كتب

هل تتحول الطاقة إلى سلاح استراتيجي بعد أن كانت أداة تنموية؟ كتاب جديد

هل الطاقة أداة تنموية محضة، تستعمل فقط كعامل من عوامل الإنتاج؟ أم أنها تتعدى ذلك للارتباط بمحيطها الجيو ـ استراتيجي عندما يستعملها مالكوها "سلاحا" استراتيجيا للدفاع عن مصالحهم؟
الكتاب: "الطاقة بالعالم، أداة تنموية أم سلاح استراتيجي"
المؤلف: محمد نجيب بوليف
دار النشر: مطبعة رؤى، سلا، الطبعة الأولى، 2024
عدد الصفحات: 272


تحتاج المكتبة العربية الإسلامية اليوم لدراسات علمية حول الطاقة وتأثيراتها سواء على التنمية أو على التحولات الاستراتيجية التي تجري في العالم، فلم تعد الطاقة اليوم مجرد مصدر لتقوية الموارد المالية بالنسبة للدول المصدرة، ولا أداة للتنمية بالنسبة للتي تستخدمها في تحريك عجلة الاقتصاد وتنمية الاستثمارات، بل أصبحت في الآونة الأخيرة ورقة مهمة في إدارة الصراعات الدولية، وتحسن التموقع في موازين القوى الدولية.

في السابق، انحصرت الإشكاليات المتمحورة على عنصر الطاقة على محورين اثنين، الأول وهو العلاقة مع البيئة، والتأثيرات التي تحديثها حاجة الصناعة إلى الطاقة وما ينتج عن ذلك من استنزاف موارد الطبيعة، وحجم الانبعاث الغازي الذي يتسرب إلى الطبيعة ويضر بها وبالساكنة، والثاني، سؤال الاستدامة، وما إذا كانت مصادر الطاقة التقليدية، ستفي بحاجيات التنمية لمدة أطول، أم أنها مهددة بالانقراض مما يستدعي معه البحث عن وسائل طاقية نظيفة ومتجددة وتتصف بسمة الاستدامة.

لكن اليوم، يبدو أن التحديات الكبرى التي عاشها العالم قبيل السنوات الأربع الماضية، طرحت إشكالات أخرى، ارتبط بعضها، بمحدودية الرهان على الطاقات المتجددة، بسبب عدم توصل العلم بعد إلى ابتكارات في عالم الطاقة تجعل مصادر الطاقة الجديدة تفي بأغراض الصناعة والتنمية بنفس الوتيرة التي تفي بها مصادر الطاقة التقليدية، كما ارتبط بعضها، باضطرابات السوق الطاقية، واستخدام الطاقة أداة في الصراع الدولي، سواء في الحرب، مثل  ما جرى  في الحرب  الروسية على أوكرانيا، أو في تدبير النزاعات، كما جرى بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد ألأوربي على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيات، وأيضا مثل ما يجري حاليا من صراع بين الصين والولايات المتحدة ألأمريكية للهيمنة على مصادر الطاقة المتجددة (مناجم الليثيوم على سبيل المثال)

نظرا لحاجة المكتبة العربية إلى دراسات علمية، تحظى بموثوقية أكبر، فإنا نعرض في هذه المراجعة كتابا صدر مؤخرا من باحث متخصص في اقتصاد الطاقة (محمد نجيب بوليف أستاذ التعليم العالي بكلية الاقتصاد بجامعة عبد الملك السعدي بطنجة، ووزير الحكامة والشؤون الاقتصادية سابقا، ثم وزير النقل في حكومتي كل من عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني) حرص في كتابه "الطاقة بالعالم، أداة تنموية أم سلاح استراتيجي" أن يقدم معطيات وبيانات مدققة (  ضم الكتاب 83 جدولا إحصائيا ورسما بيانيا)، مشفوعة بتحليل معمق لشكل التعاطي الدولي مع قضية الطاقة (تضمن 202 خلاصة فرعية)، ولا ينقضها الاستشراف لمستقبل الصراع حول الطاقة في العالم.

في قصد الكتاب:

قسم الدكتور محمد نجيب بوليف كتابه إلى أربعة أبواب و10 فصول، ووفر للقارئ مرجعا علميا ملخصا، حاول أن يضم مجمل الحيثيات والمعطيات المرتبطة بالواقع الطاقي العالمي، والمتعلقة بالاحتياطيات والإنتاج والاستهلاك والتأثير على البيئة، وذلك حتى يمكن القارئ من معرفة "موقع" الطاقة في المجالات الاستراتيجية والتنموية على الصعيد العالمي. وقد كان القصد المؤلف من هذا العمل العلمي الجواب عن إشكالية "قوة" الطاقة ومكانتها الاستراتيجية، من خلال تفكيك عناصر "قوة الردع" الطاقية، سواء تعلق الأمر بالقيمة المضافة للطاقة في الاقتصاد، أو ارتباطها بالنمو وتأثيرها فيه، أو الكثافة الطاقية، أو تنازع قوة الطاقة وقوة البيئة، وقد ساعده هذتا العمل العلمي على ترتيب مختلف الدول الطاقية الرائدة حسب مختلف مؤشرات "القوة" الاستراتيجية.

وفضلا عن تحليل أثر "القوة" الطاقية في التأثير أو الدفاع عن قضية مبدئية معينة، أو التصدي للخصوم وإخضاعهم للضغوط "الطاقية"، فقد اجتهد الباحث في الباب الرابع من كتابه لتحليل الآخر لقوة الطاقة، واستعمالها ك "سلاح" استراتيجي، وتوقف بهذا الخصوص على نموذجين اثنين: نموذج قديم نسبيا، يتعلق بالشكل الذي استعملت به الدول العربية الطاقة  كسلاح في تدبير الصراع مع الكيان الإسرائيلي (ونموذج الدول العربية خلال حرب 1967 وحرب 1973 وأزمة 1979)، ثم نموذج راهن، يتعلق ب باستعمال روسيا للطاقة في  حربها الحالية بأوكرانيا وتدبير صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، وتساءل الباحث عن أسباب عدم استعمال الدول العربية لسلاح الطاقة مجددا للجواب على الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في حربها العدوانية على غزة، ولو لردع العدو وحلفائه؟

المفارقة التي يسجلها الباحث أن دول العالم التي تبدو كلها محتاجة لاستعمال مصادر متعددة من الطاقة، هي في الآن ذاته، تصير متأثرة بمختلف السياسات العمومية المتخذة من طرف الدول الطاقية الكبرى المؤثرة في هذا المجال.
يشير الباحث في مقدمة كتابه إلى واقع الطاقة بالعالم، وآثاره على مختلف الدول والمكونات المرتبطة بحياة الإنسان، ويؤكد بأن معرفة هذا الواقع، يتطلب الإلمام بالعديد من المجالات المختلفة والمتنوعة، كالمجال الطبيعي والجغرافي المرتبط بالموارد الطبيعية من حيث الاحتياطيات والمخزونات، وكذا المجالات المرتبطة بالشق الاقتصادي، سواء منها الإنتاجية أو الاستهلاكية أو الخدماتية، ثم الجانب البيئي، الذي يتناول أثر النظام الطاقي برمته على المتغيرات المناخية ومستويات التلوث.

ولا يقصر الباحث معرفة عالم الطاقة على العناصر السالفة، بل يرى أن من شروط التحقق بمعرفة عالم الطاقة ملامسة ميادين أخرى بعيدة عن المجالين الاقتصادي والتنموي، ومنها تلك المرتبطة بمجال التأثير السياسي والجيو-استراتيجي، عندما تستعمل الطاقة كقوة ضغط وكآلية تأثير في "الصراعات" والتحالفات، في رحالتي الحرب والسلم، أو عندما يستعمل جزء منها في المجالات العسكرية كما هو الحال مثلا بالنسبة للطاقة النووية، مما يعطي للدول المستعملة لها امتيازات كبيرة تجعلها ذات قوة وتأثير في الساحة الدولية.

المفارقة التي يسجلها الباحث أن دول العالم التي تبدو كلها محتاجة لاستعمال مصادر متعددة من الطاقة، هي في الآن ذاته، تصير متأثرة بمختلف السياسات العمومية المتخذة من طرف الدول الطاقية الكبرى المؤثرة في هذا المجال.

ويقدم على هذه المفارقة دليلين اثنين،  الأول مرتبط بتغير الإنتاج، بالنسبة لنوع خاص من الطاقة (كالبترول أو الغاز) في بلد ما (كالمملكة العربية السعودية)، الذي (قد) يكون له أثر على أسعار تلك الطاقة في السوق العالمي، مما سيؤثر على الوضعية التمويلية والمالية لعدد من البلدان التي تستورد هذه المواد الطاقية، والتي يحكم عليها أن تظل في  وضعية "التابع" في المجال الطاقي للسياسات الدولية الطاقية المتغيرة التي تؤطر هذا المجال، تضطرب مؤشراته المالية وتوازناته الماكرو اقتصادية كلما شهدت أسعار هذه المادة الطاقية ارتفاعا على الصعيد العالمي، وأما الثاني، فمرتبط بالتوجهات العالمية الحالية نحو طاقات بديلة يكون لها أثر سلبي منخفض على الانبعاثات الغازية وعلى تلوث البيئة. فقد فرضت السياسات العالمية المتخذة في هذا السياق على مختلف الدول أن تسير على هذا النهج، وهو ما جعل المغرب على سبيل المثال، كباقي دول العالم، يرفع تحديا يسير في هذا الاتجاه، وذلك بالزيادة في مستوى إنتاجه واستهلاكه للطاقات المتجددة في مزيجه الطاقي.

وانطلاقا من هذين المثالين وما ينتجانه من آثار على العلاقات الطاقية البينية، من سيطرة وتبعية، وعلى التطور التنموي العالمي الذي لا يمكن أن يستغني عن الطاقة، تظهر الأهمية الكبرى للطاقة في حياة الناس وتطور المجتمعات. وهو الأمر الذي يفرز تباينا في الاستراتيجيات الطاقية للدول حسب موقعها في سلم "القوة الطاقية". فواقع المنتجين الطاقيين الكبار يختلف تماما عن واقع المستهلكين، كما أن من يمتلك صناعة طاقية متطورة يستطيع الطموح لاستقلالية طاقية أكبر ممن يمتلك المواد الطاقية الخامة فقط وتعوزه القدرات التقنية.

وفي سبيل تفكيك عناصر مختلف الآليات التي تؤسس لهذا الواقع الطاقي العالمي وتعقيداته، انطلق الباحث في كتابه من سؤال محوري، وهو: هل الطاقة أداة تنموية محضة، تستعمل فقط كعامل من عوامل الإنتاج؟ أم أنها تتعدى ذلك للارتباط بمحيطها الجيو ـ استراتيجي عندما يستعملها مالكوها "سلاحا" استراتيجيا للدفاع عن مصالحهم؟

الطاقة أداة للتنمية أم سلاح استراتيجي؟

قسم الباحث كتابه إلى أربعة أبواب، قدم في الأول مختلف التعاريف وطرق القياس اللازم معرفتها للتمكن من القراءة الجيدة للكتاب. فالاطلاع على الواقع الطاقي يتطلب الإلمام بمضمون المفاهيم والمصطلحات المتناولة، لأنه باختلافها تختلف التحاليل والفهم الدقيق للمحتوى. كما أن المعطيات الطاقية تقاس ب "وحدات قياس" متعددة ومختلفة، وذلك حسب الأهداف المرجوة منها وحسب المنظمات والمؤسسات الموفرة لهذه المعطيات.

وتناول في الباب الثاني المعطيات الرقمية والإحصائيات الهامة حول الواقع الطاقي، سواء تعلق الأمر بالاحتياطيات الطاقية، أو بإنتاج مختلف مصادر وأنواع الطاقة من طرف مختلف الدول، أو بالاستهلاك، أو بالتكلفة. وقد اجتهد في الباب الثالث (الشق (التحليلي الاستنتاجي) في تقديم خلاصات مركزية حول الواقع الطاقي، تركزت على وزن وقوة الدول طاقيا، وكذا ارتباط النمو بالتوفر على مصادر الطاقة، والتأثير العالمي المتاح حسب الكثافة الطاقية الإنتاجية والاستهلاكية، وتنازع "قوة البيئة" و "قوة" الطاقة، إضافة إلى وضع ترتيب طاقي عالمي لمختلف الدول الرائدة لفهم مستوى تأثيرها على الاستراتيجيات التنموية والسياسية العالمية.  أما الباب الرابع، وهو زبدة الكتاب وثمرته، فخصصه الباحث للوجه الآخر لـ "قوة" الطاقة، أي الطاقة كسلاح استراتيجي بدل كونها "أداة تنموية" فقط، إذ اختار أن يناقش نموذجين اثنين الأول له علاقة بالعرب والثاني له علاقة بروسيا كما سبقت الإشارة.

ثمرة الكتاب وخلاصاته:

يتميز الكتاب بسهولة ضبط خلاصاته، فقد حرص الباحث على تمييز الخلاصات الكبرى عن الخلاصات الفرعية، ويمكن أن نذكر منها ثمان خلاصات مركزية:

الأولى ـ وتتعلق بالنظرية الاقتصادية التي تؤكد أن الناتج المحلي الإجمالي يعتمد بشكل كبير على الطاقة، لكن تطور الإنتاج الطاقي والناتج الاقتصادي يبين أن هذا الناتج كان أكثر دينامية، وأن مساهمة الناتج الطاقي فيه كانت إيجابية ومن المدخلات الرئيسية المساعدة على النمو. لكن هذ التأثير لم يرق للمستوى المطلوب ما دام أنه بقي في حدود دنيا قياسا لمدخلات النمو الأخرى غير الطاقية، وخاصة بعد التراجع المعتبر للكثافة الطاقية، التي تؤشر على اقتناع العالم بضرورة التقليص من حجم الطاقة المستهلكة للحصول على وحدة من الناتج الخام. والنتيجة هي أن وتيرة النمو والإنتاج الاقتصادي كانت أسرع من وتيرة الاستهلاك الطاقي، مما يجعلنا نؤكد أن التأثير الرئيسي يعود لكل من الاستيراد والاستهلاك الطاقي.

الثانية ـ يسجل الباحث اعتمادا على المعطيات التي اعتمد عليها أنه على رأس قائمة الدول الرائدة والمؤثرة طاقيا الدولتان الكبيرتان اقتصاديا، الصين والولايات المتحدة الأمريكية، لكنه يشير إلى أن مسار وقوة كل منهما سيكون مختلفا في المستقبل. فإذا كانت وتيرة التحولات الطاقية في الصين تشير إلى التقدم السريع وتسير في اتجاه تصاعدي كبير، فهناك في المقابل تباطؤ في النمو أو تراجع بالنسبة لبعض أنواع الطاقة في حالة الولايات الأمريكية، مما يفيد أن الريادة الاقتصادية الأمريكية أصبحت مهددة في الأفق المنظور، وستتفوق الصين على الولايات الأمريكية خلال السنوات القليلة المقبلة، لتحتل بذلك المرتبة الأولى عالميا. وهذا الأمر لا شك سيكون له كبير الأثر على التحولات الجيو ـ استراتيجية الطاقية والعامة.

الثالثة ـ ينتهي الباحث إلى أن هذه التحولات الاستراتيجية سيكون لها عدة سلبيات، منها انتقال الصين من بلد مصدر عام 1990 إلى أول بلد مستورد عالميا، يشتري ربع احتياجاته الاستهلاكية رغم الارتفاع الكبير في إنتاجه، مما يجعل قوته الطاقية "رهينة في ربع منها للخارج، مما يفقده جزءا من استقلاليته الطاقية، ومنها ما يخص النموذج الطاقي "الكلاسيكي" الخاص الذي تعرفه جل الدول الأوروبية المتقدمة، التي "شاخ" اقتصادها ووصل لمستوى من "مراوحة المكان"، جعلها تتراجع في ترتيب النمو العالمي. 

ومن سمات هذا النموذج الأساسية: انخفاض الإنتاج، انخفاض الاستهلاك، ارتفاع الاستيراد، الارتهان أكثر للخارج، الانتقال الطاقي... وهو ما يؤكد على أنه استنفذ قدراته التنموية وأصبحت طريقة استعماله للطاقة غير كافية للرفع من النمو ومستوى عيش الساكنة، ومنها أيضا ما يتعلق بنموذج ثالث قوة طاقية عالمية، روسيا، المتميز بقدرته على الرفع من وتيرة الإنتاج، مقابل تراجع الاستهلاك، مما يدفع روسيا للتوجه بفوائضها نحو التصدير لتحتل المرتبة الأولى عالميا في هذا المجال، ولعل وضعيتها هذه هي التي تتيح لها ضبط جزء كبير من السوق الطاقية العالمية والتأثير في المستوردين منها، وبالتالي إمكانية استعمال الطاقة ك "سلاح" استراتيجي.

الدول الكبرى العشر الأولى تستحوذ على مجمل الانبعاثات الغازية العامة والفردية، وفي الآن ذاته تطالب العالم الثالث ـ وهو الأقل تلويثا ـ بالتقليص من انبعاثاته (الإنتاجية والاستهلاكية، وبالتالي من نموه)، وهو ما من شأنه أن يغذي الإحساس بالغبن إلى ارتفاع حدة "الصدامات" و "الخلافات"، التي سيكون حجمها رهينا بمدى قدرة الدول المنتجة (النامية) على التحرر من تبعيتها السياسية والجيو-استراتيجية للغرب.
الرابعة ـ وتخص تركيز القطاع الطاقي العالمي، فقد خلص الكتاب إلى أن عشر دول رائدة تتحكم في مختلف مكونات السوق العالمية، سواء من حيث الاحتياطيات أو الإنتاج أو الاستهلاك أو التلوث، وهو ما يعني أن لها اليد العليا في المجال الطاقي، ويمكنها الاستفادة من قوتها هاته للتمكين لاستراتيجياتها المختلفة. ونظرا لأهمية الهيدروكربونات (تمثل حوالي 55% من السوق الطاقية) في التحول من أداة تنموية إلى "سلاح" استراتيجي، فعدد الدول المؤثرة سيتقلص إلى ستة، حيث تكتسب قوتها في المجال الجيو ـ استراتيجي من خلال ارتباطها بالتكتلات الاقتصادية والسياسية.

وفي هذا الصدد سدل الباحث نوعا من التوازن بين محور الغرب (المتضمن لأمريكا وكندا، ثم السعودية بمنطق آخر)، ومحور الشرق (المتضمن لروسيا والصين وإيران)، مما يجعل التقاطب جد حاد بينهما. لكن، اعتبارا لكون القوى الطاقية الكبرى تسعى دائما للحفاظ على التوازن الطاقي العالمي، فالمحوران مضطران للتفاهم المبدئي، إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، من خلال استراتيجية مقبولة للهيدروكربونات لا تضر بمصالح هذه البلدان، عوض الانتقال لمرحلة الاستقواء بالطاقة ك "سلاح" استراتيجي.

الخامسة ـ وتتعلق بمجال السياسة الغازية العالمية، حيث ينتهي الباحث بهذا الصدد إلى أن محور روسيا وإيران والصين سيبقى محورا رئيسيا في تحديدها، متفوقا على المحور الغربي. بينما يبقى المحور العربي في مستويات دنيا من التأثير، نظرا لكون الدول الأربع الكبرى تمثل حصة أقل من ثلثي الحصة الروسية وحوالي 43% من حصة الولايات الأمريكية، رغم كون الاحتياطات الغازية للدول العربية والإسلامية المنخرطة في "أوبيك" تناهز حوالي 35% من الاحتياطيات العالمية. ويسجل الباحث باستغراب أن هذه القدرة الطاقية الهائلة والمخزون الاستراتيجي الكبير، لا يجدان لهما صدى معتبرا على صعيد النمو الاقتصادي لهذه الدول، كما لم يمكنهم من التحكم الكامل في مجمل قطاع الهيدروكربونات لأنهم لا يمتلكون شقه النهائي المرتبط بالمواد المكررة والغاز النهائي للاستعمال، رغم تملكهم للطاقة الخام في المنبع.   وبالتالي لا يمكن أن يكون لهذه الدول قوة وقدرة على توجيه السوق العالمية، إلا بالقدر المرتبط بقوة الإنتاج الخام.

السادسة ـ رغم أن الدول الطاقية الكبرى المنتجة لم تكن لديها نية واضحة لاستعمال "سلاح" النفط والغاز لتقوية نفوذها واقتصادها، وتعاطت واقعيا مع آليات السوق ومتغيرات العرض والطلب والبنيات التحتية اللوجستيكية، فقد بادرت روسيا من جهة، وبعض الدول العربية والإسلامية من جهة ثانية، إلى حظر النفط والغاز على جزء من الغرب خلال فترات، مما يدل على أنها كانت تمتلك "الشجاعة" و "القرار" للذود عن بعض المبادئ الأساسية والقضايا المحورية المرتبطة بوحدة البلد أو وحدة الأمة، ولم تتخوف من ردود أفعال الدول الغربية.

السابعة ـ أدت استراتيجية حظر النفط والغاز العربي والروسي إلى بروز أثر فوري على الاقتصاد، على جميع المستويات، بحيث تباطأت نسب النمو، وارتفع التضخم وزادت البطالة في البلدان الغربية، كما زادت نسب العجز التجاري عندهم، مما رفع من عجز الميزانية وحجم المديونية، وساهم في تراجع الاستقلالية الطاقية لعديد من الدول. لكن الوجه الآخر لهذه الاستراتيجية هو أنها أدت إلى تسريع تغيير الاستراتيجية الطاقية لدى الدول الغربية، التي تيقنت أن عليها ألا تبقى رهينة للنفط العربي والغاز الروسي "الرخيص"، والذي قد يستعمل ك "سلاح" ضدها.

الثامنة ـ اعتبارا لكون كل دولة كبرى منتجة أو مستهلكة للبترول والغاز لها استراتيجيتها للاستفادة من وضعية السوق ومن المحيط الجيو استراتيجي، فإن القاعدة المعتمدة في استعمال "سلاح" الطاقة هي: "لا صداقات دائمة، ولا عداوات قارة". ففي الحالة العربية، ساهم عدم التوافق التام والشامل بشأن قرار حظر البترول على الغرب، وكذا العدول عنه بسرعة دون تحقيق أهدافه السياسية والمبدئية التي دفعت لتبنيه، في جعل سلاح النفط مجرد رد فعل "عاطفي" ضروري في تلك الظروف العصيبة التي مرت بها الأمة العربية، وبأن دول "أوبك" العربية لم تستفد من مركزية المنظمة ومكانتها الطاقية في فرض أجندتها على الغرب، وبقي سلاحها النفطي خاضعا للممارسات السياسية التوافقية والانخراط في استراتيجيات الغرب، عوض أن يدخل في باب إعداد القوة. ويفسر الباحث بهذا العامل سبب عدم استعمال الدول العربية لسلاح الطاقة لردع الكيان الصهيوني عن البادرة الجماعية في غزة، يرى الباحث أن قرارا من هذا الشأن، كان سيزيد في الفاتورة الطاقية لبعض الدول الغربية المستوردة الداعمة للكيان الغاصب، حوالي 300 مليون دولار يوميا، وأن يرفع الأسعار بحوالي 30% في الأسواق العالمية على المدى المتوسط.

أسئلة تفتح مسارات جديدة للبحث

مع أن الباحث نجح في أن يمسك بتلابيب موضوعه وأن يقدم كافة البيانات والتحليلات فضلا عن الاستشرافات التي تخص تحول موضوع الطاقة من مجرد أداة تنمية إلى سلاج استراتيجي في إدارة الصراع أو تحسين التموقع في موازين القوى الحالية، فإنه في المقابل، تجاوز هذا الإشكال ليفتح مسارات جديدة في البحث، عبر طرح أسئلة جديدة، يتعلق بعضها بمدة تأثر قوة ومكانة الغرب جراء التحول الاستراتيجي المرتبط بتراجع إنتاجه الطاقي واعتماده على الاستيراد، وبالتالي "رهن" اقتصاده للخارج؟ أم أن قدراته التفاوضية في السوق الطاقية العالمية، بحكم أنه زبون كبير للدول المنتجة للطاقة، ستجعله مؤثرا على هذه الدول؟ وأيضا، بمدى استدامة الوضع الاستراتيجي الطاقي الأوروبي؟ وخاصة في ظل التبعية لأمريكا. وهل التوجه نحو الحليف الأمريكي سيساعد على الرفع من الاستقلالية الطاقية الأوروبية؟ أم أنه سيحوله فقط من استقلالية تجاه روسيا (والآخرين) إلى تبعية لأمريكا؟ كما طرح الباحث سؤالا مركزيا ثالثا، يتعلق بمدى قبول الغرب أن تبقى للطاقة الأحفورية الأهمية الكبرى التي لها الآن؟ وماذا لو امتلك الغرب هذه الطاقة والقوة الناجمة عنها (سلميا أو عنوة بقوة السلاح)، هل كان سيتجه نحو الطاقات البديلة؟ وهل سيكون لذلك أثر على التحالفات الاستراتيجية المستقبلية للسيطرة أكثر على هذه الموارد الطاقية؟

كما طرح الباب سؤالا رابعا، يتعلق باستعمال سلاح الطاقة من طرف الغرب تحت ذريعة الحفاظ على البيئة والتقليص من التلوث، وإلحاحه ودفعه إلى تخفيض الاستهلاك الطاقي، الفردي والعام، وهل له نفع يعود على البلدان النامية؟ أم أن بلوغ الدول الغربية لذروة رفاهية مواطنيها يدفعها للحفاظ عليها مقابل حرمان البلدان النامية من ذلك؟

ويختم الباحث بسؤال آخر، يتعلق بإمكانية أن يجيب العالم على تحدي التنازع بين "قوة الطاقة" و "قوة البيئة" في المستقبل؟ فالدول الكبرى العشر الأولى تستحوذ على مجمل الانبعاثات الغازية العامة والفردية، وفي الآن ذاته تطالب العالم الثالث ـ وهو الأقل تلويثا ـ بالتقليص من انبعاثاته (الإنتاجية والاستهلاكية، وبالتالي من نموه)، وهو ما من شأنه أن يغذي الإحساس بالغبن إلى ارتفاع حدة "الصدامات" و "الخلافات"، التي سيكون حجمها رهينا بمدى قدرة الدول المنتجة (النامية) على التحرر من تبعيتها السياسية والجيو-استراتيجية للغرب.