كتب

العرب من المجتمع التقليدي إلى الجماعات المتخيلة والمواطن الرقمي.. قراءة في كتاب

لا يمكن أن نتحدث عن مجتمعات المعرفة والجماعات المتخيلة أو مواطنيها الرقميين دون توفر شروط لوجيستية تقنية أساسا.
لا يمكن أن نتحدث عن مجتمعات المعرفة والجماعات المتخيلة أو مواطنيها الرقميين دون توفر شروط لوجيستية تقنية أساسا.
الكتاب: "فضاء التواصل الاجتماعي العربي: جماعاته المتخيلة وخطابه المعرفي"
الكاتب: حسن مظفر الرزو
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت 2016
عدد الصفحات: 240


ـ 1 ـ

لقد أصبحنا نعيش في فضاء المعلومات المتخيل أكثر مما نعيش في الأفضية المادية ممّا أسهم في تحوّل جوهري على مستوى تكوين المجتمعات وتركيبتها. فإذا بنا نتدرّج من المجتمع التقليدي نحو مجتمع المعلومات ثم من مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة. وإذا خطاطاتنا المعرفية تخضع لأكثر من تعديل. وبمقتضى هذه الإكراهات كان نعدّل في كلّ حين تصوراتنا للوجود ولطبيعة إقامتنا فيه ولنمط العلاقات التي ننشئها فيما بيننا ضمنه. ويكفي، لندرك سرعة هذه التحوّلات الكبيرة جدا أن نقارنها بنسق تحول المجتمعات قديما من العيش على الصيد إلى الزراعة ثم بنسق التحول من المجتمعات الزراعية نحو مجتمع الصناعة وما تطلب التغيّير في الحالين من أزمنة متطاولة. وليست هذه السرعة بلا تبعات. لعل أخطرها تمزّق الشعوب بين نمطين من الحياة: الحياة التقليدية ذات المفردات المادية والحياة المتخيلة التي تخترق حاجز المكان والزمان دون أن تفارق شاشة الحاسوب.

ولكن كيف انخرط العرب في هذه التحولات وكيف انتسبوا إلى مجتمعات المعلومات أو المعرفة وهو يعانون بعدُ من عسر في هضم مقولات الحداثة؟ "من أجل هذا" يقول الباحث حسن مظفر الرزو، "حاولنا في هذه الدراسة استكشاف ديمغرافية الفضاء التواصلي العربي، والتنقير في تربته من بذور المفردات المعرفية التي باشر بغرسها المستخدمون العرب، وتولوا رعايتها للوقوف على طبيعة هذه العناصر، وتتبع مسارات الخطاب العربي المعاصر في فضاء الإنترنت ومنصات تطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي، لتحديد مدى ثراء مادة هذا المحتوى الجديد".

يسعى باحث إذن إلى تبيّن طبيعة الحضور العربي في البيئة الرقمية، وإلى تتبع مسارات الخطاب العربي المعاصر في فضاء الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وإلى البحث في كيفية التعاطي مع ما توفرّه هذه الأفضية من الفرص الجديدة في مختلف المستويات.

ـ 2 ـ

يدور الأثر حول مجمل من المفاهيم الجديدة ولا نعتقد أننا سنفيد كثيرا من محموله ما لم نتمثلها وننزلها في سياقها الإيبستيمي. منها [الجماعات المتخيلة] التي يعرّفها الباحث بكونها كيانا اجتماعيا مستحدثا، تتشكل لبناتها الدنيا من تكتلات فردية، وتجمع بين أعضائها الذين ينتشرون على رقعة جغرافية مفتوحة، جملة من المبادئ والقيم والاهتمامات المشتركة تخوّل لهم تقاسم المعرفة والخبرات والاشتراك بمضامينها، أثناء حضورهم في فضاء شبكات التواصل الاجتماعي. وما يميّز هذه الجماعات تنوعها وانفتاحها على منخرطين جدد في كلّ حين. فتأخذ في النمو والتلاحم لتكتسب خاصية النسيج المجتمعاتي. وفي سياقنا العربي يجمع بين أفراد هذه الجماعات المتخيلة الاهتمام المشترك النابع من الخطاطة المعرفية العربية. فهي تظل الموجّه لمسارات استخداماتهم للفضاء الرقمي ولطبيعة المعلومات التي يبحثون عنها ولأنماط الخطاب الذي ينتجونه أو يتداولونه مع أقرانهم من المستخدمين.

رغم أنّ فضاء التواصل الاجتماعي العربي وما يتضمّن من جماعات متخيلة وخطاب معرفي معروض على قوارع الإنترنيت فإنه يظل ذلك الغامض الذي لا نعرف عنه الكثير. ولذلك مثّل هذا البحث، ذو المنزع السوسيولوجي، فرصة مهمّة للتفكير في عديد المفاهيم وإجرائها لتمثل عوالم افتراضية بتنا نلازمها أكثر من عوالمنا المادية الفعلية.
ويكتسب المرء هويته ضمن هذه الجماعات و[مواطنته الرقمية] وفق عبارة الباحث من دخوله المتكرر إلى فضاء المعلومات التي توفره بيئة الإنترنت. ولكن ليس ذلك غير خطوة أولى تستدعي التجوال في مواقعه والتواصل مع كياناته الرقمية، والتفاعل مع من يتداول من المعارف والمعلومات. فمن شأن هذه الخطوات اللاحقة أن ترسّخ هذه المواطنة الرّقمية و"المشاركة الناشطة لأفراد المجتمع الشبكاتي" وأن توطّد شبكة العلاقات وتلاحمها مع الكيان الاجتماعي الذي اختار أن ينتسب إليه.

ـ 3 ـ

ومن المفاهيم المعتمدة في هذا الأثر بكثافة مفهوم [الحوسبة الاجتماعية] وتعني تلك المعالجات الرياضية والمنطقية الخاصّة بمعطيات الواقع كما تعني التعويل على قدرة أدوات المعلومات الاتصالية لمعالجة بياناته الضخمة. وبالعودة إلى إحصائيات 2016 يبلغ عدد المواطنين الرقميين في البلاد العربية 112مليون مواطن رقمي. وتشكّل هذه الكتلة نسبة 48.3 بالمائة من عدد السكان الذي بلغ 231 مليون نسمة. ويحظى سكان الهلال الخصيب (الذين يقطنون على ضفاف دجلة والفرات والنيل) بالمرتبة الأولى، بينما تأتي بلدان شمال أفريقيا في المرتبة الثانية، ثم يرد بعدهم قطّان بلدان الخليج العربي. ولكن لا شكّ أن هذه الأرقام بحاجة إلى المراجعة والتحيين اليوم.

وتعد الخطاطات المعرفية وقواسمها المشتركة العنصر الجامع بين اهتمامات المواطنين. فوفق الدراسة التي قام بها مركز بيركمان على فضاء المدونات العربية تبيّن أن مركز الثقل الأساسي، في نصوصهم الصبغة الوطنية أولا وطرحهم للمسائل الإسلامية، والدينية عامة ثانيا. وهذا ما يجعلنا نتحدّث عن [جيل عربي رقمي] والمقصود هنا الجيل الذي ينشأ على استخدام أدوات المعلومات والاتصالات، ويحسن من منطلقه، التخاطب مع الآخر والتفاعل معه ويلتزم بالتعاليم والثوابت الدينية ضمن وعي سياسي راسخ.  فمعايشته للأحداث المهمة التي عصفت بالوطن العربي بدءًا بحرب الخليج، واحتلال العراق كانت حاسمة في تحديد ملامح شخصيته. ونتيجة لذلك كان  ناشطا، رقميا، أثناء ثورات الربيع بصورة مباشرة أو غير مباشرة وشكّل [رأس مال معتبر لشبكات التواصل الاجتماعي]. ومفهوم رأس المال الاجتماعي هنا يعني تحوّل هؤلاء المواطنين الرقميين إلى موارد داعمة للمنظومة الاقتصادية لكونها تضم مجموعة من الأصول الاجتماعية التي تمنح قيمة اقتصادية مضافة.

ـ 4 ـ

لا يمكن أن نتحدث عن مجتمعات المعرفة والجماعات المتخيلة أو مواطنيها الرقميين دون توفر شروط لوجيستية تقنية أساسا. وبناء على الإحصائيات التي ينطلق منها الباحث يقدّر  أنّ مؤشرات مجتمع المعرفة واقتصادها في البلدان العربية لم تتجاوز متوسط المستوى العولمي. وطبيعي أن تحتل بلدان الخليج العربي الصدارة بالنّظر إلى قدراتها المالية الهائلة وبنيات معلوماتها واتصالاتها التحتية المتماسكة. ففيها تترسخ قواعد مجتمع المعلومات وتُرسى اللبنات الأساسية لمجتمع المعرفة.

أما بقية البلدان العربية فتحتل مراتب متأخرة لعدم تشكيل الملامح النهائية لمجتمع المعلومات لديها. فلا يتجاوز الأمر في السودان واليمن بدايات مجتمع المعلومات لا غير . وهذا طبيعي بالنّظر إلى انعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي والأزمات الاقتصادية المتلاحقة. وعامة، ورغم القفزة النوعية على صعيد التعامل مع أدوات المعلومات والاتصالات، واستثمار تطبيقاتها لتلبية حاجاته الذاتية الاجتماعية والثقافية والسياسية، تؤكّد هذه المؤشرات مجتمعة أنّ مجتمع المعرفة لم يصبح واقعا قائما بعد في جل البلدان العربية، وأن ما تحقق فيها لا يزيد نزعات تغيب فيها الممارسة السليمة. ويردّ ذلك إلى غياب رؤية واضحة في هذه البلدان حول مستقبل مجتمع المعرفة العربي.

ـ 5 ـ

 ومع ذلك أمكن لهذا المواطن الرقمي، بحرص شخصي غالبا أن يجعل من الفضاء الرقمي مجالا لحرية التعبير يمارس من خلاله حرفة التدوين، وصناعة محتواه الشخصي. فيرسّخ حضور خطابه المعرفي على مواقع الويب. فانفتح على الأخر داخل حدود بيئته المحلية، وبث خطابه المتمرد على الواقع السياسي، والاجتماعي. وانطلاقا من تحليل ديمغرافية الجماعات المتخيلة التي تقيم في فضاء التواصل العربي وهويتها وانطلاقا من ومراجعته لمادة خطابها المطروح في القضاء الاجتماعي الجديد يثمّن الباحث حسن مظفر الرزو الحصيلة المعرفية للمستخدمين العرب. ويقدّر أنها "بدأت بالنفع التدريجي لتشكل بيئة خصبة لدعم عملية إنتاج مادة معرفية يمكن أن تتعاون جميعاً على إحداثها".

ولكن لضمان نجاعة أكبر لا بد أن تنشأ علاقات تعاونية بين مختلف الكيانات العربية في الفضاء الرقمي. فتتقاسم موارد من ثقافتها لضمان استدامة حضورها المحلي والعولمي ولتشكيل بيئة معرفية عربية، قادرة على توظيف المحتوى المطروح في مواقع الويب والمدونات الرقمية. ولا بدّ أن تتحوّل خطاطتها من مبدأ نشر المعلومات واستعراضها، وهي مرحلة مهمّة بما أنها تمنح المستخدم فرصة قراءة المضامين المطروحة، إلى المشاركة في عملية إنتاج المادة المعرفية، أو مناقشة المحتوى وإعادة تشكيل مادته.

فالفضاء الرقمي وجماعاته المتخيّلة يتسم بكسر قيود المركزية، وبمعماريته المفتوحة. وهو بذلك يوفّر للمواطن الرقمي العربي فرصة حقيقية لاستثمار حضوره المتنامي في البيئة الرقمية لتشكيل بيئة معرفية عربية، قادرة منح جميع أعضاء المجتمع العربي الرقمي فرصة الإسهام في تشكيل الأطر المتعددة للخطابات المطروحة وإيقاظ الحس المعرفي السليم حتى يتجاوز خطط التنمية المتراجعة، التي فرضت على العرب والتخلف الثقافي الذي أبعدهم عن ركب التطور الذي تنعم به بلدان الجوار.

ـ 6 ـ

رغم أنّ فضاء التواصل الاجتماعي العربي وما يتضمّن من جماعات متخيلة وخطاب معرفي معروض على قوارع الإنترنيت  فإنه يظل ذلك الغامض الذي لا نعرف عنه الكثير. ولذلك مثّل هذا البحث، ذو المنزع السوسيولوجي، فرصة مهمّة للتفكير في عديد المفاهيم وإجرائها لتمثل عوالم افتراضية بتنا نلازمها أكثر من عوالمنا المادية الفعلية.

ومن الإضافات المهمّة تنبيه القارئ إلى أنّ المواطنة الرقمية والجماعة المتخيلة لا تصنّف على أساس عرقي قبلي أو مناطقي وإنما وفق الوسائط الافتراضية المشكلة لها أو طبيعة الأفضية الرقمية التي يسكنها. فإذا نحن أمام [مُواطن رقمي لأفضية التواصل والتفاعل الاجتماعي] يختلف عن [مُواطن أفضية التواصل المدون] أو [التواصل المغرد] أو [جماعات التواصل المرئي]. فيختلف المحتوى المعرفي الذي يقدّمه باختلاف انتمائه هذا. ومن هنا مأتى أهمية الكتاب ووجه إضافته.

لقد بدا الكاتب منبهرا بما يقدّمه فضاء التواصل الاجتماعي للثقافة العربية. ولا نملك إلاّ أن نتقاسم هذا الانبهار معه. فقد أسهم في كسر المركزية المقيتة التي نعاني منها ويسّر تداول المعلومة، خاصة بالنسبة إلى عالمنا العربي الذي تكبله عوائقه المادية وممارساته البيروقراطية وتغلب عليه المحسوبية التي تحتكر المواقع وتمنع الآخر من الوصول إلى المعلومة لتستأثر بها وبما ينجم عنها من المنافع.

ولكنّ هذا الانبهار والتقييم الإيجابي ينزعان كثيرا نحو المبالغة. فالاحتفاء بإسهام العرب الفاعل في هذا الفضاء الرقمي تم بناء على إحصائيات تصنف المحتويات بحسب مواضيعها (المواضيع الوطنية أو الثقافية أو الدينية) ولكن الأهم هو ما يذكر في هذه العناوين الكبرى. والخطورة كما نعلم، تكمن في التفاصيل والدقائق لا في العناوين الكبرى. وهذا ما لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التعاطي معها وما لم تشمله عمليات المسح التي يعتمدها الباحث ويبني عليها استنتاجاته، لأن تقييمها لا يتم باعتماد الخوارزميات وإنما من منطلق الانتماء الثقافي والإيديولوجي الذي يختلف بين مقيّم وآخر.

ـ 7 ـ

مما غفل عنه الكتاب، ربّما لأنه تدعّم خاصة بعد نشره، من باتوا يعرفون بالمؤثرين الاجتماعيين. وهم صنف من المواطنين الرقميين ولا شك. فقد حصل إجماع اليوم على نشر اغلبهم لما بات يعرف بثقافة التفاهة بالنّظر إلى ارتباطاتهم بمؤسسات اقتصادية أو منظمات سياسية وثقافية تعوّل عليهم في تنفيذ أجنداتها لصناعة رأي عام خانع أو قابل لمقولاتها على الأقل. لذلك فقد أضحت هذه الجماعات المتخيلة باعثة للإشاعات والزيف والفتن والترويج لخطاب الكراهية واستدراج الشباب للعنف والإرهاب. وانطلاقا من عملها أصبحت هذه المؤسسات تدفع بمن تريد إلى سدّة الحكم أو تحبك المؤامرات لتقويض حكم من لا يمشي في ركابها. ولنا في الجدل حول دور المخابرات الروسية في دعم رؤساء غربيين موالين لها للوصول إلى الحكم خير مثال.

لهذه الأسباب جميعا لا يمكن أن نشارك صاحب الكتاب حماسته مشاركة كاملة، وإن كنّا نتفق معه على ضرورة دراسة خصائص هذه الجماعات المتخيّلة وأنماط تفكيرها ووجوه تأثيرها.
التعليقات (0)