كتب

كتاب يناقش نقاط الالتقاء والاختلاف بين أرسطو وكانط

دراسة مقارنة علمية بين مقولات الفيلسوفين أرسطو وكانط..

الكتاب: "المقولات بين أرسطو وكانط"
الكاتب: د. أحلام عبد الله
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق، 2021

(335 صفحة من القطع الكبير).

منذ ظهور الفلاسفة الكبار، قامت كل تجربة فلسفية على مجموعة من المفاهيم الرئيسة أو المقولات  بوصفها أدوات معرفية، ولكل فيلسوف طريقته الخاصة في توظيف مقولاته، والربط بينها لتشكيل نسقه الفلسفي الخاص الذي يجعله مميزاً عن غيره.

لعل البحث في المقولات ـ تعريفها وطبيعتها وأنواعها وتصنيفها وعددها، ودراسة توظيفها منطقياً وطبيعياً وأنطولوجياً ومعرفياً، هو من القضايا الجديرة بالبحث والاهتمام، لاسيما إن انصب البحث بالدراسة والتحليل والمقارنة على فيلسوفين تشكل" المقولات" البنية الأساسية لفلسفة كل منهما، وهما: أرسطو وكانط.

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي:"المقولات بين أرسطو وكانط"، للكاتبة الدكتورة أحلام عبد الله، والمتكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، ويتضمن 335 صفحة من القطع الكبير، تقدم  فيه الكاتبة دراسة جادة للوقوف على "نظرية المقولات" وبيان أهميتها عند هذين الفيلسوفين الكبيرين اللذين مثلا مرحلتين نقديتين في تاريخ الفكر الفلسفي.

وتكمن القضية المحورية في هذه الدراسة في التساؤلات التي طرحتها الكاتبة، لا سيما  المبدأ المعتمد في تحديد المقولات عند كل من أرسطو وكانط، وكيف وظفت في أنساقهما الفلسفية، وهل المقولات الأرسطية ذات دلالة منطقية تسعى إلى تحقيق الاتساق في العقل، فتمثل تطابقاً بين العلاقات المنطقية واللغوية مما يجعلها مقولات فكرية وحسب، أم أنها أحوال للوجود تهدف إلى تفسير الموجودات والوصول إلى ماهيتها فتكون ذات دلالة أنطولوجية، أم ان أرسطو أراد أن ينتقل تدريجياً بالمقولات حتى يصل إلى مقولة واحدة أساسية سيشيد عليها الميتافيزيقا؟وبالمقابل ما طبيعة المقولات الكانطية، وهل نجح كانط بالتأسيس لحالة معرفية جديدة يكون فيها للمقولات دور حاسم في نسقه الفلسفي، ومن ثم هل أحدث انقلاباً فكرياً على أرسطو؟

الإطار التاريخي للمقولات

في هذا الفصل الأول، بدأت الكاتبة بدراسة المقولات في الفلسفة الهندية، وانتقلت فيما بعد إلى دراسة المقولات في الفلسفة اليونانية قبل أفلاطون. إن الحديث عن مقولات فلسفية (بالمعنى الدقيق للكلمة) في الفلسفة ما قبل أرسطو أمر مستعبد، ولكن يمكن التمييز بين مرحلتين مختلفتين في تاريخ تطور المقولة بالدلالة الفلسفية، وهما:

مرحلة ما قبل سقراط

لقد قدمت مدرسة "الجاينية" مقولات لمعرفة العالم (مقولات معرفية)، تفسر علاقة الأنسان بالعالم، ومقولات أخرى لتفسير نشوء العالم (مقولات أنطولوجية)، لكن كلا القائمتين لم تكن مقولات مجردة، بل هي (جواهر) مادية ورغم قول هذه المدرسة أنَّ للجواهر خصائص، إلا أنها لم تميز بين الجواهر وخصائصها، أما مدرسة الفايشيشكا فقد أوضحت الاختلاف بين الأشياء وصفاتها بالمقولات (مقولات الكيف والخاصة)، وفسرت أيضاً التشابه بين الجواهر بمقولة "العام" هذه المقولة التي ـ كما ذكرت لنا الكاتبة أحلام ـ لها دور كبير في عملية المعرفة. فميزت بهذا ما هو مجرد وما هو مادي، وقالت الجوهر هو الحامل لباقي المقولات، أي هو ما يجعل باقي المقولات موجودة بالفعل، وهذا ما بيناه عند أرسطو، ومع مدرسة النيايا اتخذ مصطلح المقولة دلالة المقولة المنطقية الخالصة، فقد وضعت النيايا ست عشرة مقولة مجردة لتنظيم المناقشات العملية.

بدأت الكاتبة أحلام عبد الله بدراسة المقولات في إطارها التاريخي، فرصدت الأسس الأولى لنسأة المقولات في الفكر الهندي، ومنها انتقلت إلى دراستها في الفلسفة اليونانية في مرحلة ما قبل أرسطو، محاولة تتبع فكرة النضوج والتبلور، وألمحت إلى أن للمقولات الأفلاطونية بمعنى ما أثراً في المعلم الأول الذي قدم نظرية خاصة في المقولات. فانتهت إلى مجموعة من النتائج، هي:

وجدت أن الفيثاغوريين قد خطوا خطوة باتجاه التجريد عندما نفوا الجانب الكيفي للأشياء وركزوا على الجانب الكمي، أما الإيليون فقد نفوا لكم والكيف معاً عن" الوجود الواحد" وهذا يعني أن مقولة "الواحد" عند الإيليين فكر تجريدي تام، أما مقولات الفيثاغوريين فهي فكر شبه حسي.

وبعدئذٍ وقفت على دراسة نظرية المقولات عند أفلاطون، ورصدت عنده خمس مقولات أو خمسة أجناس عليا للوجود. ومن خلال التحليل المتأني لنصوص المحاورات الأفلاطونية المختلفة ارتأت أن المقولات عند صاحب الأكاديمية تقال على ثلاثة مستويات، هي: (المستوى الأنطولوجي، المستوى الطبيعي، والمستوى الميتافيزيقي).

تقول الكاتبة أحلام عبد الله: "استعار أفلاطون من الفيثاغوريين مقولة "أيدوس" لتدل على المثل التي هي أجناس كلية ثابتة موجودة بالفعل وجودًا خارجيًا ومستقلاً عن وعي الإنسان،وهي في الوقت نفسه علة وجود الموجودات في العالم الحسي،ويرى أفلاطون أنَّ للمثل وجودًا سابقًا على وجود الجزئيات المشتركة معها في الإسم، وأنَّ المثل خالدة مطلقة لا تتغير رغم تغير تطبيقاتها و أمثلتها المشاهدة، فمهما تغير الناس، و تعددت أشكالهم وتنوعت طباعهم في العالم المحسوس، يبقى "مثال الإنسانية" جنسًا خالدًا تتمثل فيه الخصائص الجوهرية لكل البشر. والمثل عند أفلاطون ن يهدف إلى إثبات نظرية أستاذه سقراط إنَّ العلم لا يقوم إلا إذا كان هناك ماهيات عقلية ثابتة للأشياء،وفي عالم المثل ـ حسب النظرية ـ يوجد صورةأو"مثال" أو"جنس"كلي" لكل موجود نراه في العالم المحسوس مهما كان، فأي شيء، يصلح أن يكون موضوعًا للعلم لا بد أن تكون له ماهية ثابتة أو مثال في عالم المثل"(ص 45).

مع تطور الوعي الفلسفي في مرحلة سقراط وأفلاطون نجد أن البحث عن مفهوم المقولة بالدلالة الفلسفية أخذ يتعمق، فقد قدم سقراط مقولة "الماهية" أو "المعنى الكلي" ليرد الجزئيات إليها، وكانت المحاولة الأولى نحو اكتشاف المقولة بالدلالة الأنطولوجية. أما أفلاطون فقد قطع شوطاً أعمق وأبعد من أستاذه، وقدم قائمة المقولات الخمس، وهي:
 
الوجود، الهوية، الغيرية، الحركة، السكون، والتي وظفها في نسقه الفلسفي فعدها أجناساً عالية تضم جميع الموجودات المحسوسة، وسحبها على العالم المعقول وطبقها على مفهوم "القسم الثنائية" على الصعيد المنطقي فتداخل المنطقي مع الأنطولوجي والميتافيزيقي أشد التداخل، مع أن أفلاطون لم يكن قد تنبه إلى ذلك، فجل ما كان يهدف إليه هو تفسير طبيعة العلاقة بين العلة والمعلول، أو بين العالم المعقول(الذي يمثل الوجود الحقيقي)، والعالم المحسوس أو اللاوجود.

نظرية المقولات عند أرسطو

في الفصل الثاني تطرقت الكاتبة لإشكالية أصل المقولات الأرسطية وميزت بين ثلاثة آراء متباينة حول أصلها وهي الأصل المنطقي، ثم اللغوي، وأخيراً الأنطولوجي.وقد تم الكشف في هذا الفصل عن دور المقولات على المستوى المنطقي من خلال دراستها لعلاقة المقولات بالتصورات والأحكام، والأجناس الخمس، ودور المقولات في نظرية التعريف، وكشفت عن التوظيف الأرسطي لها في نظرية الجدل.

وفي دراسة الكاتبة أحلام لنظرية المقولات عند أرسطو، تبين لها أن المعلم الأول قد نظر إلى مقولاته من جهات عدة، فالمقولات استعملت لتصنيف أجناس الحمل في القضايا، ثم لتصنيف الكلمات المفردة، وأخيراً لتصنيف أجناس الوجود ذاته، وعلى هذا الأساس ظهرت ثلاثة اتجاهات مختلفة ومتباينة في تفسير أصل اشتقاق المقولات الأرسطية: فمنهم من قال بالأصل "المنطقي" ومنهم من قال بالأصل "اللغوي" أو النحوي، ومنهم من قال بالأصل "الأنطولوجي".

 

جعل أرسطو المنطق آلة للفكر ومدخلاً للعلوم، ولم يجعله علماً مستقلاً، بمعنى أن أرسطو جعل من المنطق خدمة للميتافيزيقا التي تهدف إلى ضرورة وجود جوهر مفارق تسعى كل الموجودات لمعرفته والتشبه به.

 



فقد وجدت الكاتبة أحلام أنَّ المقولات الأرسطية منطقية من جهة، وطبيعية من جهة أخرى، وميتافيزيقية من جهة ثالثة، فقامت بدراستها على هذه الأصعدة الثلاثة: فتبين لها وبشكل واضح السلم القيمي في دراسة أرسطو للمقولات، لم تعالج بالسوية ذاتها، وعددها كان يتناقص بالانتقال من مستوى إلى آخر، وكانت مقولة الجوهر هي المقولة الأولى في كل المستويات، ولكن طريقة تناولها تختلف من صعيد إلى آخر.

على الصعيد المنطقي الجوهر هو الموضوع الذي تسند إليه المقولات الأخرى إما إسناداً جوهرياً أو إسناداً عرضياً. وطبيعياً أصبحت مقولة مركبة من علتين هما المادة والصورة، وهذا التركيب لا يتأتى إلا عبر الحركة، ولكن بينما تكون الأولوية على المستوى الطبيعي للجوهر الأول حامل الجواهر الثواني والأعراض. نجد أن الاهتمام في المنطق ينصب على الجواهر الثواني التي تمثل ماهية الجواهر الأولى منطقياً. أما غاية البحث الميتافيزيقي للمقولات فهي الوصول إلى مقولة " الجوهر المفارق" أكثر الأفكار كلية وتجريداً، من هنا ندرك كيفية الترقي القيمي لمقولة الجوهر، من الفكر(منطقياً) إلى الواقع (طبيعياً) ثم العودة إلى الفكر(أنطولوجياً) لترتقي إلى خارج الفكر(ميتافيزيقياً).

كل هذا قاد الكاتبة إلى الاعتقاد بعدم وجود تصنيف نهائي للمقولات عند المعلم الأول من جهة، وعدم تساوي النظر إليها من جهة أخرى، وباعتقادنا أن هذا الأمر كان مقصوداً من قبل المعلم الأول، وليس عشوائياً كما ذهب كانط.

فقد درب أرسطو العقل الفلسفي على الترقي والتدرج من المحسوس، إلى التصور الذهني ثم إلى المعقول، مدعماً بالأقيسة والاستدلالات المنطقية.

ولهذا السبب جعل أرسطو المنطق آلة للفكر ومدخلاً للعلوم، ولم يجعله علماً مستقلاً، بمعنى أن أرسطو جعل من المنطق خدمة للميتافيزيقا التي تهدف إلى ضرورة وجود جوهر مفارق تسعى كل الموجودات لمعرفته والتشبه به.

لقد ركز أرسطو عل الجوهر بوصفه الماهية أو الصورة، والصورة مفهوم كلي عقلي(هنا يحصل التداخل بين المنطقي والأنطولوجي)، والبحث عن الماهية مرتبط بالغائية، وهذا لا يؤدي إلى تأسيس المعرفة لأن الماهية مقولة فكر وليس مقولة واقع، وهذا يشكل علامة فارقة بين أرسطو و كانط.

لقد رفض كانط مقولة الماهية (النومن) وعدها مقولة فارغة بينما اعتبر "الفينومن" أي أعراض الظاهرة، هي ما يؤسس عليها المعرفة.

ولذلك تقول الكاتبة أحلام عبد الله:" إن مقولات أرسطو لم تسهم في تأسيس نظرية معرفية قائمة على جدلية العلاقة بين الذات والموضوع، ولم تحدد موضوع المعرفة بل أسهمت (على عكس كانط) في تعميق الصلة بين المنطق والميتافيزيقا"(ص142).

المقولات وأبعادها الإبستمولوجية عند كانط

في الفصل الخامس عرضت الكاتبة أحلام طريقة كانط في توظيف المقولات والذي كان يختلف تماماً عن التوظيف الأرسطي لها، فللمقولات عند كانط دور معرفي أو إبستمولوجي، لأن المعرفة لا تكون ممكنة من غيرها، فقامت بدراسة استنباط كانط لقائمة مقولاته القبلية هذا الاستنباط الذي يهدف إلى إثبات حقيقة امتلاك الذات لمقولات قبلية من جهة، وتبيان أهمية هذه المقولات في عملية المعرفة من جهة أخرى.

وتطرقت الكاتبة في هذا الفصل لإشكالية انطباق المقولات على " الحدوس الحسية" وعن دور الذات الواعي في حل هذه الإشكالية، ودور ملكة المخيلة الإبداعي في توفير الرسوم التخطيطية(الإسكيميات) للتقريب بين المقولات المحضة والحدوس الحسية. وبحثت أخيراً مبادئ الفهم الخالص...تلك المبادئ التي توجب على الحدوس الحسية أن تكون خاضعة للمقولات.

وفي دراسة الكاتبة لنظرية المقولات عند كانط رصدت تصور جديد للمقولة يختلف عن التصور الأرسطي لها، فكانط قدم المقولات على أنها "الوظائف المنطقية" أو الروابط الأولية" أو "العلاقات الضرورية" التي تجعل التجربة ممكنة والحكم ضرورياً وكلياً، في حين عَدَّها أرسطو بمثابة" أجناس كلية" أو " أجناس عليا" تندرج تحتها جميع المحمولات والموضوعات.

والمقولات عند كانط تقسم إلى نوعين مختلفين، بيد أنهما يشتركان في مقولتي "المكان والزمان" أما النوع الثاني فيضم تصورات الفهم الخالص، وهي عبارة عن اثنتي عشرة مقولة، والتمييز بينهما هام بالنسبة لكانط، ذلك أن المقولات الأرسطية ـ كما فهمها كانط ـ ليست متجانسة، لأن أرسطو أدرج ضمنها مقولتي الزمان والمكان في حين أن هاتين المقولتين لا ترتدان إلى الفهم بل إلى التصور الحسي المحض.
 
وقد لاحظت الكاتبة غياباً لعدد من المقولات الأرسطية مثل "الوضع" و"الفعل" و"الانفعال" أما مقولة الجوهر فهي المقولة الوحيدة التي نجدها في كلتا القائمتين، إلا أنها لا تؤدي الدور نفسه عند كل من أرسطو وكانط ، إذ نجد أن الجوهر عند كانط هو من المقولات الإضافة أو العلاقة، بينما عند أرسطو هو الشيء الخارجي، المحسوس أو بلغة كانط هو "النومين".

 

لقد اكتشف كانط ان سر نجاح العلم هو أن العقل استطاع أن يتحكم بموضوع المعرفة لا العكس، وأن العقل استطاع أن يؤثر في التجربة ويجعلها خاضعة له بواسطة تصوراته ومبادئه القبلية.

 



استنبط كانط مقولاته من "ملكة الفهم الخالص" فلا التجربة ولا الأحكام العلمية هي الأصل في قيام تلك المقولات بل العكس هو الصحيح، ويلزم عن هذا الاستنباط أن المقولات هي التي تجعل التجربة ممكنة عن الأشياء في ذاتها بل فقط شرط لمعرفة ظاهراتها، وأنه لا قيمة لمقولات المحضة إلا إذا قمنا بملئها بمعطيات الخبرة. وقد عد كانط هذا الاستنباط أهم ما يميز مقولاته عن مقولات أرسطو (ص 247).

وفيما يخص موقف كانط من المنطق الأرسطي وجد الكاتبة أن رفض كانط أي تعديل على هذا المنطق، هو تمهيد لوضع منطق جديد هو " المنطق الترانسندنتالي" هذا المنطق الذي خصصه كانط لدراسة المقولات وتحديد مجال تطبيقها، فهو اداة لربط المقولات بمجال الخبرة التدريبية من جهة، وقانون لوضع حدود لمعرفتنا من جهة أخرى. على خلاف منطق أرسطو الذي وظف المقولات لأغراض ميتافيزيقية مفارقة لا يمكن التأكد من يقينها.

لقد اكتشف كانط ان سر نجاح العلم هو أن العقل استطاع أن يتحكم بموضوع المعرفة لا العكس، وأن العقل استطاع أن يؤثر في التجربة ويجعلها خاضعة له بواسطة تصوراته ومبادئه القبلية.

 

أرسطو حاول ان يفسر الوجود ويكشف عن ماهيته بواسطة المقولات، بحيث يرد جميع هذه المقولات إلى مقولة الجوهر بوصفها المقولة الأولى والأهم (منطقياً وطبيعياً وميتافيزيقياً)، أما كانط فقد وضع الجوهر المادي في حوزة العقل بدلاً من أن يتركه في الطبيعة،

 



ولذلك نقول إن كانط قدم تصوراً جديداً للمقولة يختلف عن التصور الأرسطي لها، فقد كانت مقولات أرسطو موضوعية، لأنها تنصب على الأشياء، من حيث هي مفهومة من ناحية، وميتافيزيقية لأنها تنصب على الجوهر المفارق من ناحية أخرى، في حين أن مقولات كانط ذاتية، لأنها تنصب على العقل من حيث هو "فهم" وبينما كان أرسطو يهدف من وراء قائمة مقولاته إلى وضع نسق تأليفي للأشياء في كثرتها أو تعددها، أعنى إلى تشريح الفكر الخالص، ولكن في علاقته بموضوعاته.

لذلك نعتقد أن المقولة الأرسطية أنطولوجية ميتافيزيقية، بينما المقولة الكانطية فهي إبستمولوجية معرفية، والواقع أن هذا الانزياح الفكري في توظيف المقولات من المستوى الميتافيزقي عند أرسطو إلى المستوى اإبستمولوجي عند كانط.

من كل ماتقدم نخلص إلى القول: أرسطو حاول ان يفسر الوجود ويكشف عن ماهيته بواسطة المقولات، بحيث يرد جميع هذه المقولات إلى مقولة الجوهر بوصفها المقولة الأولى والأهم (منطقياً وطبيعياً وميتافيزيقياً)، أما كانط فقد وضع الجوهر المادي في حوزة العقل بدلاً من أن يتركه في الطبيعة، وجعله مقولة كغيره من المقولات القبلية التي لا تنطيق إلا على عالم الظاهر، أما عالم الأشياء في ذاتها فيقع خارج إطار عملها، ومن ثم لا يمكن لنا معرفته، وقد وصل كانط إلى نتيجة مفادها أن الطبيعة لكي تكون معلومة لنا يجب أن تتطابق وشروط فكرنا، بمعنى أن شروط الطبيعة يجب ان تستنبط من شروط الفكر.

من هنا يتجلى لنا الانقلاب الذي أحدثه كانط على أرسطو، إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر بدلاً من ان يكون الفكر خاضعاً لنظام الأشياء، والطبيعة، والغائية الكونية، كما هو عند أرسطو.