كتب

هل سد باب الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي؟ كتاب يجيب

وائل حلاق: لا يوجد ما يشير إلى أن الاجتهاد قد توقف أو ألغي
الاجتهاد فيما يرى الفقهاء المسلمون الكلاسيكيون، هو أعمال الفقيه لقدرته العقلية، بحثاً عن رأي فقهي، إلى الحد الذي تعجز عنده ملكاته عن بذل المزيد من الجهد، وبعبارات أخرى، الاجتهاد هو أقصى جهد ببذله الفقيه للتمكن في العلم بمبادئ وقواعد أصول الفقه وتطبيقها بهدف إدراك شرع الله.

تعتبر مسألة الاجتهاد من المسائل المهمة التي قد أثيرت قديماً وحديثاً. ينطلق وائل حلاق، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة مكجيل الكندية سابقاً، وحالياً بجامعة كولومبيا، في مقالته (Was the Gate of Ijtihad Closed?)، رداً على جوزيف شاخت (J. Shacht) ـ وغيره ـ الذي زعم أن الشرعية جامدة متحجرة، وأن مرد ذلك إلى ما زُعم أنه "انسداد باب الاجتهاد". وتم ترجمة المقالة إلى اللغة العربية تحت عنوان "هل سد باب الاجتهاد؟"، ترجمة: سعيد خضر، (نماء للبحوث والدراسات، ط1، بيروت، 2022). ويقع الكتاب في 112 صفحة من القطع المتوسطة.

يبدأ المؤلف مقدمته بتعريف "الاجتهاد"، ويستعرض آراء بعض علماء  العصر الحديث، أن نشاط الاجتهاد قد توقف في أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، أي "انسداد باب الاجتهاد"، منهم جوزيف شاخت (J. Shacht)، وجي.إن. دي. أندرسون (J. N. D. Anderson) ، وجب (H.A. R. Gibb) ، ووات (W. M. Watt). وبحسب حلاق، "تكشف دراسة كرنولوجية منهجية للمصادر الشرعية الأصلية أن هذه الآراء المتعلقة بتاريخ الاجتهاد بعد القرن الثاني/ الثامن لا أساس لها وتفتقر إلى الدقة الكلية".

يؤكد حلاق، من الناحية النظرية على الأقل، "أنه لا يوجد ما يشير إلى أن الاجتهاد قد توقف أو ألغي". ويدحض هذا الافتراض من خلال النظر في كتابات الفقهاء حول هذا الموضوع.

ويتطرق المؤلف إلى "الاتجاهات المناهضة للاجتهاد واستبعادها من السنة"، ويرى أنه من الصعب القول بأن "المسلمين قرروا سد باب الاجتهاد في ذلك الوقت الذي وضعت فيه اللمسات الأخيرة لنظرية علم الأصول، أي بداية القرن الرابع/ العاشر تقريباً. والحق أن النظر في كتابات الفقهاء بعد القرن الثالث/ التاسع يُظهر أن ممارسة الاجتهاد لم تنقطع".

يحلل حلاق التسلسل الزمني للمؤلفات المتعلقة بموضوع "الاجتهاد" من القرن الرابع/ العاشر، ويخلص إلى حقيقة إلى أن هذه المؤلفات لم تلجأ إلى "القول بسدَّ باب الاجتهاد".

واعتبر فقهاء القرن الخامس / الحادي عشر أن "الاجتهاد أمراً مفروغاً منه، وهذا واضح في كتابات جميع المشغلين بالفقه في تلك الفترة". ويستنتج حلاق أنه "في زمن الغزالي لم تكن هذه المشكلة قد ظهرت بعد. لأنه إذا لم يخضع باب الاجتهاد للرقابة، ولم يكن ثم دليل على ذلك، فلماذا لا يُناقش في الوقت الذي يفترض أنه قد ظهر فيه؟".

ويظهر من فحص مسارات الحياة العلمية لكل من الجويني والغزالي وابن عقيل أن هؤلاء الفقهاء  ـ مثل كثير من معاصريهم ـ لم يعارضوا التقليد لصالح الاجتهاد فحسب، بل "قدموا أنفسهم أيضاً على أنهم مجتهدون مؤهلون، وقد قبلهم الآخرون بهذه الصفة".

يؤكد حلاق من خلال النصوص الوفيرة المتاحة من مصادر القرن الرابع/ العاشر والخامس/ الحادي العاشر المستخدمة في هذه الدراسة أنه "لم يرد ذكر عبارة (انسداد باب الاجتهاد) أو أي تعبير قد يُلمح إلى فكرة الانسداد". فقد ظل "نشاط الاجتهاد دون انقطاع على المستويين العلمي والنظري، وأن فكرة الانسداد لم تخطر ببال المسلمين".

يدرس المؤلف الجدل حول وجود المجتهدين مع إيلاء اهتمام خاص لمسألة ما إذا كان انعقد إجماع على انسداد الباب أم لا. فبدون إجماع كهذا، "لا يمكن التأكيد من الانسداد ومصداقيته. ويجب أن نتذكر، من الناحية النظرية، أن الإجماع ينعقد عند اتفاق جميع مجتهدي العصر، بطريقة أو أخرى، في مسألة معينة".
يناقش حلاق "ظهور تعبير (انسداد باب الاجتهاد)، ومعناه"، ويخلص إلى القول: "سواء كان الباب مفتوحاً دائماً أو مغلقاً في وقت ما، فإن ذلك يُحدد عملياً من خلال عنصرين يكمل أحدهما الآخر: (1) وجود المجتهدين أو انقراضهم، (2) إجماع الفقهاء على أن باب الاجتهاد مسدود بسبب انقراض المجتهدين، أو أنه غير مسدود. وما نوقش في كتب الأصول هو فقط مسألة ما إذا كان يمكن -بالعقل أو بالشرع- للمجتهدين أن ينقرضوا، ولم يكن هناك إشارة مباشرة إلى مفهوم (باب الاجتهاد)".

يدرس المؤلف الجدل حول وجود المجتهدين مع إيلاء اهتمام خاص لمسألة ما إذا كان انعقد إجماع على انسداد الباب أم لا. فبدون إجماع كهذا، "لا يمكن التأكيد من الانسداد ومصداقيته. ويجب أن نتذكر، من الناحية النظرية، أن الإجماع ينعقد عند اتفاق جميع مجتهدي العصر، بطريقة أو أخرى، في مسألة معينة".  ويشير إلى أن "الغالبية العظمى من التصريحات حول مسألة الانسداد لم تُقدم على ادعاء وجود إجماع محقق على غياب المجتهدين".

يري حلاق أنه "حتى نهاية القرن الثامن/ الرابع عشر، لم يرتفع أي صوت على حد علمي، لإدانة مزاعم المجتهدين بممارسة الاجتهاد في إطار مذاهبهم". ويرفض حلاق عبارة "انسداد باب الاجتهاد"، اعتماداً على الحديث النبوي: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".  ويعدد أسماء المجددين في كل قرن. "فقد ظهر المجددون الذين بلغوا ـ من بين أمور أخرى ـ رتبة الاجتهاد، مرة واحدة على الأقل كل قرن. وفي بعض الأحيان، كان يوجد أكثر من مجدد للقرن الواحد".

يعد المؤلف "السيوطي آخر مجتهد سني كبير في سلسلة المجتهدين التي دامت تسعة قرون". و"منذ نهاية القرن العاشر/ السادس عشر، أصبح عدد الفقهاء الذين ادعوا الاجتهاد أقل. وقد انعكست هذه الحقيقة بوضوح في تصنيف  الفقهاء إلى رتب ودرجات". و"لم يتزامن الانخفاض الحاد في عدد المجتهدين المعترف بهم مع انخفاض عدد وجسامة المشكلات المستجدة، والتي تحتاج إلى الاجتهاد في حلها". وكان الاجتهاد السبيل الوحيد الذي من خلاله تم حل مثل تلك المشاكل، لذلك استمر تطبيق منهجية الاجتهاد في الممارسة العلمية دون وصفه باسمه الصريح في الغالب.

في ختام دراسته، يخلص حلاق إلى استنتاج مفاده "أن الاجتهاد في نظرية الفقه الإسلامي ظل أمراً لا غني عنه".