كتب

البربر.. الهوية التي وقفت في وجه التّاريخ

اليوم يوجد البربر في أكثر من اثني عشر بلدا، من غرب مصر إلى أقصى الشمال الأفريقي ومن البحر الأبيض المتوسط إلى جنوب النيجر
اليوم يوجد البربر في أكثر من اثني عشر بلدا، من غرب مصر إلى أقصى الشمال الأفريقي ومن البحر الأبيض المتوسط إلى جنوب النيجر
الكتاب: البربر: ذاكرة وهوية
الكاتب: غابرييل كامب، ترجمة عبد الرحيم حزل
الناشر: أفريقيا الشرق، الدار البيضاء 2014.
عدد الصفحات: 481 صفحة

1

خصّص الأكاديمي الفرنسي غابرييل كامب مشروعه العلمي بأسره تقريبا لدراسة تاريخ البربر، ناقدا ما ظهر من فرضيات حول أصولهم وثقافتهم، عارضا تصوّراته الخاصّة التي لم تخل من جرأة ووجاهة. وبدأت رحلته العلمية هذه بأطروحة الدكتوراه الرئيسية، التي جعلها بعنوان "أصول بلاد البربر: معالم وطقوس مقابرية من الحقبة قبيل التاريخية" سنة 1961 ووردت في 628 صفحة. وأردفها سنة 1962 بالأطروحة التكميلية التي عنونها  بـ"أصول بلاد البربر: ماسينيسا، أو بدايات التاريخ" وجاءت في 320 صفحة. ثمّ أطلق، مع فريق علمي يشرف عليه، الموسوعة البربرية سنة 1970، ذلك المشروع العلمي الذي ارتبط به وأخلص إليه حتى مماته.

من الأساطير الشائعة حول أصول البربر التي يناقشها الأثر، نسبتهم إلى الطرواديين من قبل هيرودوت، وقول بروكوبيوس بأصلهم الكنعاني، وقول سترابون بأنّ البربر هنود، وقول بطليموس بكونهم من الموسينيين.
وفضلا عن أهمية النتائج التي انتهى إليها، ارتبط مجد الرّجل العلمي بأهمية الموضوع الذي سخّر له حياته. فـ"البربر" من أقدم الشّعوب التي عمّرت منذ الأزمنة القديمة. فكان تاريخها تاريخ مواجهة تقلبات التّاريخ من غزو ومحاولات احتواء وعمل على تذويبها في هويات الحضارات التي تعاقبت على شمال أفريقيا، وعلى طمس هويتها الخاصّة. واليوم يوجد البربر في أكثر من اثني عشر بلدا، من غرب مصر إلى أقصى الشمال الأفريقي، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى جنوب النيجر، وإن شكّل الناطقون بالبربرية أقلية في مجتمعاتهم، فهم يمثّلون نحو ربع الجزائريين وأقل من نصف المغاربة بقليل مثلا. وشاعت أساطير كثيرة حول أصولهم ورُدّوا إلى هويات كثيرة، واختلفت تسمياتهم عبر التاريخ وفي المصادر، فأُشير إليهم بالليبو والتمحو والماكسيس والمازيس والجيتول والنوميديين. ولكنهم اشتهروا بتسمية البربر فيما يفضلون هم تسمية الأمازيغ.

2

من الذين تحدّثوا عن أصول البربر، سالستوس في روايته "يوغرطة". فأشار إلى أنّ سكان أفريقيا الأوائل هم الجيتول واللّيبيون. وانضمّ بعض الميديين والأرمن والفرس في وقت لاحق بقيادة هرقليس إلى إسبانيا ثم جازوها إلى أفريقيا. وعاش الجيتول والفرس حياة الترحال فسموا بالرّحل Nomades. ولمّا تعاظمت قوتهم وسيطروا على سائر البلاد، أصبحوا يعرفون بالنوميديين Numides . ويجرّح الباحث غابرييل كامب في هذه الرواية لأسباب منطقية يتبسّط كتاب "البربر: ذاكرة وهوية" في عرضها، ولكنه لا يردّها كلّها. ويقدّر أنّ سكان شمال أفريقيا كانوا من الجيتول وكانوا رحلا، وأن اللوبيين (أو الليبيين) هم أسلاف السكان المقيمين.

ومن الأساطير الشائعة حول أصول البربر التي يناقشها الأثر، نسبتهم إلى الطرواديين من قبل هيرودوت، وقول بروكوبيوس بأصلهم الكنعاني، وقول سترابون بأنّ البربر هنود، وقول بطليموس بكونهم من الموسينيين. ويجد أنّ المؤرخين العرب لم يشذوا عمّا يقرب من هذا التّصوّر. فابن خلدون يردّهم إلى كنعان بن نوح، ويستثني منهم قبيلتي صنهاجة وكتامة، فيردّهما إلى أصول يمنية. ومثله يعود بهم كل من البكري والمسعودي إلى جدّ أكبر،  تفرعوا منه إلى باقي أنحاء المعمورة، بما يعكس تأثير الفكر الأبوي. وبعد بسط مختلف التصوّرات عمل على تجريحها وتفنيدها.

وشمل هذا البعد الأسطوري المحدثين أيضا. ورغم اعتمادهم على ما ورد في دراسات فقه اللغة من تشابه في بعض كلماتهم مع كلمات من لغات أخرى، لمنح مقولاتهم بعدا علميّا، لم تتفق دراساتهم في النتائج. فبناء عليها ردّوهم  إلى أصول كنعانية أو هندية أو إغريقية. وبذلك لم تختلف هذه المباحث في مضمونها أو في تباعدها عمّا ساد من الأطروحات القديمة، أو ما وُجد من الحفريات الأثرية؛ ذلك أن بعضهم استنتج من ووجود الدلمنات والأنصاب التي في الجزائر مثلا، انتماءَهم إلى السلتيين وإلى أصول فرنسية بالنتيجة. والدلمن  le dolmen هو نوع من الغرف المديدة، قوامها حجر كبير مسطح موضوع فوق عدد من الحجارة المنصوبة، وتحتوي الدلمنات المركبة منها على غرف عديدة تنفتح على رواق مشترك.

3

تشترك هذه الأطروحات جميعا في الاعتقاد بهجرة البربر من أصقاع بعيدة وقدومهم إلى شمال أفريقيا إذن. ولا تختلف إلا في تحديد نقطة الانطلاق. فتوزعت بين الهند والفرس والعرب والإغريق وأوروبا. ولكن كامب يقلب المصادر كليّا؛ فمن جهة أصل تسميتم بالبربر، يعارض الأطروحة التي ترده إلى الصفة اللاتينية بارباروس، والتي تعني "الأجنبي عن الثّقافة الكلاسيكسة"، ويؤكّد أنّ اسمهم الحقيقي هو الأمازيغ. وقد ظهر في آثار المؤرخين القدماء، وإن بتحرفات مثل "المازيس" أو "المشوش"، ويرجّح أنه اسم عرقي على خلاف قول البعض بأن عبارة "أمازيغي" تعني في اللغة الأمازيغية الرجل الحر. ويذهب إلى الفرضية التي لم يذهب إليها أحد قبله على بساطتها، فيتساءل: ماذا لو لم يأت البربر من أي مكان آخر؟ يعني لماذا لا نرجّح أن ترجع أصولهم إلى شمال أفريقيا بالذّات؟ والإجابة تقتضي أن ينظر المؤرخ فيما ما تركوا من الآثار والمخلفات بدل أن يستسلم إلى التصوّرات المتضاربة التي يقبل جميعها التجريح.

انطلاقا من فرضيته هذه، يعود إلى العصر الحجري (30000 سنة قبل الميلاد) للبحث في أصولهم، تلك المرحلة من التّاريخ التي ظهر فيها الإنسان العاقل، وقرينه في شمال أفريقيا يسمّى بالإنسان المشتائي العربي، فيقدّر بعد أن حاول الإحاطة بخصائصه وتحوّلاته، تشكّل المجتمعات البربرية من  تقاطع بين الأصل المشتائي والمكوّن المتوسّطي المتمثّل في القفصيين أو القبصيين.

والقبصيون هم مؤسسو الحضارة القبصية التي امتدت نحو 7000 قبل الميلاد على جزء من الوسط الغربي بالبلاد التّونسيّة اليوم (القصرين، قفصة)، ونظيرها بالشرق الجزائري (بما في ذلك تبسّة) وعاصمتها قبصة أو قفصة. فخصائصهم الإنسية تقرّبهم من بربر اليوم. ولكنه يعود بالقبصيين أنفسهم إلى المشرق. ورغم أنّهم كانوا قد واجهوا العديد من الحضارات الغازية التي حاولت أن تطمس وجودهم، نجحوا في مواجهتها وفي الحفاظ على هويتهم. وعبر مضيقي جبل طارق وصقلية، أمكن لهم أن يكوّنوا جسرا يصل إلى أفريقيا بأوروبا. ويجد في مخلفاتهم ما يؤكد هذه الصلة بين الضفتين.

4

لدعم أطروحته يبحث غابريال كامب في الحقبة القريبة من التّاريخية، ويدرس الآثار التي خلّفها أوائل البرابرة؛ منها مقابرهم ومدافنهم المتمثّلة في البازينات المحلية والدمنات الوافدة من الخارج. ويجد في فخاريتها وحليّها ما يتّفق منها مع ما لا يزال قائما إلى اليوم، ويستنتج الأمر نفسه في تماثل مناطق زراعة بين الأمس واليوم. وهذا ما يدفعه إلى أن يستنتج أن من عاشوا بشمال أفريقيا كانوا من السّكان المقيمين أو الأصليين. ولكن ما خصائص بلاد البربر الإقليمية إذن؟

يتفق كامب مع الدّارسين في أنها لم تمثّل كيانا واحدا، ولذلك يشير إلى شعوب أو مجتمعات بصيغة الجمع. ويفسّر ذلك بتأثير العوامل الجغرافية التي حالت دون تواصلهم من جهة وبالعوامل الثقافية من جهة ثانية. فالبرابرة لم يشكلوا عرقا واحدا ولم تشهد بلاد البربر على مر تاريخها وحدة سياسية. أضف إلى ذلك، افتقاد الشمال الأفريقي إلى ما يمكن أن يعدّ مركز جذب بالنسبة إلى بقية الأقاليم، فهي تتشكل من:

ـ شرق البربر، تلك البوابة التي انفتحت على حضارات الشرق وتعرف مقابرها بالحوانيت.
ـ الغرب القريب من شبه الجزيرة الإيبيرية، وتتمثل مقابرها في جثوات كبيرة؛ والجثوة هي عبارة عن ركام من الأحجار يشكّل مخروطا يرتفع فوق الصندوق الجنائزي.
ـ الإقليم شبه الصحراوي الذي يفتر فيه المؤثر  لمتوسطي وينفتح على المؤثر الأفريقي.
ـ في وسط البلاد تلتقي مؤثرات الجنوب والشمال المتوسطي ضمن ما يعرف بالبازينات، وهي جثوات متطورة تُكسى خارجيا بأشكال هندسية متنوعة وتبنى بإحكام.

5

في دراسته للحقبة التّاريخية، يتوقّف خاصّة عند المرحلة الموريتانية في القرن الرابع قبل الميلاد، لمّا بلغ البربر أوجهم. فقد شهدت المغرب قيام اتحاد للقبائل البربرية. فامتدت المملكة المورية (أو الموريناتية) من المحيط الأطلسي إلى وادي ملوية، الذي يفصل بين إقليمي الناظور وبَركان في المغرب اليوم. وامتدت المملكة الماسيلية بين وادي أمساكا وإقليم قرطاج، فيما شكّل كل من ملوية وأماسكا حدود المملكة الماسيسيلية، واتحدت المملكتان في القرن الثالث قبل الميلاد تحت راية المملكة النوميدية  بقيادة القائد ماسينيسا حليف روما (238   ق. م - 148 ق. م). وفي القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت روما حربها ضد يوغرطة ملك نوميديا (160 ق.م – 104 ق.م)، وسيطرت على قسم مهم من المغرب الكبير. وعرفت موريتانيا لاحقا ازدهارا في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول ميلادي، حتى قام الإمبراطور كلود بسحقها وتقسيمها إلى مورتانيا القيصرية في القسم الغربي (الجزائر حاليا)، ومورتانيا الطنجنية (المغرب حاليا).

6

جعل الباحث علاقة البربر ومن اتصل بهم من الحضارات والأقوام موضوع تأمل؛ دارسا ما حدث بينهم من الاختلاط والتّثاقف أو الصراع.  وعلى خلاف ما يرى عامّة المؤرخين، انتهى إلى أنّ الاتصال بين البربر والبونيقيين كان عميقا، فقد دان البرابرة بديانة البونيقيين وتكلموا لغتهم، وقدّر أن المثاقفة بين الحضارتين كانت متشعبة ولا تزال اليوم تفاصيلها مجهولة، وخالف ما ذهب إليه المؤرخون بشأن علاقتهم بالرومان أيضا؛ فقد دأبوا على انتقاص قيمتها.

أما غابيريل كامب، فيشير إلى أنها لم تكن فترة استعمارية بالمعنى الصريح، فمثّل الرومان المجتمع المنفتح الذي احتضن البربر رغم الحروب الكثيرة، وخوّل لهم ذلك الارتقاءَ الاجتماعي والسياسي، ولكن تعذّر عليه أن يحتوي البرابرة أو أن ينتزعهم من هويتهم ليذوّبهم في حضارته لامتداد الإقليم وصعوبة التّضاريس، فضلا عن أسباب اجتماعية قصرت الانخراط في حركة الرومنة على النّخب فحسب، رغم اعتناقهم الواسع للديانة المسيحية.

على خلاف ما يرى عامّة المؤرخين، انتهى إلى أنّ الاتصال بين البربر والبونيقيين كان عميقا؛ فقد دان البرابرة بديانة البونيقيين، وتكلموا لغتهم. وقدّر أن المثاقفة بين الحضارتين كانت متشعبة، ولا تزال اليوم تفاصيلها مجهولة. وخالف ما ذهب إليه المؤرخون بشأن علاقتهم بالرومان أيضا؛ فقد دأبوا على انتقاص قيمتها.
ومثّل القرن الخامس ميلادي عهد سيطرة الونداليين على نوميديا، فاتخذوا من قرطاج عاصمة لهم، ولكن العهد البيزنطي اللاّحق به، مثّل مرحلة عودة التقاليد البربرية بعد أن كادت تطمس في العهد الروماني. ولم تحدث المفارقة إلا في القرن السابع ميلادي؛ فقد ترك البرابرة الوثنية أو المسيحية وانقلبوا إلى الإسلام، رغم بعدهم عن مركز الخلافة، واتخذ العديد منهم العربية لغة. ويُرجع الباحث هذا الانقلاب الكبير إلى أسباب موضوعية، تتعلق بالبيزنطيين وبالأوضاع في أفريقيا عامة.

7

ويخصّص بقية الأثر إلى عرض مظاهر من الحياة الحضرية البربرية، فيشير إلى وجوه من التنظيم الإداري والتّشكيل الاجتماعي والتنظيم القبلي والعلاقات بين القبائل. ويتبسّط في وصف وضعية المرأة ويدرس  المعمار والأواني والمصْوغ. ويختتم أثره بجرد لأهم الأحداث والحضارات والتواريخ في شمال أفريقيا. ويلخّص محتوى الكتاب في صفحاته الأخيرة في شكل تعاقب المراحل الحضارية كرونولوجيا، ويجعله بعنوان "الترتيب الزّمني لوجود البربر من الأصول إلى القرن السادس عشر"، فيبدؤه بـ 10000 ق. م: "بداية الحضارة الإيبيرية المورية: إنسان مشتى العربي يحتل الشمال الأفريقي كلّه"، وينهيه بسنة 1514 تاريخ  الدخول التركي إلى شمال أفريقيا عبر  مدينة جيجل، ثم الانتشار في الجزائر وتونس وطرابلس. فيختزل سهم الزّمن الممتدّ اختزالا يطوي العديد من مراحل حياة البربر وتاريخهم وحضارتهم، مخلّفا فراغات تؤكّد أنّ المبحث لا يزال يتكتّم على كامل أسراره، وأنّ الوثيقة المادية تعوز أغلب المؤرّخين، فيلجؤون إلى الفرضيات التي قد تخدع وإن بدت مقارباتها منسجمة.
التعليقات (0)