كتب

الإسلاميون وتحديات العبور إلى الدولة.. من الهداية إلى السياسة

عبد الرزاق مقّري: العبور الحضاري الذي يقصده كتابنا إعادة الانتشار الحركي على أسس تجديدية مناسبة
صدر مؤخرا للدكتور عبد الرزاق المَقري عن منتدى كوالامبور كتاب بعنوان "الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور"، وهو محاولة لتشخيص واقع ومستقبل الصحوة الإسلامية بعد انتقال الإسلاميين من مرحلة الدعوة إلى الفعل السياسي، عقب ثورات الربيع العربي.

وتكمن أهمية الكتاب ليس فقط في موضوعه لجهة تسليطه الضوء على تيار الإسلام السياسي، وإنما أيضا في الأدوات التي استخدمها المؤلف، وهو واحد من صناع الصحوة الإسلامية المعاصرة..

"عربي21" تنشر اليوم مقدمة الدكتور عبد الرزاق مقّري، للكتاب في سياق توسيع دائرة الحوار حول واقع ومستقبل الإسلاميين في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة العربية والعالم.


الإصلاح برؤية إسلامية

موضوع هذا الكتاب، يتعلق بالفكر السياسي والإصلاح الاجتماعي، برؤية إسلامية. ويعالج مرحلة حاسمة، وجد فيها المشروع الإسلامي نفسه في واقع جديد، غير الذي اعتاده أصحابُه سابقا، ضمن عقود طويلة خلَت، اشتغلوا فيها في ساحات الدعوة الإسلامية، وفق فقه استنبطوه وأصّلوه هو فقه الدعوة. كانت مهمتهم، هي الصحوة الإسلامية.

وبالرغم من النجاحات الكبيرة التي حققوها على صعيد الصحوة، هم اليوم يعيشون اضطرابات كبيرةً، في الرؤية والممارسة والخطاب والعلاقات، جعلتهم يقعون في أخطاءٍ واضطرابات واختلافات، وأحيانا انشقاقات.

ثمة من العاملين في المشروع الإسلامي من انتبه، ومنهم من لم ينتبه، إلى أنهم مجرد أدوات مسخّرة، تحركها أقدار الله تعالى ضمن سيرورة تاريخية، نحو الاستئناف الحضاري المحتومِ للأمة الإسلامية، وأن الاضطرابات التي يعيشونها طبيعيةٌ، لأن تلك الصيرورةَ التاريخيةَ وصلت إلى منعطف، يتطلب التجديد وفق حتمية نصية، أكدها الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا".

إن كل الحضارات تصعد وتسقط، تبدأ بزمن النشأة ثم تعرف زمن الصعود، ثم زمنَ الألق، ثم زمنَ التراجع ثم زمَن الأفول، فالاندثار. غير أن حضارة الإسلام، التي تخضع هي الأخرى لسنة التداول، لا تصل إلى الاندثار أبدا، إذ أنشَأتْها فكرةٌ إحيائية ربانية قرآنية خالدة.

ولأن هذه الحضارة تخضع لسنة الأفول، الذي قضاه الله، فإنه رغم طول دورتها الأولى سقطت، وسقطت بعدها دولُها المرتبطة بفكرتها. ولكنها اليوم، تعاود الصعود، ضمن مشروع إسلامي حضاري، أطلقه علماء ودعاة ومجددون، صنعوا به صحوة عامة، تَطَلَّبت قرابةَ مائة سنةٍ من العمل والجد والتضحيات والإنجاز. وهاهو هذا المشروع يستعد للعبور إلى الدولة، ليصنع نهضتهُ ثم ليصل في أجل آخر إلى الاستئناف الحضاري المنشود.

مرحلة الدولة

إنه حينما وصل المشروع الإسلامي، بعد مسيرة الصحوة، إلى مرحلة الدولة، تغيّر كل شيء أمام العاملين له، إذ وجدوا أنفسهم ينتقلون بشكل أساسي إلى ساحات العمل السياسي، ضمن فقه وفكر ونظم ومعارف وثقافة، نجحوا بها في ساحات الدعوة. ولكنها، لم تسعفهم كثيرا في خوض غمار المعارك السياسية، ذات الخصائص المختلفة. ومن ثمة، وقع الإرباك واضطراب الرؤية.

إن الصيروة التاريخية ماضية لا تتوقف، وفق قواعد سننية لا تتغير ولا تتبدل، وما بُذل في ما مضى مشكور مبرور، ولكن ما سيأتي لا يعني إلا من ساير السنن ورافق الصيرورة التاريخية، والتقى بحتمية التجديد.. فأحسَن العبور الحضاري إلى الدولة، الدولة التي تملك أدوات صناعة النهضة المؤهِلة للحضارة..

إن العبور إلى الدولة الحضارية شرط للعبور الحضاري... غير أن هذا العبور صعب، دونه تحديات كبيرة عظيمة.

فالمشكلة ليست في حركية التاريخ، ولكن، في من لم يفهمها ولم يتعامل معها بحكمة، ليكتب بنفسه صفحاتِها بِما يُرضيه ويُرضي ربّه وينفعُ أمّتَه.

هناك كثير من الأفكارِ الجيدة طُرحت، والتجاربِ الموفقةِ التي سُطّرت، لنجاح العبور في هذه المرحلة العصيبة. وستُضاف إلى هذه الأفكار والتجارب أفكارٌ وتجارب أخرى، يُنقِّح بعضُها بعضا، حتى تَنضُج مناهجُ واتجاهاتٌ تتلقاها الأمة بالقبول، وتسير في ركبها شخصيات ومنظمات كثيرة ودول عدة، حتى تستقر الفكرة في دول العالم الإسلامي بمجمله من جديد، الواحدة تلو الأخرى، فتنهض بها وتتحقق من خلالها الوحدة الإسلامية المأمولة، على نحو يتلاءم مع المقاصد الشرعية والمقاربات العصرية.

نشرح في كتابنا هذا تطورات الفكرة الإسلامية على مستوى الرجال والمجتمعات والدول، وكيف تحيي أصحابَها، فتصنع بهم صحوة في المجتمع، فنهضةً بالدول ثم كيف تتحول النهضة إلى حضارة عالمية ثم متى وكيف تتراجع الحضارة عكسيا، على نفس الخطى.

سنكون متفائلين في مقارباتنا، رغم المآسي، إذ مقياس الحكم على التطورات يتجاوز عمر الإنسان القصير. ومن أراد الحكم على تقدم الأمة أو تراجعها، فليحكم بمقياس عمر الأمم، من خلال صيرورة التاريخ التي تلتقي معها حتميات النصوص، ليظهر لنا أن الفكرة التي أنشأت صحوة إسلامية تجذرت في المجتمعات، عبر مسيرة قرن من العمل والتضحيات.. وقد آن أوان انتقالها إلى الدولة، لتصنع نهضة، إذ لا تنهض الأمم إلا بدولها.

غير أن العبور إلى الدولة مسألة خطيرة وصعبة، تتطلب تجديدا عميقا في التفكير والسلوك والممارسات والأدوات، يجب أن تتجه إليه الأجيال الثلاثة، المشترِكة في التغيير الذي أحدثته الصحوة الإسلامية، وأهمها جيلُ الشباب. وعلى هذه الأجيال أن تفهم الفرق بين دائرتي الهداية ودائرة القيادة، وما تتطلبه دائرة القيادة، التي هي دائرة السياسة، من تجديد لمفهوم العصبة، من حيث أركان التمكين الأساسية المؤهلة للعبور الحضاري نحو الدولة، ذلك العبور الذي لا طريق له سوى الإصلاح الذي يَقصِد التغيير، لا مهادنة الباطل والفساد، إصلاحٌ يستهدف الشعوب والحكام، لكي ينتج كلٌّ منهم أصلح ما في الآخر، فتسهل عملية العبور ولا تتعقد.

عبور لا يتحقق بالضعف والترهل، ولكن من خلال منهج أصيل، عنوانه المقاومة السياسية، مقاومة تتطلب معرفة صنوف الناس من حكام ونخب وجماهير، وكيف التعامل مع كل صنف، وتفحص التحديات الخارجية، ولماذا تعادي قوى دولية متسلطة تَصالُحَ الإسلام مع دوله ليعبر إلى الحضارة من جديد، وما هي أساليبهم، وهل في داخل الصف الداخلي ضعف يعقّد الانتقال، وما هي أسبابه ومظاهره..

لا شك في أن عبور الفكرة إلى الدولة بعد الصحوة، تحكمه فرصٌ بقدر المتاح في كل مرحلة، وأن الفرص تصنعها موازين القوة، وفق ما بينته تجارب التحول الديمقراطي في دول عديدة، بين التوافقات والثورات، على قواعد سننية لا تتغير ولا تتبدل، يستفيد منها من وجدته السنن في المكان المناسب لأهلية الريادة والقيادة.

العبور الحضاري

إن العبور الحضاري الذي يقصده كتابنا إعادة الانتشار الحركي على أسس تجديدية مناسبة، وفق مقاربة التخصص الوظيفي، التي تميز بين الدعوة كوظيفة والدعوة كرسالة عامة، بين السياسة كوظيفة رسالية قيادية في الأمة تعالج مسألة العبور، وبين الوظائف المجتمعية المتعددة، التي تحملها شبكات مؤسسات المجتمع المدني النافعة الحرة، التي تتصل بينها من خلال وحدة الرؤية والرسالة الحاملة للفكرة. تلك المؤسسات، متعددة التخصص، التي تُعين الفكرة على العبور وتحميها عند مستقرها في الدولة، بالأهلية الحضارية التي تصنعها في المجتمع، كما كان دورها في الدورة الحضارية الأولى، ومن ذلك حماية الهوية التي بعثتها الصحوة، بغرس القيم والأخلاق، وتحويل ذلك كلِّه إلى رأي عام مجتمعي، يتعلق بالفكرة لا بالأشخاص ولا المنظمات، ويحاسب القادة والمؤسسات المتنافسة على أساسها، فتضمن بهذا الشكل تداولا على دائرة القيادة في ظلها وضمن إطارها، تنافسا وتداولا على أساس خدمة الأوطان وتنميتها وتطويرها، لتحقق بها دولُ الإسلام نهضةً شاملة في أقاليمها ثم تجتمع كلها بنجاحاتها، ضمن وحدة حضارية عصرية تؤهل للاستئناف الحضاري الجديد.

سنفصل في كل هذه الأفكار عبر الفصول الثلاثة التي يتضمنها هذا الكتاب:

ـ الفصل الأول: "تحدي العبور". ويتضمن مواضيع حلقات البرنامج التلفزيوني، بنفس العنوان، التي سجلتُها في رمضان 2020 منقحة ومزيدة، وهو الفصل الذي يحدد العوائق التي تواجهها الحركات الإسلامية في أثناء محاولة عبورها من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، ويقدم جملة من الأفكار في كيفية تجاوزها ولتحقيق العبور الناجح من الصحوة في المجتمع إلى نهضة حضارية في الدولة.

ـ الفصل الثاني: "مسارات العبور". ويتضمن فكرة "التخصص الوظيفي"، كفكرة أساسية من أفكار برنامج تحدي العبور، قمت بتفصيلها وإثرائها كمشروع كامل لآليات العمل من أجل العبور إلى الدولة بغرض تحقيق النهضة، وهو مشروع لا يقوم على نظريات فقط، بل هو يجرب ويتطور في حركة مجتمع السلم على أرض الواقع، ويعطي نتائج جيدة وواعدة- بحول الله تعالى.

ـ الفصل الثالث: ويتضمن حلقات برنامج تلفزيوني "القرآن والسياسة"، الذي بث في رمضان 2021، يتناول عددا من المواضيع السياسية، التي تحدد الملامح العامة لرؤية الحركة الإسلامية إلى الدولة، برؤية إسلامية.

يمثل هذا الكتاب ملخصا لتجربة طويلة تجاوزت أربعة عقود دون توقف خضتُها في تنظيمات وهياكل الحركة الإسلامية، مارستُ فيها أنواعا متعددة من الوظائف، وتحملت فيها مسؤوليات متدرجة حتى وصلت لرئاسة أكبر حركة سياسية وفكرية ودعوية واجتماعية في الجزائر. حرصت أن أدون هذه التجربة وأبث فيها الأفكار التي استخلصتها من المطالعة والممارسة، ومتابعة التجارب المتعددة والمتنوعة في العمل الإسلامي، في بلدنا وخارجه، لكي نضعها بين يدي العاملين من أجل الاستئناف الحضاري، للاستفادة منها.

ويسعدنا أن نتلقى ملاحظات ومناقشات القراء، للإثراء ولمزيد من البيان والتوضيح. والله نسأله أن يتقبل منا وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم.

وفي مختتم هذه المقدمة، أهدي القراء هذه الآيات العظيمة، التي بنينا عليها أفكار كتابنا:

1 ـ  قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
2 ـ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
3 ـ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
4 ـ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
صدق الله العظيم.