كتب

كيف أسهم غياب الإصلاح الديني في ولادة التنظيمات المتطرفة؟

هل يكفي الخيار الأمني لمواجهة الفكر الداعشي المتطرف؟ (تويتر)

الكتاب: "داعش شرعنة التوحش"
الكاتب: وفاء صندي
الناشر مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى نوفمبر 2020

(456 صفحة من القطع الكبير)

إذا أردنا أن نقدم مقاربة موضوعية لفهم واستيعاب نشوء الفكر "الداعشي" التكفيري، فعلينا أن نرى أنَّ هذا الموضوع مرتبطٌ أشد الارتباط بالإخفاق في تحقيق الإصلاح الديني في العالم العربي، رغم أنَّ مشروع النهضة العربية الأولى قام، في الأساس، منذ نهاية القرن التاسع عشر على تحقيق  الإصلاح الديني كسبيل حتمي للخروج من حالة الجمود التي ورثها العقل العربي (والإسلامي) القائم على تجديد أساسيات الفكر الديني، كالتعامل مع النص المقدس لجهة إخضاعه لمستلزمات العصر وفتح باب الاجتهاد وترسيخ الانتماء للدين كإطار أوسع، وليس للمذهب أو الطائفة، وإعطاء الأولوية لمواجهة الاستبداد والاستعمار، وللوحدة السياسية...الخ.

كانت النهضة العربية الأولى تمثل مشروعاً فكرياً وثقافياً يتطلع إلى المستقبل، بما في ذلك العمل على إحياء تراث الحضارة العربية الإسلامية والاستثمار فيها، بوصفها القاطرة التي سعى المثقفون والمفكرون والساسة، أو كثير منهم، إلى استغلالها لنقل حياة العرب والمسلمين من نموذج المجتمعات التقليدية السلطانية والقرسطوية إلى النموذج الحديث، وإعادة تشكيل حياتهم بحسب القيم والمعايير الحديثة، الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.. 

لقد ولد الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر في ثياب نزعة إنسانية كونية قوية. وارتبط نشوؤه بمفهوم إيجابي لا نزال نردده إلى اليوم هو عصر النهضة، تيمنا بعصر النهضة أو الانبعاث الأوروبي في القرن السادس عشر، وما رافقه من ازدهار في الآداب والفنون والعلوم وجميع أشكال التغير الإيجابي والتقدم والإبداع. فقد مثلت في ذلك العهد بداية اكتشاف العرب أو مثقفيهم للعالم الحديث الصاعد من حولهم، وما يعنيه من تطور للعلوم والتقنيات والنزعات العقلية والأخلاقية. 

وكان جوهر الإصلاح الديني هذا هو الانفصال بالعرب أو الابتعاد بهم عن عصر الثقافة القروسطوية وتقاليدها وتراثها، وإدراجهم في عصر الثقافة الحديثة، والعمل على استيعاب مفاهيمها وقيمها وتطلعاتها العقلية والإنسانية. وفي هذا العهد سيرتبط مفهوم الإصلاح الديني الناشئ بالمفاهيم الجديدة الصاعدة مثل الحرية والوطنية والدستور والمواطنة، ويتطابق مع عملية البحث عن تأصيل الثقافة الزمنية وتنمية العلوم العصرية المتميزة عن العلوم الدينية.
 
ما حدث من نكوص وارتداد عام عن هذا المسار بدأ مع رشيد رضا بإحداثه قطيعة شاملة مع كل نزوع نحو العقلانية، بإرجاعه مسار الإصلاح الديني الذي بدأ يخطو خطوات في مسار التجديد والقطيعة مع الجمود والتخلف، إلى ضيق الوهابية بدل سعة الدين الجامع وبترسيخ الهويات المذهبية الجزئية، بدل الهوية الكلية التي شكلت أساس رواد النهضة الأوائل وبزرع بذور التناقض الوهمي ـ الذي كرسه الإسلام السياسي الذي خرج من عباءته ـ بين العروبة والإسلام، والارتباط الساذج مع الإمبراطورية التركية العثمانية باعتبارها "خلافة إسلامية" يكون إرجاعها أسمى غاية والانتماء لها أعظم شرف.

وشكل هذا النكوص باكورة تشكل "العقل الطائفي العربي"الذي يتغذى من البنية الفكرية التراثية التي تؤطر وعي الغالبية من هذه الأمة، بنية لم تعرف إدارة الاختلاف السياسي والفقهي إلا من زاوية التكفير وقطع الرؤوس. بل والصعود بالقائمين بهذه الممارسات إلى مصاف الأبطال والقديسين. 

والمسألة هنا لا تتعلق بجلد للذات بالحديث عن خصوصية عربية أو إسلامية للإجرام والمجازر، كما يمكن أن يفهم البعض، فأوروبا عرفت تاريخاً مشابهاً لتاريخنا، بل يتعلق الأمر بتوصيف للبنية الفكرية التي لم نقطع معها كما قطع معها غيرنا في مسار نهضته ـ أوروبا نموذجا ـ لأنَّ هذه البنية ما فتئت تنتج لنا ظواهر داعشية تستمد منها خطابها، وآليات تفكيرها، فهي بهذا المعنى ترسخ لنا حقيقة أن الظاهرة الداعشية ليست إلا إعادة إنتاج لما هو كائن في هيئة منظومة فكرية وفقهية وتراثية ما زالت تحكمنا وتصنع وعي الغالبية من مجتمعاتنا أعطاها البترودولار زخماً إضافياً للانتشار العمودي والأفقي في بيئتنا.

فالحديث عن الانتصار على هذه الظاهرة ـ على أهمية الجانب الأمني والعسكري ـ من دون التفكير في آلية إعادة إنتاج مسار الإصلاح الديني الذي يقطع مع هذه البنية، هو ضرب من الخيال، لأنها مترسخة في الوجدان كما في العقول أكبر مما نتصور.

 فظاهرة "داعش" ما هي إلا تعبير مسلح وعنيف عن آلية تفكير موجودة ومسيطرة خلقت نسقاً اجتماعياً ـ فكرياً صعب حتى على "التيارات القومية العلمانية" اختراقه، بل هادنته وسايرته في أحيان، وذابت فيه في أحيان أخرى كما في حالة "البعث العراقي" الذي تحول من حزب علماني ينشد الوحدة والاشتراكية إلى جزء بسيط في معركة تديرها "داعش" بخطاب ظلامي وإجرامي غارق في الطائفية والجمود، أو حالة بعض "المفكرين العقلانيين" الذين ما زالوا ينظرون إلى مدارس جامدة ومتخلفة تشكل المرجعية الفكرية للظواهر الداعشية باعتبارها حركات إصلاحية ـ المدرسة التيمية نموذجا ـ فترسخ هذا النسق في المجتمع بتحوله إلى واقع متجذر، هو الذي يجعل من التقسيمات الطائفية تطغى على أي اصطفاف إيديولوجي حتى ولو كان ماركسيا.

هذا تماما الذي جعل من الحزب الشيوعي العراقي ينقسم إلى "شيوعيين شيعة" و"شيوعيين سنة" أو أن يقبل شيوعي عراقي الدخول إلى مجلس الحكم في العراق بعيد احتلاله بصفته الطائفية لا بصفته الحزبية الإيديولوجية، في مشهد غريب، ولكنه معبّر عن مدى ترسخ هذا النسق من جهة، وعجز التيارات العلمانية عن اختراقه بل وذوبانها فيه من جهة أخرى، حسب قول الكاتب عبد الله بن عمارة، هل داعش غريبة عنا؟ صحيفة السفير 25يوليو/تموز 2014.

من إقامة "الدولة الإسلامية" وتحطيم حدود سايكس بيكو إلى هزيمة "داعش"

لقد استفاق الشرق الأوسط من جديد بدوله الحديثة على ظاهرة "داعش" الموصوفة بـ "العصابات المسلحة" الإرهابية و التكفيرية ، وهي تعلن قيام دولة الخلافة في المناطق التي تسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، وهو ما يعني تدمير اتفاقيات سايكس بيكولسنة 1916 التي قامت على أنقاضها الدول الحديثة التي استولدها الاستعمار الغربي. فاستفاقت إيران وتركيا، ومن بعدهما الإدارة الأمريكية والقيادة الروسية، على خطر جديد يهدد خريطة المنطقة بإعادة تقسيمها على أسس دينية ومذهبية وعرقية، بعد أن وصل انحدار ما كان يعرف في الأدب السياسي الحديث النظام الإقليمي العربي إلى مستوى الحضيض.

الخريطة الحالية للشرق الأوسط تتمزق، لأن الحدود التي تُحَدِّدُ أراضي كل من العراق، وسوريا، ولبنان ،وتركيا، واليمن ،قابلة للإختراق و التغييرمن الآن فصاعداً،و هي لا تعكس أبداً الواقع القائم على الأرض. ففي ظل "الدولة الإسلامية" ـ "داعش" التي لاتعترف بالحدود بين الدول العربية الموروثة من التقسيم الاستعماري الفرنسي والبريطاني، رأينا كيف أن الدول الحديثة الشرق أوسطية، لا سيما في العراق، وسوريا، و اليمن، تقوضت أسسها رأساً على عقب، وبنيتها غير التوافقية، تحت تأثير ظاهرة الحرب الإرهابية التي تخوضها الحركات الجهادية ضد النظم الحاكمة .

وهكذا، فإنَّ الحدود العراقية ـ السورية لم تعد موجودة منذ سنة 2012 على الأقل، بعد أن أعلن التنظيم الجهادي "داعش"في نهاية حزيران (يونيو) 2014 إقامة "الخلافة الإسلامية" على المناطق التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، والتي شملت مناطق في شرق سوريا وشمالها، وغرب العراق وشماله.و الأمرعينه ينطبق على الحدود السورية ـ اللبنانية، حيث كانت الحركات الجهادية التكفيرية تحظى بحرية الحركة، إضافة إلى تحول لبنان إلى قاعدة لوجيستية لمدّها بالأسلحة والرجال ،حتى قيام الجيش السوري باستعادة جبال القلمون في شهر أيار (مايو) 2014.

ومن جهة أخرى دخل حزب الله بقوة في الحرب الأهلية السورية إلى جانب الجيش السوري في مواجهة  الحركات الإرهابية التكفيرية منذ سنة 2013، وكانت أولى مشاركته في هذه الحرب هي معركة مدينة القصير في محافظة حمص. هنا أيضا نلمس بوضوح أن خرائط الحدود لا تعرقل تنقل المقاتلين. ولكن في الواقع، الحدود السورية ـ اللبنانية سقطت منذ تدخل قوات الردع العربية (وهي في غالبيتها المطلقة قوات من الجيش السوري) في لبنان سنة 1976، عقب التداعيات  الخطيرة التي أفرزتها الحرب الأهلية اللبنانية  التي اندلعت في 13 نيسان (أبريل) 1975.

بصورة عامة، الحدود بين الدول الشرق أوسطية الموروثة من اتقافيات سايكس بيكو أُزِيلَتْ الآن كنتيجة منطقية لتفكك دول المنطقة، ولظهور تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبّر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية متعلقة بأقليات مخصوصة. ومن الواضح أن عدداً من هذه الطوائف "الأمم" بالمعنى العثماني للعبارة، المتكّسية فيما مضى في الإمبراطوريات المسلمة، صارت غداة الحرب العالمية الكبرى الأولى، تتطلع إلى أن تصبح أمماً بالمعنى العربي للعبارة، مسلّماً بها بأن تتوكد كل منها في دولة تكون خاصة بها.

 

لا يزال العالم أمام مجموعة من التحديات في المستقبل، وأخطرها إمكان إعادة تنظيم الدولة لنفسه مجدداً ما دامت الأسباب التي أدت إلى ظهوره لا تزال قائمة، وما دام الفكر الذي نجح في توظيفه بالصراع الوجودي الذي تشهده المنطقة، وهو صراع ذو خلفية طائفية، ليس موجوداً إن هذا النوع من التنظيمات الإرهابية، كما هو معروف، لا تصبح قوية إلا بعد سقوطها وإعلان نهايتها.

 


من هذا الواقع سوف تكون أولى الاختيارات الإستراتيجية المتعلقة بالأقليات وأكثرها راديكالية،هي الانفصالية بمواجهة الدول المتعددة الطوائف( سوريا، العراق، لبنان، اليمن) الناشئة حديثاً على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.. وقد تجسد هذا الاختيار الانفصالي وحقيقة نشاطه الأشدّ وضوحاًفي الوقت الراهن، في شمال العراق، حيث أن حكومة كردستان العراق أصبحت تضخ النفط من دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد، منذ مايو 2014، خصوصاً بعد أن ضمت قوات البشمركة مدينة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان .

وهكذا وجدت الدول العربية الشرق أوسطية نفسها ممزقة إذن من جديد منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975،أمام مرمى لتنازع مزدوج يُمارس من جهة باسم الكيانات الطائفية الانفصالية، ومن جهة أخرى باسم مشروع "الدولة الإسلامية في العراق و الشام" الذي لا يؤمن بالحدود، ولا بالدولة، وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان "الطابع الاصطناعي" واللاشرعية في الدولة العربية، يمزقانها بين خطر التجزئة على أساس طائفي و مذهبي وعرقي -إثني ،وخطر تحطيم الحدود التي رسمتها اتقاقيات سايكس بيكو، في ظل إعلان "داعش" إنشاء كيان أوسع، هو كيان "دولة الخلافة الإسلامية".

أسهمت العوامل التالية مجتمعة: الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي أسقط نظام صدام حسين، وحطّم أيضًا مؤسسات الدولة من جيش وأجهزة مخابرات، ناهيك عن سمعة الفشل التي تلتصق الآن بالسياسة الخارجية الأمريكية، متأثرة بالسقوط المدوّي للاستراتيجية الأميركية في كل من العراق وأفغانستان، ودخول النظام الإقليمي العربي بكل مكوّناته في طريق الأزمة المستحكمة ذات الاتجاه الواحد، ونقصد بمكونات النظام العربي، سياسات الدول الأعضاء وأوضاعها الداخلية، إمكاناته وقدراته الكلية والقطرية وتحالفات الأعضاء وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وكذلك نقصد حالة "عقيدته" السياسية والفكرية المحركة لشبابه وعقوله، في إعطاء دفعة قوية للحركات الجهادية التكفيرية، لا سيما "داعش" لكي تطرح مشروع تأسيس" دولة الخلافة الإسلامية" على أنقاض النظام الإقليمي العربي الذي انهارت مكوناته جميعها.
 
إن ما يثير الانتباه في الخريطة الجيوبوليتيكية العالمية في ظل بروز ظاهرة تنظيم "داعش" الإرهابي هو ما يلي: هل أصبحت الحرب ضد الإرهاب هي المبدأ المنظم للعلاقات الدولية، الذي يُنْزِلُ إلى المرتبة الثانية حزمة الصراعات والفوضى السابقة؟ 

ليست الهزيمة التي مُني بها تنظيم "الدولة الإسلامية" على الأرض نهائية، وليس الانتصار الذي أعلنت عنه قوات التحالف والقوات النظامية في العراق سوريا مكتملاً. قد يكون التنظيم أضعف في المدى المتوسط، ولكن من المستحيل أن يكون قد هزم نهائياً، لا يزال العالم أمام مجموعة من التحديات في المستقبل، وأخطرها إمكان إعادة تنظيم الدولة لنفسه مجدداً ما دامت الأسباب التي أدت إلى ظهوره لا تزال قائمة، وما دام الفكر الذي نجح في توظيفه بالصراع الوجودي الذي تشهده المنطقة، وهو صراع ذو خلفية طائفية، ليس موجوداً إن هذا النوع من التنظيمات الإرهابية، كما هو معروف، لا تصبح قوية إلا بعد سقوطها وإعلان نهايتها. 

 

ليست الهزيمة التي مُني بها تنظيم "الدولة الإسلامية" على الأرض نهائية، وليس الانتصار الذي أعلنت عنه قوات التحالف والقوات النظامية في العراق سوريا مكتملاً. قد يكون التنظيم أضعف في المدى المتوسط، ولكن من المستحيل أن يكون قد هزم نهائياً،

 



ثم يأتي، بعد ذلك، من يعيد إحياءها إما من خلال الخلايا النائمة، التي تعيد تنظيم نفسها بسرية قبل أن تخرج وتنفذ عملياتها وتستكمل مشروعها في العلن، أو من خلال المئات، إن لم نقل الآلاف، من المقاتلين والمتعاونين المستعدين لتقديم حياتهم فداءً للعقيدة التي أسس لها التنظيم. سوف يستغل هؤلاء حالة التوتر والحروب الأهلية المندلعة في عد من الـأول حول العالم لتحقيق أهدافهم، وبخاصة أن تنظيم الدولة هو خير من أجاد استغل الصراعات الداخلية، وتمرس عليها من أجل نشر فكره وعقائده وبنيته الاجتماعية.

تقول الباحثة المغربية وفاء صندي: "إن فكرة "الخلافة" لتي روجها تنظيم "الدولة الإسلامية"، سوف تستمر في إلهام التنظيمات المتطرِّفة والإرهابية في العالم. وستبقى مصدر إلهام، أيضاً، لهجمات إرهابية متفرقة، داخل سوريا والعراق وخارجهما، حتى لو لم تكن هناك أي خلافة على الأرض. ستتمدد حتى وإن سقطت دولته. في 4 نيسان /أبريل 2018، جدد مقاتلو التنظيم البيعة لأبي بكر البغدادي، معلنين له الولاء حتى بعد الهزيمة على الأرض. وقد جاء في بيان نُشر على مواقع تواصل اجتماعي تابعة للتنظيم: "إغاظة للكفار وإرهاباً لهم نجدد بيعتنا لأمير المؤمنين وخليفة المسلمين الشيخ المجاهد أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي حفظه الله".
 
تجديد البيعة، بين الفينة والأخرى، يؤكد أن التنظيم، كـ "دولة"، يمكن أن يُهزم عسكرياً ويسقط وينهار، لكنه كـ "فكرة" سيبقى ملهماً لمقاتليه، وللإرهاب العالمي ككل، حتى لو لم تكن هناك أي خلافة قائمة فعلياً على الأرض. ستبقى الفكرة قائمة ومتمددة لمدة طويلة وسيكون لها تأثير تحفيزي على جيل من المتطرفين والمقاتلين. هذا ما دفع التنظيم، مع بداية هزائمه في سورية والعراق، إلى التركيز على بناء ترسانته الفكرية، من خلال إنتاج برامج تربوية تعليمية ونشر كتيبات في الإرشاد الديني، تبرر أفعاله الدموية وتكون عامل جب لمقاتلين جدد، من ناحية، وتكون مرجعاً فكرياً لجيل جديد من الإرهاب، من ناحية ثانية"(ص390).

هزيمة "داعش" وإعادة إنتاج الخطر المستقبلي عبر "الذئاب المنفردة"

أثار قرار إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 19 كانون الأول / ديسمبر عام 2018، انسحاب 2000 جندي أمريكي أو أكثر، معظمهم من القوات الخاصة من سورية، غضب المشرعين الأمريكيين وأثار الاستقالات، بما في ذلك وزير الدفاع جيمس ماتيس والمسؤول الكبير في وزارة الخارجية المسؤول عن الحملة ضد تنظيم داعش الارهابي.

وفيما أعلن الرئيس ترامب النصر على داعش قائلاً:إنّ الولايات المتحدة "ضربتهم بشكل سيئ" في سورية،رفض المسؤولون الأمريكيون فكرة تحقيق انتصار واضح على داعش،لا سيما الجنرال جوزيف ليونارد فوتيل قائد القوات الخاصة الأميركية في سورية خلال لقائه مع رؤساء أركان القوات المسلحة في مجلس التعاون الخليجي،حين وقال: إنه "لم يتم استشارته" قبل إعلان ترامب المثير للجدل في أواخر العام الماضي، أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها بسرعة من سوريا.

وقال قائد القوات الأمريكية الذي كان يقود الحرب ضد تنظيم داعش الارهابي لـ CNN الجمعة الماضي:إنّه لا يتفق مع قرار دونالد ترامب بسحب القوات من سورية، وحذر من أن التنظيم الإرهابي بعيد كل البعد عن الهزيمة،وقال جوزيف فوتيل عن سحب القوات "لم تكن نصيحتي العسكرية في هذا الوقت بالذات... ما كنت لأقدم هذا الاقتراح بصراحة". 

التنظيم الإرهابي لا يزال لديه قادة، ولا يزال لديه مقاتلون،وما زال لديه ميسرون،ولا يزال لديه موارد، لذا فإنّ الضغط العسكري المستمرضروري لمواصلة السير من أجل القضاء عليه نهائياً. 

ويقول فوتيل إنّه لن يعلن عن هزيمة تنظيم داعش الارهابي، كما فعل ترامب في ديسمبر كانون الأول 2018، إلا إذا كان متأكدًا من أنّهم لم يعدوا يشكلون تهديدًا. وقال فوتل: "عندما أقول" لقد هزمناهم "، أريد التأكد من أنه ليس لديهم القدرة على التخطيط أو توجيه هجمات ضد الولايات المتحدة أو حلفائنا". لا يزال لديهم هذه" الأيديولوجية القوية".

 

بعد خسارة التنظيم النهائية للأرض وانهيار الدولة المزعومة، لا يزال تهديد التنظيم قائماً ويتمدد. ففي العراق، لا يزال يمتلك قوة لا يُستهان بها، وتشير المصادر كافة إلى أنه يمر بمرحلة ترقب وانتظار وإعادة ترتيب صفوفه، ولا سيما أنه خرج من الموصل نحو صحرائها بعناصره وعتاده كافة. أما في سوريا، فمن غير المستبعد أن يستفيد من تعارض المصالح والاستراتيجيات بين الدول الإقليمية والدولية،

 


تقول الباحثة المغربية وفاء صندي: "قبل هزيمة التنظيم في آخر معاقله بمنطقة الباغوز في سوريا، ذكر تقرير للأمم المتحدة، أنه على الرغم من هزائم تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا، وخسارته ما يزيد عن 90 بالمئة من مداخيله التي اكتسبها من عام 2015، إلا أنه "لا يزال يمثل تهديداً كبيراً ومتنامياً في جميع أنحاء العالم" ووفقاً للتقرير، "يتخذ التنظيم حالياً هيئة شبكة عالمية تتسم بتراتبية أفقية وسيطرة عملياتية أقل على الجماعات المرتبطة به". 

وبعد خسارة التنظيم النهائية للأرض وانهيار الدولة المزعومة، لا يزال تهديد التنظيم قائماً ويتمدد. ففي العراق، لا يزال يمتلك قوة لا يُستهان بها، وتشير المصادر كافة إلى أنه يمر بمرحلة ترقب وانتظار وإعادة ترتيب صفوفه، ولا سيما أنه خرج من الموصل نحو صحرائها بعناصره وعتاده كافة. أما في سوريا، فمن غير المستبعد أن يستفيد من تعارض المصالح والاستراتيجيات بين الدول الإقليمية والدولية، ومن غزو تركيا لشمال سوريا ورغبتها في إقامة "منطقة آمنة"، ومن تعثر استعادة مؤسسات الدولة وغياب التوافق الداخلي (ص390).

في سوريا، شكلت منطقة الباغوز، شرق سوريا، آخر المعاقل التي سيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية"، بعد أن كان يسيطر على نحو 90,000 كيلو مترمربع، ويحكم ما يقرب من 12 مليون شخص ما بين العراق وسورية. ومع خسارته هه المنطقة، في آذار/مارس 2019، لم يتبق له في سوريا والعراق إلا بعض المناطق الصحراوية النائية والخالية من أي حواضر مدنية أو بنية تحتية. ومع ذلك فالتنظيم، كما جاء في رسالة صوتية لأبي بكر البغدادي، في منتصف أيلول (سبتمبر) 2019، بعنوان "وقل اعملوا"، "لا يزال موجوداً رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش" لا يزال ،أيضاً، يمثل تهديداً حقيقياً، يتجلى في :
 
أولاً ـ قدرته على شن هجمات، على غرار التفجير الذي قام به في كانون الثاني (يناير) 2019 في منبج السورية وأدى إلى مقتل 14 شخصاً من بينهم أربعة أمريكيين، وتفجير حافلة بمدينة كربلاء، في أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها، أدى إلى وفاة 12 شخصاً وإصابة نحو 7 آخرين. 

ثانياً ـ القيادات الأمنية الفاعلة في التنظيم، لا تزال موجودة، وهي قادرة على لإعادة تأسيسه من جديد. 

ثالثاً ـ قدرة التنظيم على التأثير في الشباب السني داخل سوريا والعراق، ما دامت الاستقطابات الطائفية مستمرة، الأمر الذي سيستغله التنظيم للبقاء والانتشار. قد يجد خطاب التنظيم الدعائي المعبر عما يعتقده العرب السنة بتعرضهم للظلم والتهميش والإقصاء قبولاً في أوساط الفئات أو الأفراد المتضررين من تلك السياسات.

وعيا منها بهذه المعطيات، حذرت القيادات العسكرية، التي قادت المعركة في الباغوز، من أن نهاية التنظيم الحالية نهاية مرحلة من الصراع ودخول في مرحلة صراع جديدة.
 
هذه المرحلة الجديدة عبر عنها التنظيم في خطاب عبر المواقع التابعة له. وتتمثل بالتزامه بـ "الحرب الطويلة" وحرب "الاستنزاف" متوعداً بالنصر على "الأعداء"، وهزيمتهم في نهاية المطاف. وقد بدأت العودة إلى أسلوب حرب العصابات بصورة مكثفة في العراق وسوريا للحفاظ على زخم نشاطاته والإعلان الواسع عنها للحفاظ على معنويات مقاتليه التي تضررت كثيراً بعد خسارة آخر معاقله، ومقتل مقاتليه واستسلام من بقي منهم. في العراق، بعدما أعلن رئيس وزراء العراق آنذاك، حيدر العبادي، النصر على التنظيم في 2017 ، شن مقاتلوه خلال الأشهر العشرة الأولى 1271 هجوماً في العراق وحده. 

وفي الأسابيع التي تلت إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، النصر على التنظيم في كانون الثاني/ يناير 2019 ، شن مقاتلوه 128 هجوماً على الأقل في سوريا، من طريق الاغتيالات والتفجيرات والكمائن. ولا يزال التنظيم قادراً على شن المزيد من العمليات، ولا يزال يملك عشرات الألوف من المقاتلين في العراق وسورية، بحسب تقديرات الجيش الأمريكي، ولا تزال الأراضي المحررة من قبضته غير آمنة، وتنشط فيها الخلايا النائمة على نحو كبير. 

كذلك أكد المفتش العام في وزارة الدفاع الأمريكية في تقرير بتاريخ 5 آب /أغسطس 2019 ، أن تنظيم "الدولة الإسلامية" على الرغم من خسارة "خلافته" على الأرض، فقد عزز قدراته المسلحة في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الثالث من عام 2019 وأضاف أن التنظيم استطاع "إعادة توحيد (صفوفه) ودعم عمليات" في كلا البلدين، وذلك لأسباب منها أن القوات المحلية "غير قادرة على مواصلة شن عمليات طويلة الأمد، أو القيام بعدة عمليات في وقت واد، أو الحفاظ على الأراضي" التي استعادتها، وأضاف التقرير أن التنظيم حشد ما يصل إلى 18000 مقاتل في العراق وسوريا. ونقلت خلاياه النائمة عمليات تفجير وهجمات قناصة وكمائن وخطف واغتيالا ضد قوات المن وقادة المجتمع. ويستخدم التنظيم عمليات الابتزاز لتمويل عملياته، وقد قام بحرق مزارع الفلاحين في شمال العراق الذين يرفضون دفع الأموال له. 

 

أخطر أبعاد هذه التغيرات أن هجمات "الذئاب المنفردة" توجه غالباً إلى أهداف ناعمة أو سهلة، تتسم عادة بعدم احكام الإجراءات الأمنية، أو وجودها في حدها الأدنى. وهذه الأهداف غالباً ما تكون "تجمعات بشرية" لإيقاع عدد أكبر من الضحايا الأبرياء، بحيث يكون وقع الحدث مدوياً، سواء على المواطنين أنفسهم، أو على السلطات الرسمية والحكومية في الدول المستهدفة.

 



في نطاق تحليلنا لإعادة إنتاج الخطر المستقبلي، يمكن الإشارة لأهم ملامح التغير التي طرأت على استراتيجية تنظيم "داعش" الإرهابي، التي عُدّت كتحولات تم اعتمادها داخل التنظيم، استعدادًا منه لمواجهة المستقبل "المنحسر" في المركز،ورغبة من قياداته في إبقاء القدرة حاضرة لإنتاج مزيد من التهديد المستقبلي.وتتمثل أهم ملامح التغير، التي طرأت على استراتيجية "داعش"، في اعتماده أخيراً على شن هجمات فردية بآلات تقليدية بسيطة في معظمها، يقوم بتنفيذها فرد أو فردان، ضمن ما يعرف بـ "الذئاب المنفردة"، بهدف توسيع دائرة الترويع والخوف، والرعب لأقصى مدى ممكن في مناطق بعينها من الدول المستهدفة.

ويعد أخطر أبعاد هذه التغيرات أن هجمات "الذئاب المنفردة" توجه غالباً إلى أهداف ناعمة أو سهلة، تتسم عادة بعدم احكام الإجراءات الأمنية، أو وجودها في حدها الأدنى. وهذه الأهداف غالباً ما تكون "تجمعات بشرية" لإيقاع عدد أكبر من الضحايا الأبرياء، بحيث يكون وقع الحدث مدوياً، سواء على المواطنين أنفسهم، أو على السلطات الرسمية والحكومية في الدول المستهدفة. 

فما حدث في بعض الهجمات، التي شهدتها المانيا وفرنسا، كشف عن هذا المدى من اتساع ذلك الخطر المقلق، مثل الهجوم الذي شنه محمد رياض، المهاجر الأفغاني، على ركاب قطار في مقاطعة "بافاريا" جنوبي ألمانيا في 18 يوليو 2016 ، حيث أكد حينها وزير الداخلية الألماني توماس دي مايتسيري، أن دعاية تنظيم "داعش" هي من حرضت المراهق الأفغاني على ارتكاب ما فعله، حيث لم تتوصل السلطات الألمانية إلى دليل يؤكد صدور أوامر من التنظيم له بتنفيذ الهجوم.والأمر نفسه بالنسبة لمحمد لحويج بوهلال، منفذ عملية الدهس في مدينة نيس الفرنسية 15 يوليو 2017، والتي أودت بحياة 84 شخصاً، جميعهم من المدنيين والسائحين.

ولعل أحد أهم مظاهر الخطر في التغيرات الاستراتيجية التي انتهجها "داعش" أيضاً أنه قد يتجه مستقبلاً إلى إشعال الصراعات الطائفية والمذهبية، عبر التركيز على استهداف تلك المكونات في الدول المستهدفة، على نحو يخل بحالة الأمن والاستقرار الذي يوفر البيئة الملائمة للتنظيم للوجود والنمو، على نحو ما حدث في العمليات الإرهابية التي نفذها تنظيم "داعش" في المملكة العربية السعودية ودولة الكويت، واستهدفت تجمعات شيعية لإشعال الفتن المذهبية، ونظيرتها التي نفذت في مصر ضد المنشآت الدينية المسيحية، وبحق بعض المواطنين المسيحيين بشكل مباشر، بغرض إشعال فتن، واحتقان طائفي، وهذا يجعل تنفيذ الاعتداءات الإرهابية مسألة مغرية للكثير من العناصر المتعاطفة مع الفكر الإرهابي، ويجعل "التشديد الأمني" مسألة محدودة الأثر في الكثير من الأحيان.

تقول الباحثة المغربية وفاء صندي:"ربما سيعتمد التنظيم في مرحلة أولى على هجمات الذئاب المنفردة وحرب العصابات. وربما سيعتمد على أفراد ومجموعات صغيرة لتنفيذ هجماته، مستخدماً وسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات التواصل المشفرة والإنترنت للتواصل مع أتباعه والجماعات المرتبطة به في المنطقة، لكنه، على الأكيد لن يكتفي بهذا القدر، وبخاصة أن سقف طموح التنظيم استدعت ظهوره في سورية والعراق ما زالت قائمة، وأهمها استمرار السياسات الطائفية، وفشل التنمية في المجالات كافة، وانتشار الفساد وتزايد معدلات الفقر والبطالة، وأزمة الهوية والتعسف في معالجة مشكلة الأقليات القومية ولعرقية والدينية، والتبعية السياسية والاقتصادية لبعض القوى الإقليمية والدولية"(ص391).
 
استراتيجية التنظيم ستقوم، حالياً، على الاحتماء في المناطق النائية والصحراوية، والتموضع في ثنايا الاختلافات المحلية والإقليمية والدولية، ومنها تصاعد حدة التهديدات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وتأثير هذه المواجهة المحتملة على الداخل العراقي، والظروف السياسية والاقتصادية ولاجتماعية التي كانت أهم مغذيات التنظيم في العراق والتي لم تتغير بعد. فالعراق لديه كل المقومات التي ق تجعله يدخل من جديد في حالة صراع. 

وبدل أن يستفيد من دروس الماضي، قد يجد نفسه غارقاً في حرب أهلية أخرى. وبعيداً من الاستقطاب السياسي والاجتماعي، يعاني العراق تزايداً مستمراً في كميات الأسلحة والمنظمات العسكرية وغياب المؤسسات القابلة للاستمرار والسلطات البديلة التي تحل محل الدولة العراقية، وتخرج الكثير من المواقع عن نطاق نفوذ الحكومة وسيطرتها، بما فيها الجنوب ذو الأكثرية الشيعية حيث تتوزع القوة بين الأحزاب والميليشيات والعشائر وعلماء الدين. وسوف يعمل التنظيم على الاستفادة منها من أجل إعادة بناء قدراته محاولة بسط سيطرته على الأرض مجدداً.

في الوقت الذي كانت لا تزال مجموعة من المناطق في سورية والعراق تعاني وطأة تهديدات تنظيم الدولة، وتفجيراته الانتقائية التي لم تبدأ منذ إعلان هزيمته في آخر معاقله في سوريا، باتت التهديدات أكبر من التدخل التركي في شمال شرق سورية، الذي من شأنه أن يزعزع استقرار كلا البلدين، فالتنظيم الذي يقتات من مشاكل الهوية في البلدين، ومن استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والمنية وصراع التوازنات الإقليمية والدولية، من المرجح أن يحاول معاودة نشاطه بشكل مكثف. فما دامت الأسباب التي أدت إلى ظهوره، قائمة، وما دامت هناك صراعات جديدة على الأرض تعطيه مجالاً للتنقل والتشابك مع خلاياه النائمة وتجنيد مقاتلين جدد لتنفيذ عملياته، فسيبقى التنظيم وسيتدارك هزائمه ويجمع شناته ويقوي صفوفه قبل احتمال عودته، سواء في الثوب القديم نفسه أو في ثوب جديد، لاستكمال ما بدأه في 2014.

 

إقرأ أيضا: جدلية الدين والسياسة في فكر "داعش".. قراءة في كتاب