كتب

هل بات حل الدولة الواحدة نتيجة حتمية لنهج إسرائيل؟ كتاب يجيب

بعد 75 عاما من وجود إسرائيل وصلنا إلى نقطة اللاعودة لكلا الجانبين في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني..
بعد 75 عاما من وجود إسرائيل وصلنا إلى نقطة اللاعودة لكلا الجانبين في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني..
الكتاب: "دولة واحدة.. المستقبل الديمقراطي الوحيد لفلسطين ـ إسرائيل"
المؤلف: غادة الكرمي
المترجم: ابتسام بن خضراء
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2023


كيف يمكن التوفيق بين وجود إسرائيل بوصفها دولة لليهود، وبين وجود عدد كبير من الشعب الفلسطيني غير اليهودي في البلاد؟ هذا السؤال هو الأساس الذي تقوم عليه أطروحة كتاب الباحثة، والمحاضرة في جامعة إكستير، الفلسطينية غادة الكرمي. أطروحة ترى أنها مشكلة غير قابلة للحل، وأن التقدم في هذا المسار لن يتحقق إلا بالمضي قدما نحو إنشاء دولة مشتركة (واحدة) تضم اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين، مستندة في ذلك إلى الرأي القائل بأن دولة فلسطينية ـ إسرائيلية واحدة سواء كانت مرغوبة أم لا، ستكون النتيجة الحتمية لنهج إسرائيل وللسياسات التي اتبعتها على مدى سبعة عقود، وأن إسرائيل سترفض بشدة الدولة المشتركة، لكنها ستكون عاجزة عن منع حدوثها.

تقول الكرمي أنه بعد 75 عاما من وجود إسرائيل وصلنا إلى نقطة اللاعودة لكلا الجانبين في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. فقد باتت إسرائيل مترسخة في الشرق الأوسط، كدولة استيطانية قوية ذات موقع إقليمي قيادي، تنعم بالمساعدات والمزايا التي يغدقها عليها العالم الغربي المتواطىء معها، والداعم لها مهما كانت الجرائم التي ترتكبها. في مقابل مقاومة فلسطينية غير متكافئة، ولا ترقى إلى المهمة الشاقة لتغيير الوضع الراهن في عالم عربي ضعيف ومفكك، تم تحييد جزء منه بالفعل بمعاهدات سلام عربية ـ إسرائيلية. بينما تستغل إسرائيل، بوصفها دولة استعمارية تحتل كامل فلسطين التاريخية،جميع مزايا امتلاك الأرض ومواردها، وبعد أن وصلت إلى هذا المركز القوي، فإنها لن تتنازل عن طيب خاطر عن أي من امتيازاتها في أي اتفاقية سلام.

وبالمثل لن يخضع الفلسطينيون أيضا أو يستسلموا بعد أن قاوموا فرض إسرائيل على بلادهم بطرق مختلفة، بدءا من حركة الفدائيين في خمسينيات القرن الماضي وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات، مرورا بالقبول التصالحي بدولة صغيرة على 22% من أراضيهم في العام 1988، وانتفاضتي 1987 و2000، وصعود حركات المقاومة الإسلامية بعد ذلك، إلى حملات المقاطعة التي انطلقت من داخل الأراضي المحتلة عام 2005، والنشاط الكثيف المتزايد للشتات الفلسطيني، كل ذلك يبقي قضية فلسطين حية وماثلة للعيان. إذن لدى الجانبان أهداف لا يمكن التوفيق بينها، ولا بد من التنازل عنها، ولو جزئيا على الأقل، لجعل إمكانية التوصل إلى اتفاق السلام ممكنة. وبحسب الكرمي فإن هذا الأمل كان حاضرا وأساسا في المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية منذ عام 1993، لكن بات من الواضح اليوم أن هذه التسوية قد باءت بالفشل.

المفارقة الساخرة

لأن إسرائيل هي الطرف الأقوى، ولا أحد مستعد لممارسة أي ضغط عليها، فإن ذلك يضيّق على الفلسطينيين ويجبرهم حتما على تقديم تنازلات وتقليص مطالبهم إلى حد قد تقبله إسرائيل، لكن هذا يعني التنازل عن أبسط حقوقهم، وهو ما لايمكنهم قبوله أيضا. تقول الكرمي أنه لو سأل الإسرائيليون عن الكيفية التي يفضلونها لإنهاء الصراع فمن شبه المؤكد أنهم سيرغبون باختفاء سحري للفلسطينيين من محيطهم. وإذا طرح على الفلسطينيين السؤال نفسه فإنهم سيرغبون بإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل إنشاء إسرائيل عندما كانت فلسطين بلدهم بلا منازع.

إن الذين اعتنقوا حل الدولتين يرفضون خيار الدولة الواحدة باعتباره نفيا لموقف متفق عليه دوليا، بعد أن حصلوا على دعم الأمم المتحدة لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، والاعتراف بدولة فلسطين من 138 دولة، وبعد قبول عضويتها في العديد من الهيئات الدولية،
وتضيف أن الأمنيتين لا يمكن تحقيقهما لأن الواقع يؤكد أن الفلسطينيين والإسرائيلين يعيشون على الأرض ذاتها ويحتاجون إلى طريقة حضارية لتقاسمها. وهذا هو المحرك الرئيس لحملات "حل الدولة الواحدة" التي ظهرت في العقدين الماضيين، لكن مهما بدا هذا الهدف أخلاقيا وعادلا فلا يمكننا تجاهل حقيقة أنه حل لا يريده أي من الطرفين.

 ومع ذلك فإنه، كما تقول الكرمي، أمر حتمي. فالمنطق يشير إلى أن مجرى الأحداث يتجه إلى تشكيل دولة ديمقراطية واحدة بدلا من دولة الفصل العنصري الحالية التي تتبناها إسرائيل، ولن يحدث ذلك فقط بسبب جهود حركات التضامن والحملات الداعية إلى الدولة الواحدة، بل من خلال مقاومة الشعب الطبيعية للقمع الشديد الذي يؤدي أخيرا إلى الإطاحة النهائية بظالميهم.

ومن المفارقات الساخرة أن عنف الإسرائيليين وقصر نظرهم وجشعهم على مر السنين، هي العوامل التي ستؤدي حتما إلى هذه النتيجة التي قد تخط نهاية الصهيونية وتنهي المشروع الإسرائيلي برمته.

في كتابها هذا تتوقف الكرمي عند المشروع الصهيوني وبداياته والدعم الذي حظي وما زال يحظى به، ليس فقط لإسرائيل، ولكن لفكرة إسرائيل، وتحلل طبيعة أيديولوجيا دولة إسرائيل والصهيونية، وتأثير قيام إسرائيل على العالم العربي الذي زرعت فيه كرها، والقبضة الإسرائيلية"المحكمة" على اليهود. وتنتقل بعد ذلك إلى سرد مبادرات الدولة الديمقراطية الواحدة في الماضي والحاضر، وتشرح كيف أن تحقيق الدولة الواحدة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يستعيد بها المواطنون الفلسطينيون حقوقهم المغتصبة.

إطار عادل

تقول الكرمي إن حل الدولتين تم الترويج له لسنوات طويلة على أنه حل للصراع، وتتساءل "لكن ما مدى إنصاف (هذا الحل) لسكان فلسطين الأصليين الذين نزح معظمهم خارجها في مخيمات أو في بلدان أجنبية، في تقسيم أراضيهم تقسيما غير متكافىء، بحيث تذهب حصة الأسد إلى الغازي المحتل؟ لماذا كان متوقعا منهم أن يقبلوا الحلول التي لا تأخذ في الحسبان حقيقة وضعهم؟" وتضيف أنه في حال ظهور حل الدولتين إلى الوجود كما هو مقترح، فإن غالبية الفلسطينيين الذين يعيشون في الشتات سيتم استبعادهم. الحلول الإسرائيلية لهذه المشكلة تتضمن تفريق بعضهم، وتهجير البعض الآخر، وتعويض الباقين.

تعلق الكرمي على ذلك بالقول إنه من الواضح أنها حلول غير ملائمة ، لا يمكن أن تتسبب إلا بمزيد من الاضطرابات والمصاعب، وتفاقم الظلم الموجود أصلا. لا يمكن لاتفاقية سلام أن تستمر في ظل هذه الظروف.  من جهة أخرى تتطلب العدالة أيضا أن تتمتع الجالية اليهودية الإسرائيلية التي تعيش الآن في ذلك (الوطن الجديد) ـ وبغض النظر عن كيفية وصولها إلى هناك- بحق مماثل في الكرامة والمساواة.

من المفارقات الساخرة أن عنف الإسرائيليين وقصر نظرهم وجشعهم على مر السنين، هي العوامل التي ستؤدي حتما إلى هذه النتيجة التي قد تخط نهاية الصهيونية وتنهي المشروع الإسرائيلي برمته.
الحل الوحيد كما تراه الكرمي الذي يمكن أن يحقق هاتين الضرورتين هو دولة واحدة في أرض غير مقيمة، حيث يمكن أن يعيش كلا الشعبين معا. يهدف حل الدولة الواحدة لمعالجة أصل المشكلة وهو وجود إسرائيل كدولة صهيونية. إذا كان فرض الصهيونية على العرب سببا في تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم، ورفض حقوقهم واستمرار حالة الصراع بين إسرائيل وجيرانها، فليس من المنطقي أن تحافظ اتفاقية السلام على الوضع الراهن. التاريخ الرئيسي في نشأة هذا الصراع لم يكن عام 1967 كما يشير مؤيدو حل الدولتين، بل يرجع إلى عام 1948.

إن احتلال إسرائيل لأراضي عام 1967 كان أحد أعراض المرض وليس سببه. وحل الدولة الواحدة يعني إنشاء كيان واحد يعيش فيه الشعبان معا من دون أي حدود وتجزئة. فأي تقسيم لدولة صغيرة مثل فلسطين هو أمر غير عملي من الناحية اللوجستية. وكل مقترحات التقسيم التي وضعت سابقا انحازت بشدة لصالح إسرائيل. لذلك فإن حل الدولة الواحدة فريد من نوعه في معالجة هذا الموضوع في إطار عادل مع جميع القضايا الأساسية الأخرى التي أدت إلى استمرار الصراع: الأراضي والموارد والمستوطنات والقدس واللاجئين، وهي أمور أساسية لا غنى عنها في أي تسوية سلمية دائمة.

خيار جذاب وسطحي

تشرح الكرمي أنه وفقا لمؤيدي حل الدولة الواحدة لن يضطر أي مستوطن إلى الانتقال، ولن يكون أي فلسطيني تحت الاحتلال، ويمكن تقاسم موارد البلاد الشحيحة من دون أن تسرق إسرائيل الأرض والمياه الفلسطينية، أو يترك الفلسطينيون لمواجهة الجوع والعطش. ستكون القدس مدينة لكلا الشعبين، وسيسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم الأصلي إن لم يكن إلى منازلهم الفعلية. سينتهي نفيهم الطويل ووجودهم البائس، ويمكن للدول التي استضافتهم أن تعفى أخيرا من العبء الذي تحملته لأكثر من سبعين عاما. بذلك لن يبقى هناك سبب للصراع بين الجانبين، ويمكن للدول العربية عندئذ أن تتكيف مع الوجود الإسرائيلي وتتقبله قبولا حقيقيا.

مع ذلك تلفت الكرمي إلى أن مجرد الإشارة إلى هذا الحل كان دائما يقابل بمجموعة من الاعتراضات، أكثرها إقناعا ودقة هو أن إسرائيل لن توافق عليه أبدا. وتقول أن غالبية الفلسطينيين يرفضون هذا الخيار، بل ويعتبرونه فكرة خطيرة لأنه سيشتت الانتباه عن النضال الملح لإنهاء الاحتلال. ويلخص عالم الاجتماع الفلسطيني سليم تمارى هذه المخاوف في تحليل "مقنع" اعتبر فيه أن خيار الدولة ثنائية القومية جذاب لكنه سطحي، لأنه تجاهل الوضع الحقيقي على الأرض، ورأى أن لا جمهور مناصر من الجانبين لمثل هذا الحل. فلن يتم التخلي بسهولة عن مؤسسات الدولة الإسرائيلية، والوعي الصهيوني، وكذلك المزايا المادية التي يتمتع بها مواطنوها من استغلال الأراضي والموارد الفلسطينية. والفلسطينيون سيقاومون المكانة المتدنية الحتمية لمجتمعهم داخل دولة صناعية متطورة على النموذج الأوروبي. ولا يمكن لأحد أن يطلب منهم التخلي عن نضالهم من أجل الاستقلال وإنهاء الاحتلال الستعماري من أجل حملهم على خوض كفاح جديد ضد مواطني إسرائيل المعادين.

عدا عن ذلك فإن الذين اعتنقوا حل الدولتين يرفضون خيار الدولة الواحدة باعتباره نفيا لموقف متفق عليه دوليا، بعد أن حصلوا على دعم الأمم المتحدة لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، والاعتراف بدولة فلسطين من 138 دولة، وبعد قبول عضويتها في العديد من الهيئات الدولية، وسوف يجادلون: لماذا التخلص من تلك المكاسب؟. تقر الكرمي بأن الكثير من هذه الاعتراضات صادق وحقيقي ولا يمكن إنكاره، لكنها ترى أن الوقائع على الأرض أيضا لا يمكن إنكارها؛ فهناك استحالة لوجستية لإقامة دولة قابلة للحياة فوق ما تبقى من أراضي عام 1967، وهناك استحالة لمحاولة إزالة المستوطنات منها. إذن سيبقى حل الدولتين بعيد المنال من دون حدوث اضطراب هائل في ميزان القوى العالمية، أو تغيير خارق من جانب الدول الغربية. وما لم يتمكن معتنقي هذا الحل من التوصل إلى طريقة فعالة لتحقيقه، فإن الاستمرار في الضغط من أجله يمكن اعتباره مضيعة للوقت وموقفا غير مسؤول.
التعليقات (0)