كتب

العلاقة بين الإسلام والسياسة.. تنظيمية أم تكاملية أم متداخلة؟

تعددت آراء العلماء المسلمين حول طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة في العصر الوسيط، وذلك بناءً على تعدد أنواع الكتابة في الفكر السياسي الإسلامي.
الكتاب: "الإسلام والسياسة في العصر الوسيط"
المؤلف: مكرم عبّاس
الناشر: مركز النهوض للدراسات والنشر
ترجمة: محمد الحاج سالم
سنة النشر: 2020
عدد الصفحات: 208

تعددت آراء العلماء المسلمين حول طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة في العصر الوسيط، وذلك بناءً على تعدد أنواع الكتابة في الفكر السياسي الإسلامي. وكان السؤال المركزي حول المسألة يدور حول طبيعة الترابط بينهما (أي الإسلام والسياسية) وهل العلاقة بينهما تنظيمية أم تكاملية أم متداخلة؟ ولفهم هذا الاختلاف بشكل أدق وجب البحث في المساهمات الإسلامية في العصر الوسيط وفهم نظرها إلى مبحث العلاقة بين السياسة والإسلام.

فهل كانت إجابات الماوردي ـ على سبيل المثال ـ شبيهة بإجابات الفارابي حول هذه المسألة أم متناقضة أم غير ذلك؟ من هنا يُشكل الكتاب مدار الحديث هنا محاولة علمية لنقد الكثير من التصوّرات الشائعة حول الفكر السياسي الإسلامي لفهم الإسلام والسياسة في العصر الوسيط وذلك من خلال التعمق في دراسة دقائق الفكر السياسي الإسلامي في العصر الوسيط.

 يقول المؤلف: "إن هناك ثلاث طرق لفهم العلاقة بين السياسة والدين في العصر الوسيط، أولًا: دراسة الآداب السلطانية (أو ما يعرف بنصيحة الملوك). ثانيا: الفقه السياسي (أو ما يعرف أيضا بالسياسية الشرعية) وأخيراً الفلسفة الإسلامية".

يتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة أجزاء رئيسية، يتناول كل منها على التوالي تفاصيل وخصوصيات هذه الأنواع من الكتابات السياسية، بالإضافة إلى فصل واحد حول مفهوم الدولة وفقًا لـ ابن خلدون وخاتمة.

في مقدمة الكتاب، ينتقد مكرم عبّاس الكتابات الغربية عن الإسلام والفكر السياسي كونها تنطلق من مسلمات تتعامل مع الفكر السياسي الإسلامي من منظور التجربة المسيحية. كما ويجادل بأن معظم هذه الكتابات تأثرت بماكس فيبر، حيث ينظر إلى الفكر السياسي الإسلامي على أنه هيكل جامد يُخضع السياسي حتمًا لكل ما هو لاهوتي، أو مقدس. يسعى الكاتب لإثبات أن تاريخ السياسة في الإسلام لم يدعُ لإخضاع السياسة للدين كما ورد في الأدب الغربي عن الإسلام والفكر السياسي الاسلامي.

ثلاث طرق لفهم السياسة في الاسلام في العصر الوسيط:

أولًا ـ منظور تاريخي من خلال الآداب السلطانية، وثانيًا: منظور شرعي من خلال الفقه الإسلامي، وأخيرًا: منظور عقلاني من خلال الفلسفة. يهدف هذا التقسيم الثلاثي إلى اكتشاف طبيعة الاختلاف الجوهري بكيفية مناقشة العلاقة بين الاسلام والسياسية حسب الطريقة التي ينظر بها للموضوع.

فصل الأول يشرح ويحلل الكاتب "تقليد الآداب السلطانية". وهو نوع من الأدب الذي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد. يحوي هذه النوع من الكتابات على معايير ونصائح للسلطان أو الحاكم وعادةً ما تكون نصائح أخلاقية. فمثلا الكثير من النصائح تركّز على قيم الحُكم، والسياسة والمآثر العسكرية للعرب وسير الخلفاء. كما أن مصادر هذه الحِكم والمآثر ليس محصورًا بسياق التجربة الإسلامية بل إن مصدر الكثير منه مستمدّ من حضارات أخرى مثل الفرس، والروم، الهند.

الآداب السلطانية لا تهتم بمبررات الشرعية أو السلطة. بدلاً من ذلك، تعتبر السلطة السياسية حتمية ووسيلة لكبح الأطماع في المجتمع. وبالتالي، معرفة الطبيعة البشرية مهم لهذا النوع من الأدبيات. لذا معرفة وفهم الفطرة البشرية هي حجر الأساس في الآداب السلطانية بحسب الكاتب.

يؤكد المؤلف أن هناك تأكيدًا لمفهوم الانضباط الذاتي في الآداب السلطانية. يتمثل في نصح القادة بتحسين سلوكهم ليتمكنوا من حكم رعاياهم بالعدل والإحسان. وبالتالي، فإن المعايير الأخلاقية مركزية؛ على سبيل المثال، مفهوم العدالة. يقتبس مكرم عبّاس من الثعالبي، مقولة "العدالة أسّ السياسة، بل هي السياسة الكبرى"(ص 67). أيضا، يُشار إلى أن الدين مهم لأنه يقدم نموذجًا أخلاقيًا، ويخلق نظامًا للواجبات في المجتمع. ومع ذلك، فإن علماء الآداب السلطانية لم يفكروا في صنع السياسة بشكل مستقل عن الأطر الفقهية للشرعية.

الآداب السلطانية لا تهتم بمبررات الشرعية أو السلطة. بدلاً من ذلك، تعتبر السلطة السياسية حتمية ووسيلة لكبح الأطماع في المجتمع. وبالتالي، معرفة الطبيعة البشرية مهم لهذا النوع من الأدبيات. لذا معرفة وفهم الفطرة البشرية هي حجر الأساس في الآداب السلطانية بحسب الكاتب.
في الفصل التالي من الكتاب، يتم تقييم السياسة من منظور فقهي. "الأحكام السلطانية" فالماوردي هو أول من كتب في الحضارة الاسلامية بهذا النوع من الكتابات السياسية. الكتابات في هذا التقليد تعكس مجموعة عامة وتجريدية من القواعد التي سعى الفقهاء إلى إضفاء الشرعية عليها. علاوة على ذلك، يميز الفقه السياسي الحق من الباطل، والحكم الرشيد من الحكم السيئ. كما يحدد القواعد واستثناءاتها.  بالنسبة للمؤلف، فإن التفكير في حالات استثنائية من خصائص الفقهاء المسلمين مما يدل على موهبتهم للتكيف مع مُختلف الظروف الممكنة في المستقبل.

يؤكد مكرم عباس أن هدف الفقهاء المسلمين هو الحفاظ على تماسك المجتمع، وهو العنصر الأساسي لالتزامهم بوحدة وقوة الدولة. لكنَّ الكاتب يحمل الفقهاء المسؤولية عن تبرير السلطة المُطلقة فقهيًا. ومع ذلك، فهو يقرُّ بأن موقف الفقهاء له سياق، حيث أصبحت مؤسسات الخلافة وهمية أو ضعيفة بسبب صعود سلطة الأمراء في ذلك الوقت.

في الفصل التالي من الكتاب المعنون بتقليد الفلسفة السياسية في الإسلام، يؤيد مكرم عبّاس أن موروث الفلسفة السياسية مكُرس أساسا للتفكير في مفهوم المدينة. أي بالتفكير في المسألة السياسية من منظور القانون الطبيعي وبمقصد تحقيق كمال الإنساني، مستلهمة الثقافة العلمية والفلسفية المتداولة في زمنهم.

 يعتبر الفارابي أحد الفلاسفة الذين تركزت فلسفتهم على قضايا الفلسفة السياسية. وبحسب الكاتب أعطت مساهمات الفارابي قوة دفع لإرث سيتواصل لاحقًا في الأندلس مع ابن باجة وابن رشد. في البحث عن أسس للسياسة، اتجه الفارابي نحو فلسفة أفلاطون وأرسطو مجتمعين في "البحث عن الخير" (ص 132).

يشرح عباس بالتفصيل فكر الفلاسفة الأندلسيين، مثل ابن باجة، أول فيلسوف مسلم حقيقي وضع في الأصل نظرية عن المدينة. يجادل المؤلف بأن الفارابي وابن باجة يقدمان قراءات متباينة لـ النموذج الأفلاطوني للمدينة. بالنسبة للفلاسفة، كانت مشكلة الوصول إلى الكمال وإمكانية الإصلاح البشري هي السائدة في كتاباتهم السياسية. ومع ذلك، فقد رسموا صورة الرجل كما يجب أن يكون، وليس كما هو عليه في الواقع.

الفصل الأخير المعنون بـفكرة الدولة عند ابن خلدون. يؤكد عبّاس أن قضية الدولة لم يتم دراستها تاريخيًا أفضل مما فعله ابن خلدون، الذي سعى لفهم سبب تشكيل المجتمعات، على سبيل المثال، ما هي أهداف المجتمع، وكيف تنشأ الدولة وتنهار. يؤكد المؤلف أن ظهور السلطة السياسية ناتج عن مواجهة ثلاث ديناميكيات طبيعية بحتة. أولًا: الطبيعة البشرية العدوانية التي تجبر الفرد على الخضوع لسلطة رئيس من أجل تسوية النزاعات. ثانيًا: النسب والعصبية. ثالثًا: الرغبة في قيادة الآخرين والحصول على الألقاب المرتبطة بهذه المكانة. يؤكد المؤلف أن العلاقة بين الدين والسياسة ليست علاقة بين سلطتين ممثلتين بمؤسستين متعارضتين او متناقضتين. لذا، يؤكد عباس أنه من العبث تشبيه النموذج الإسلامي بنموذج البابا القيصري، أو النموذج العلماني في الفصل الصارم بين السياسة والدين لفهم العلاقة بين الإسلام والسياسة.

يؤيد مكرم عبّاس أن موروث الفلسفة السياسية مكُرس أساسا للتفكير في مفهوم المدينة. أي بالتفكير في المسألة السياسية من منظور القانون الطبيعي وبمقصد تحقيق كمال الإنساني، مستلهمة الثقافة العلمية والفلسفية المتداولة في زمنهم.
وفي الختام يدعي المؤلف أنه عندما ظهرت الإمبراطورية العثمانية باعتبارها قوة سياسية مهمة تمثل الإسلام، أعادت إحياء الروح القديمة والعصور الوسطى. باعتماد النماذج الثلاث المذكورة أعلاه (الآداب السلطانية، الفقه السياسي والفلسفة الاسلامية). ويخلص أن التاريخ والفقه والعلم هي المحاور التي تدور حولها كل فكرة. فالآداب السلطانية تهتم بالعدالة، والفقه السياسي بالضرورة والمصلحة أما الفلاسفة فبالفضيلة.

يُقدِّم الكتاب إطارًا نظريًا مُميزًا لفهم الإسلام والسياسة في العصر الوسيط. كما أن للمؤلف قدرةً كبيرةً على ربط الأفكار والمفاهيم لتقديم نهج أصيل لفهم السياسة والإسلام في العصر الوسيط. ومع ذلك، فإن عيب هذه الدراسة هو غياب شرح الممارسة النبوية في الحكم والسياسة وأثرها في الفكر والممارسة السياسية الإسلامية، وعدم وجود تركيز كافٍ على الخلفاء الراشدين، وكيفية فهمهم للعلاقة بين السياسي والديني. علاوة على ذلك، لم يُدرج عباس أعمالًا مهمة في كتابه مثل الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب الأصفهاني، والشهب اللامعة في السياسة النافعة لابن رضوان وغيرها من الكتب ذات الصلة. مثل هذه المساهمات من شأنها أن توسع مَنظور الكتاب. ومع ذلك، فإن هذا الكتاب هو قراءة قيمة ومهمة جدًا، فهو يعكس الثراء والتنوع للمساهمات الإسلامية في العصر الوسيط خصوصًا ما يتعلق بالسياسة والأخلاق والفلسفة. ينصح بشدة للأكاديميين وطلاب العلوم السياسية والفلسفة، والاستشراق.

*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم.