كتب

الفلسفة كمحرك لروح النقد والتعددية.. ما هو الموقف من الدين؟

هل يحتاج الدين إلى الفلسفة؟ وما معنى التفسير الفلسفي لرواية دينية؟ (تويتر)
الكتاب: "دعوة إلى العقلانية.. حوار الفلاسفة المسلمين مع التراث الغربي"
المؤلف: سليمان بشير ديان
المترجم: طلعت فاروق محمد
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020


يشرح أستاذ الفلسفة السنغالي في جامعة كولومبيا في نيويورك سليمان بشير ديان في مقدمة كتابه كيف تعامل على مدى عقود مع تاريخ الفلسفة الإسلامية بشكل "انتقائي"، عبر تسليط الضوء على تساؤلات بعينها إلى جانب استعراض الكتابات التي تساعد على بحث هذه التساؤلات.

ومن أمثلة هذه التساؤلات المطروحة: كيف وقع اللقاء بين الإسلام والفلسفة؟ وهل يحتاج الدين إلى الفلسفة؟ وما معنى التفسير الفلسفي لرواية دينية؟ وهل يمكن للدين أن يتوافق مع العقلانية الفلسفية؟ وهل هناك ما يسمى بالدولة"الإسلامية" أو هل المسلمون أحرار في استحداث النظم السياسية التي تتوافق مع متطلبات أزمانهم؟

وهي تساؤلات لا تتعرض لتاريخ الفلسفة فقط، ولكنها على تماس مع قضايا وقتنا الحاضر أيضا، وتلتقي مع أهداف فصول الكتاب التي تتمحور حول الإسهام في إعادة بناء روح نقدية، روح من الحراك والتعددية في عالم اليوم، كما تجلت في التراث الفكري والروحي للإسلام. مضيفا أن هذه المسائل تجري دراستها من خلال قراءة نصوص مأثورة عن فلاسفة مسلمين، عاشوا خلال عصور نهضة الحضارة الإسلامية، بدءا من القرن التاسع وحتى القرن الثاني عشر الميلادي، إلى جانب فلاسفة العصر الحديث الذي يشمل القرنين التاسع عشر والعشرين.

المتكلمون الأوائل

يقول ديان إن الإطروحات الفلسفية المختلفة في الرد على تساؤلات حول قضايا مثل القضاء والقدر، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، والعلاقة بين الصفات والذات الإلهية، وهل القرآن مخلوق أم غير مخلوق، أنتجت مدارس فكرية فلسفية متعددة ومتنوعة، بسبب تعدد الإجابات التي وصل إليها العقل الفلسفي، وهو يحاول فهم كلام الله، فكان أن ظهر "علم الكلام" الذي يختص بالنظر العقلي والفلسفي في مثل هذه المسائل. وهو علم مستقل بذاته عن باقي العلوم الدينية التي ارتبطت بالرسالة القرآنية بصورة وثيقة، مثل علم التفسير، وعلم الفقه.

لكن علم الكلام لم يحظ إلا بموقع هامشي على حدود العلوم الدينية، ربما بسبب اختلاف الآراء فيه. فالبعض يرى أهميته لأنه يقوم بمهمة الدفاع عن العقائد الإيمانية، فهو بحسب ابن خلدون يتولى هذه المهمة بالأدلة العقلية، ويرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. لكن البعض الآخر يرى أن علم الكلام، لكون بحثه للمسائل الدينية ينطوي على قياس للشرع بميزان العقل، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى بدع تتمثل في إعمال العقل في الحكم، قد يؤدي إلى مخالفة منهج السلف الصالح.

المتكلمون الأوائل أو كما أطلق عليهم"المعتزلة" كانوا يسمون أنفسهم "أهل العدل والتوحيد"، ويعنون بذلك التوحيد المطلق للألوهية الذي لا يناقضه تعدد الصفات، وعدل الله الذي ينطبق فقط على العبد الحر المختار في فعله. يقول ديان لفترة طويلة ارتبط الاضطهاد وخطر الوقوع في الكفر بالفلسفة العقلانية المعتزلية، سيما بعدما استخدمت "العقلانية" الترهيب ضد خصومها الفكريين، حين فرض العباسيون مذهب المعتزلة على أنه المذهب الرسمي للخلافة وما تبع ذلك مما عرف في التاريخ ب"محنة الإمام أحمد ابن حنبل"، الذي أصبح رمزا لقدرة النفس البشرية على مقاومة الدوغماتية القمعية. لكن الرد على مذهب المعتزلة والمغالاة فيه جاء من رحم "الاعتزال" نفسه، متمثلا بالمذهب الأشعري، نسبة إلى أبي الحسن الأشعري.

ذا كانت الفلسفة في أحد تعريفاتها هي النظر في الموجودات ، فهذا أبلغ دليل على أن دراسة الفلسفة في نهاية المطاف واجب شرعي. ويرى ابن رشد أنه إذا كان من الواجب على الفقهاء معرفة القياسات الفقهية، فكذلك على من يسعى إلى معرفة الله ومعرفة خلقه أن يعرف طبيعة القياس العقلي، بل هو أولى بذلك.
ويتابع أن الأشعرية ثورة روحية في المقام الأول، ثم هي ثورة فكرية تتمرد على تصور الإله في صورة عقلانية محضة، مجردة جوهريا، ولا تدرك في نقائها وسموها. فالأشعريون يثبتون لله ذاتا وصفات يمكن أن ندعوه بها. والله عند الأشاعرة يمكن التوجه إليه بالدعاء في الأمور كلها، كبيرها وصغيرها، والله يغفر لمن يتوب ويمحو ذنوبه كلها، وليس لأحد أن يسأل "كيف"؟. وليس هذا تغييبا للعقل والمنطق، فالمتكلمون الأشاعرة، على العكس من ذلك، يريدون أن يكون العقل دليلا في الطريق. إن مذهبي المعتزلة والأشاعرة على الرغم من الاختلافات بينهما يمثلان منهجين أو مخيالين يتنافسان باستمرار، بصورة تتجدد دائما في الفكر الإسلامي، لكننا يمكن أن نرى فيهما مخيالا مشتركا يمكن أن نسميه الطابع الفلسفي، مع جرأة في الفكر عند المعتزلة، يقابلها عند الأشاعرة عناية أكبر بتماسك المجتمع من خلال عدم تعريضه للشطحات الفكرية التي قد تؤدي إلى انفصال بين النخب وعموم الناس، وإلى انقسام بين النخب نفسها.

عن مناهضة الفلسفة

يتوقف ديان عند الأشعري أبو حامد الغزالي الذي كان وراء"أشد الإدانات" للفلاسفة ولمنهجهم، ويقول إن الغزالي لم يشن هجومه على الفلاسفة من خارج علومهم، فلم يتحدث من موقعه كمتكلم وكصوفي، بل عمل من داخل علم المحاججة الفلسفي ليبين أن مصير هذا العلم هو هدم ذاته بذاته. وقد اتخذ هجومه على الفلسفة صورتين؛ الأولى مباشرة إذ يحكم، باعتباره أشعريا، على العقلانية  بالتطرف حين تنكر أن الأجساد تحشر، وأن علم الله يتعلق بالجزئيات.

والصورة الثانية تتمثل في إشارته إلى عدم كفاية العقل ذاته، فلا يمكن للعقل أن يكون حاكما على نفسه، فتسليم الزمام لقوى العقل يقود إلى الحيرة، لذا فنحن مدعوون إلى الإلتفات عن استدلالات الفلاسفة العقلية لتهيئة القلب لنفحات الفيض الإلهي. والقلب هنا هو الملكة الفوقية أو الحاكم. لكن ابن رشد يشير لاحقا إلى أن الغزالي أقرب إلى الفلاسفة ومقولاتهم مما يقر به هو. وهو(ابن رشد) مع ذلك يتفق مع الذين يخشون من الفلسفة، ويرون أنه لا يحسن الحديث بلغة الروح البرهانية إلى "الجمهور"، فذلك يحدث اضطرابا بينهم، ويثير ارتباكا وانقساما في فكرهم. ولذلك أعجب ابن رشد بمقولة علي ابن أبي طالب حين قال" حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟". لكن من جهة أخرى يرى ابن رشد في تفسير الآية "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم" أن الراسخين في العلم هم الفلاسفة، ولا أحد سواهم.

لقد رد ابن رشد على هجوم الغزالي على الفلسفة باسم الدين بتأكيده أن هناك توافقا بين الفلسفة والدين(الشريعة) وكتب مقالة فلسفية لبيان هذا التوافق سماها "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" يعلن فيها بلا تردد أن دراسة الفلسفة في ذاتها فريضة شرعية. ولأن ابن رشد كان فقيها فقد بدأ مقالته باستدعاء الأحكام الشرعية التي تنطبق على أفعال البشر وهي الحرمة، والوجوب، والكراهة، والندب، وأخيرا الإباحة. ثم استشهد بآيات من القرآن تتفق مع تأكيد الفكرة التي جاءت في القرآن وهي أن النظر والتفكر فيما خلق الله من شيء يؤدي إلى معرفة خالق كل شيء، وهذه المعرفة ينطبق عليها حكم الوجوب.

وإذا كانت الفلسفة في أحد تعريفاتها هي النظر في الموجودات ، فهذا أبلغ دليل على أن دراسة الفلسفة في نهاية المطاف واجب شرعي. ويرى ابن رشد أنه إذا كان من الواجب على الفقهاء معرفة القياسات الفقهية، فكذلك على من يسعى إلى معرفة الله ومعرفة خلقه أن يعرف طبيعة القياس العقلي، بل هو أولى بذلك.

يتساءل ديان: ماهي الميزة البالغة التي يملكها من يدعون بأنهم راسخون في العلم؟ هل كلام الله هو،عمليا، مقالة فلسفية لا يملك مفاتيح معرفتها سواهم؟ ويجيب بإن البرهان العقلي لا فضل له ولا مزية على الطرق الأخرى التي تنكشف بها كلمة الله للعقل البشري، فخصوصية كتاب الله وإعجازه ينبعان من طريقة خطابه لكل روح بلغتها الخاصة، ومن ثم يمكن أن يمثل كل شيء لكل الناس، فهو يقدم الحقائق المعقولة مباشرة، ويلبسها أيضا صورا مجازية، وهو برهاني، وهو في الوقت ذاته جدلي وخطابي. ويتابع أنه نظرا إلى أن دور "الراسخين في العلم" هو التوفيق عن طريق التأويل بين منطوق النص ومقتضى العقل، حتى عندما لا يكون هناك تعارض واضح عند غيرهم ممن لا يملكون العقلية البرهانية، فمن الممكن بحسب ابن رشد فهم كيف ولماذا قال الغزالي إن الفلاسفة يقولون بخلاف ما تقوله الشريعة. فأصل المسألة بالنسبة إليه، هو ببساطة أن المتكلم الغزالي كان يريد الحديث إلى الجميع باسم الجميع، من دون اهتمام بحق الفيلسوف في التأويل، والذي كان المتكلم على علم به، أي الحق في قراءة النص وإدراكه بطريقة لا تمثل مجرد تكرار حرفي له، من دون أن تتعارض معه.

لقد رد ابن رشد على هجوم الغزالي على الفلسفة باسم الدين بتأكيده أن هناك توافقا بين الفلسفة والدين(الشريعة) وكتب مقالة فلسفية لبيان هذا التوافق سماها "فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" يعلن فيها بلا تردد أن دراسة الفلسفة في ذاتها فريضة شرعية.
في كتابه يستعرض ديان بإيجاز تاريخ التراث الفلسفي في العالم الإسلامي، كما يستحضر شخصية النحوي والمتكلم أبي سعيد السيرافي، الذي وقعت بينه وبين الفيلسوف والمنطقي أبي بشر متى بن يونس مناظرة فكرية شهيرة عام 922، دارت حول عالمية المنطق الأرسطي، وكانت هذه المناظرة حاضرة في المراحل المختلفة لتاريخ الفلسفة الإسلامية، يجري استدعاؤها وإحياء الجدل حول موضوعها. وفي فصول مختلفة من الكتاب يتوقف ديان عند عدد من الشخصيات المهمة مثل الفيلسوف ابن سينا من خلال نص منسب إليه يقدم ترجمة منهجية إلأى لغة الفلسفة لقصة المعراج،حيث يعد هذا النص مثالا نموذجيا لكيفية قراءة الفيلسوف لنص ديني.

أيضا يتوقف عند شخصية الفيلسوف الأندلسي أبي بكر بن طفيل، مؤلف رواية حي بن يقظان، والتي يمكن قراءتها ، بحسب ديان، كدرس في الفلسفة البيئية، فهي تثبت كيف أن الإنسان حين يدرك ماهيته وما ينبغي أن يكون عليه، يمكن أن يعي مسؤوليته كخليفة في الأرض قيم عليها وضامن لسلامتها وليس كسيد ومالك. كما يجري استعراض شخصيات فلاسفة إصلاحيين، ومسائل أسهموا في دراستها، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده حيث أصرا على حاجة نظم التعليم في المجتمعات المسلمة إلى عملية إصلاح عميق، كطريق وحيدة للخروج من حالة الجمود عن طريق السماح بتدريس الفلسفة التي هي، لا التكنولوجيا، الروح الحقيقية للحداثة.

ويخصص ديان فصلا من كتابه لكل من الهندي أمير علي والمصري علي عبدالرازق مركزا على دعوتهما المجتمعات الإسلامية إلى القيام بدورها في فهم وتبني قاعدة أن كل عصر بحاجة إلى استجابات جديدة وملائمة وخلاقة لما يستجد فيها من وقائع، وإلى التخلي عن "الاحترام الزائف" للماضي، وينهي كتابه بالوقوف عند شخصية محمد إقبال الذي كان يرى أن الحياة هي حالة من التجدد المستمر، لذا لا يمكن أن يكون الدين في تنافر عقدي مع الزمن أو المستقبل.