقد اجتماعي وسياسي مع الجماعة أو الدولة، إلى فرد رقمي، لا ينظر إلى الدولة والمؤسسات إلا باعتبارها مجموعة من الخدمات التي تقدمها إليه. فالمواطنون خارج هذا الارتباط الجزئي والبراغماتي، صاروا يهاجرون إلى فضاءات بعيدة عن الوطن، بدون انتماء يربطهم به أو ينبههم إلى حقيقة التعاقد الذي يربطهم به وبمؤسساته وبالدولة التي تدبره.

الرقمية قادت الإنسان إلى تأليه الطبيعة وعبادتها، بعد أن حولته إلى مجرد كائن رقمي ثم إلى كائن اصطناعي. ويثير مفارقة غارقة في التناقض، فالوضعية الغربية، انطلقت في بادئ أمرها من تحرير الإنسان من الخرافة وربطه فقط بالمادة وأسبابها، فشكلت بذلك المرحلة الدينية (التي يسود فيها منطق العبادة) مرحلة بدائية تجاوزها العقل الوضعي، لكنها اليوم من بوابة الرقمية، عادت من خلال إله جديد هو المادة والطبيعة وإفرادها وحدها بالعبادة دون غيرها.
لا يعني ذلك بالمطلق أن الدولة اختفت واضمحلت، لكن، ما يريد المؤلف التأكيد عليه، هو أن وظائف الدولة، بسبب التحول الرقمي وسطوة شبكات التواصل الاجتماعي، تراجعت إلى الحدود الدنيا في تمثلات الفرد، فصار ينظر إليها باعتبارها مجرد خدمات، لا تذكره بأي شيء من واجباته اتجاه الوطن، ولا عواطفه نحوه، فهو مهاجر كل يوم عنه، وربما متماه مع فضاءات أخرى، فاقدا لأي رباط جوهري يجمعه مع الدولة بعد أن كان يشكل الرحيق الذي يحافظ على وجودها ويمدها بأسباب الحياة. ونتيجة لذلك، يرى المؤلف أن ساكني الدول الغربية لم يعد فيهم مواطنون يشعرون بالانتماء لبلدانهم، بل صاروا أشبه بمن أسماهم بـ"مستهلكي الدولة وخدماتها العمومية"، فاختفى بذلك الإنسان، واختفى معه المواطن، ليحل معه مفهوم جديد هو المستهلك، وابتلع الإنسان الاستهلاكي الإنسان السياسي، وغرق السياسي في الدائرة الاستهلاكية. وهكذا، يرى الكاتب أن المسار انتهى في محطته الأخيرة إلى انفجار الدولة، وانهيارها من الداخل.

الوجه الآخر للرقمية.. عبادة الطبيعة

يرى المؤلف أن الرقمية قادت الإنسان إلى تأليه الطبيعة وعبادتها، بعد أن حولته إلى مجرد كائن رقمي ثم إلى كائن اصطناعي. ويثير مفارقة غارقة في التناقض، فالوضعية الغربية، انطلقت في بادئ أمرها من تحرير الإنسان من الخرافة وربطه فقط بالمادة وأسبابها، فشكلت بذلك المرحلة الدينية (التي يسود فيها منطق العبادة) مرحلة بدائية تجاوزها العقل الوضعي، لكنها اليوم من بوابة الرقمية، عادت من خلال إله جديد هو المادة والطبيعة وإفرادها وحدها بالعبادة دون غيرها.

فالعبادة الروحية كانت ـ حسب الوضعية ـتقوم في أصلها بنصب كابح يحول دون السقوط في الحيوانية والنباتية، فكانت بذلك تؤدي ـ حسب أوكنست كونت- وظيفة الكابح الضروري  للنشاط البدائي الأساسي، إذ لولاه لدمر الافتراس الإنساني كل شيء وترتب عن ذلك اختفاء وانقراض العديد من الفصائل الحيوانية والنباتية التي لم يشعر الناس بأهميتها، فكانت العبادة في تمثلات كونت تقوم بوظيفة عفوية ولاواعية عند الفصيلة الإنسانية، وكانت الوثنية هي الأخرى عبادة من نوع آخر تروم الحفاظ الجزئي على الطبيعة من السعار  الإنساني المدمر. لكن بعد تدمير الدين، وبعد مسار الوضعنة، حل التعلق بالطبيعة محل كل شيء، وجاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتقتل كل الوظائف السابقة، بما في ذلك الوظائف التي أنشئت من صلب النظر الطبيعي، أي مبادئ المواطنة والانتماء والعلاقة بين المواطن والدولة، وكافة التعاقدات الأخلاقية والثقافية والسياسية، ليحل الفراغ محل ذلك كله، فتحول اتباع الأهواء، وتضخيم الجانب السفلي في الإنسان هو محور الحياة، وأخذت العبادة منحى آخر، أي عابدة الشهوة واتباع الأهواء وطلب المزيد من المتعة واللذة.

خاتمة:

لا نستطيع أن نأتي على تغطية كل مضامين الكتاب، فضلا عن التقاط  التفاصيل الواردة في فصوله المتشعبة، لكن حسب هذه القراءة أن تضع القارئ في الصورة، وتحفزه على الاشتباك مع  مضامين هذا الكتاب ونظراته العميقة، وعلى الأبعاد الخطيرة التي أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي تقوم بها، لكي يكون واعيا بالمسار الذي تقود البشرية إليه، متنبها إلى واجب الترشيد لاسيما بالنسبة للناشئة التي غالبا ما تفقد الوعي الفكري والفلسفي بالتحولات العنيفة التي تحدثها هذه الشبكات، والحاجة إلى التمييز بين ضرورات الاستعمال، وبين التحول إلى أدوات لخدمة الجهات المتحكمة فيها.