أفكَار

نحن ندرك ماذا تريد منّا إيران.. فهل عرفنا ماذا نريد منها؟

لقد خاض كلانا في العلاقات السنّية الشيعية من منطلق التفاعل مع مؤلَّف محمد بن مختار الشنقيطي "أثر الحروب الصليبيّة على العلاقات السنّيّة الشيعيّة". (عربي21)
لقد خاض كلانا في العلاقات السنّية الشيعية من منطلق التفاعل مع مؤلَّف محمد بن مختار الشنقيطي "أثر الحروب الصليبيّة على العلاقات السنّيّة الشيعيّة". (عربي21)
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الشعب الفلسطيني..

وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا. وكان الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقنصلية طهران في دمشق نقطة فاصلة في هذه العلاقة، حيث أعلنت طهران أنها لن تصمت على هذا العدوان، وأنها سترد، وقد كان لها ذلك حين أمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار من إيران إلى الأراضي اتلمحتلة مباشرة..

وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..

وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة "إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين عدوهم منهم.

"عربي21"، تفتح نقاشا فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..

وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد الحي عرابي، ننشر اليوم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي.


1 ـ الجدل على نحو غير مباشر

رصدتُ  ما يشبه الجدل على صفحات "عربي21" بيني وبين د. عرابي عبد الحي عرابي يتعلّق بأمرين هما كتاب "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية" للباحث محمد بن مختار الشنقيطي وهجوم "الوعد الحق" الإيراني على إسرائيل. واخترت العبارة "ما يشبه"، لأنه من الجليّ أن التقاء للهموم قد جمع بيننا بحكم التفاعل مع قضايا الواقع، لا بحكم اطّلاع الدكتور عرابي على ما كتبت أو تفاعله المباشر معه. فقد سبق أن نشرت على هذه الصفحات مقالة بعنوان "السنة والشيعة في مواجهة الحروب الصليبية من الصّدام إلى التحالف".. وهي قراءة مبسطة لكتاب الشنقيطي  وأخرى بعنوان" ـ "الوعد الحق" وتعثّر العقل السّني في فكّ شفرات رسائله".

أمّا ما كتب الباحث عرابي فجاء بعنوان" إيران والدول الشيعية التاريخية.. هل ثمة اتفاق في واقع الحال؟".  وهي تفاعل على نحو مّا مع الكتاب نفسه. ولئن كنت قد بحثت في تشتت المسلمين بين شيعة وسنة في فترة الحروب الصليبية وهجوم الوعد الحق في موضوعين منفصلين فإن الباحث السوري قد جمع بينهما في ورقة واحدة. فأسقط صورة الماضي على الراهن بموجب التشابه في أطراف المواجهة أي الطرف الإسلامي المشتت بين سنة وشيعة أمس واليوم والآخر الغازي الصليبي بالأمس والمسيحي اليهودي اليوم. ولكن هذا الإسقاط وما صاحبه من قياس يبقى مثيرا لالتباسات عديدة. لذلك أردت أن أحوّل هذا التفاعل بالقوّة إلى تفاعل بالفعل، وأن أتبسّط في ما يستوجب التّبسط، بما يحتمله سياق هذه الورقة ومداها المحدود، وبما توجبه أخلاق المحاورة.

2 ـ كتاب "أثر الحروب الصّليبية على العلاقات السنية الشّيعية"

لقد خاض كلانا في العلاقات السنّية الشيعية من منطلق التفاعل مع مؤلَّف محمد بن مختار الشنقيطي "أثر الحروب الصليبيّة على العلاقات السنّيّة الشيعيّة". والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه صيغ باللغة الإنجليزية وتولى الباحث تعريبها بنفسه، تعود بنا إلى ما كانت تعيشه الإمارات الإسلامية الناشئة من الاقتتال فيما بينها، عند قيام الحروب الصليبية. فترصد وضعا مفارقا بين الطرف الإسلامي المتناحر الذي لا يجد إلى التّحالف سبيلا لصد العدوان مقابل وحدة الصّف المسيحي. وتردّ التشتت العربي الإسلامي أثناء تلك الحروب إلى الشرخ المبكر حول موضوع الشرعية السياسية. ولكنها تنتهي إلى رصد تحوّل بين السّنة والشّيعة من الصّدام إلى التحالف على المدى البعيد. فقد شكّلا جبهة قوية انتهت إلى دحر العدوان الصليبي. ثم تشير إلى أنّ الهوة بين المذهبين ستأخذ في الاتساع من جديد عندما تمدّد التّشيع شرقا في جنوب العراق وبلاد فارس. وتعد بدراسة الخلاف السّني الشيعي في امتداده التاريخي في كتاب لاحق.

لا شكّ أن عالمنا العربي الإسلامي قد دمع خسائر اكبر بكثير مما دفعته أوروبا. منها سنوات طويلة من الاستعمار والانحطاط والاستبداد ونهب الثروات. ولا بدّ أنّ الأوان قد حان لنخبتها لتخرج من دائرة ردود الفعل العاطفية الانتقامية لتقوم بدورها للدفع نحو مقاربات عقلانية ترفع المهانة والاستضعاف عن الأمة وتنقذها من جحيم التقاتل الدّاخلي وتوجّه البوصلة نحو العمل المشترك لمواجهة الأخطار الخارجية. ولا يكون ذلك إلا بالعمل على التكامل الاقتصادي في إطار احترام حرية الضمير بدل تأجيج الصراع المذهبي في عالم لا يمنح مكانا تحت الشمس إلاّ للأقوياء.
وفي الآن نفسه أبدى كلانا رأيه في تفاعل الرأي العام السّني مع هجمات إيران على إسرائيل التي حملت تسمية "الوعد الحقّ". ورغم اشتراكنا في نقاط عديدة فإن جوهر مقاربتنا للعلاقة السنية الشيعية بدا على قدر من التّباعد، بما يستوجب التأمل والتفكير.

3 ـ " إيران والدول الشّيعية التاريخية.. هل ثمة اتفاق في واقع الحال"؟

تتضمن مقالة الدكتور عرابي " إيران والدول الشيعية التاريخية.. هل ثمة اتفاق في واقع الحال"؟ توسيعا للموضوع الذي قاربه الشنقيطي ليشمل قضايا الراهن. ورغم إقراره بأنّ "التّاريخ نفسه يثبت أن أمراء من السنة والشيعة الإماميّة قاتلوا الصليبيّين معًا في معارك متعددة" فإنه يخلص إلى استنتاجات حاسمة ترمي كلّها إلى اتهام الشيعة بالتخاذل في نصرة القضايا الإسلامية. فـ"قد كانت مقاومة الصّليبيين عملًا سنيًّا بامتياز، ويثبت ذلك استقراء التاريخ".

و"حاول الفاطميون الحاكمون لمصر آنذاك استغلال وجود الصليبيّين للتوسّع على حساب السنة" و"كان الفرع النزاري من الإسماعيليّين في الشام ـ الحشّاشون تاريخيًّا ـ يؤدون دورًا دمويًّا ومخرّبًا للمقاومة السنية وذلك من خلال اغتيال قيادات بارزةٍ من السنّة كالوزير نظام الملك ومحاولة اغتيال صلاح الدين وغيره من قيادات الشيعة المتعاونين معه في مقاومة الصليبيين" أما "الدولة البويهية التي ظهرت في ديلمان ـ محافظة إيرانية الآن ـ فسيطرت على معظم بلاد فارس وصولا إلى كامل العراق وأجزاء من الحجاز واليمن حتى ظهور ما يعرف بفتنة البساسيري الذي أراد تسليم بغداد للدولة الفاطمية مما دفع السلاجقة ـ لاستغلال الفرصة ـ وبسط نفوذهم إلى بغداد وبلاد الشام". 

وأمّا العلماء الشيعة العرب فقد أسهموا في "صياغة هوية ثقافية أهّلتهم -فيما بعد- ليكونوا السند الفكري للصفويين في نشر التشيع وفرضه على عامة أهل فارس مطلع القرن السادس عشر". وهكذا "اعتمدت الدولة الصفوية على العنصر التركي المتشيع في قبائل الأناضول لتقوية حضورها عسكريًّا".

على هذا النّحو تجمع الاستنتاجات كل الفكر الشيعي في ربق واحد. وتحمّله وحده مسؤولية الانتكاسة الإسلامية أيام الحروب الصّليبية.

4 ـ التّشخيص الخاطئ يفضي حتما إلى معالجة خاطئة

يعرض د عرابي في مقالته استنتاجات خاصّة أخرجت محتوى الكتاب الأصلي من المقاربة العلمية الرّصينة إلى الطّرح الإيديولوجي المتشنج. فليس الشيعة وحدهم المسؤولون على تشتت كلمة المسلمين، بل إن الإمبراطورية الإسلامية لم تكد تفرض سلطانها الكامل والنهائي على كامل الأراضي الإسلامية منذ أيام الفتنة. فقد كانت جيوب المقاومة أو التمرّد أو الانشقاق دائمة الظّهور هنا وهناك. وضمن هذا التّشرذم مثّلت الدولة الفاطمية الشيعية خلافة ثالثة تزامن وجودها مع الخلافة العباسية شرقا والخلافة الأموية الأندلسية غربا. فكانت تزحف من الغرب الإسلامي نحو الشرق، بغاية الاستيلاء على السلطة ضمن تصورها الإيديولوجي الذي يحصر الخلافة في آل البيت.

ولم تكن القاهرة في مخطّطهم سوى عاصمة مرحليّة كانوا سيتركونها إلى بغداد أو غيرها من مراكز العالم الإسلامي وقتها كما تركوا المهدية سابقا. وكانوا في صدام مستمر مع الخلافة العبّاسية قبل ظهور الحملات الصليبية. وعند قيام الحروب الصليبية كانت مختلف الإمارات الإسلامية الناشئة تعيش حالة من الاقتتال فيما بينها بصرف النّظر عن انتمائها المذهبي.

والحاصل أنّ  كثيرا من التقاعس والتواطؤ وحدثا وفق عديد الدّراسات التّاريخية. ولكنّ من الخطإ أن ننسب ذلك إلى بعض الشيعة دون غيرهم. فسائر الأمراء الذين وجدوا في الهيمنة الصليبية ما يثبّت حكمهم، بصرف النّظر عن مذاهبهم، قد انخرطوا في هذا التقاعس بأشكال مختلفة. وهذا ما تتوقّف عنده أطروحة د. محمد المختار الشنقيطي طويلا.

5 ـ لنسلّم بالأطروحة القائلة بأنّ إيران خطر داهم فكيف يجب أن نواجهه؟

يقفز د عرابي إلى العصر الرّاهن فيصادر من خلال عمليات قياس تاريخية لا تخلو من تعسّف أحيانا على أنّ "التشيع الإيراني اليوم ... يسعى بما أوتي من قوة لإلغاء عقيدة الآخر وفرض عقيدته الولائية، وكأنه استمرار لحملات الدولة الصفوية الدموية لفرض مذهبها المتشيع على أهل السنة الذين حكمتهم في إيران إبان إعلان دولتهم". فقد "كانت إيران ممن فاز بالسيطرة الفعلية على أربع عواصم عربية في ظرف عشر سنوات، وعينها تمتد إلى تغيير الديموغرافيا الدينية والبشرية في المنطقة لصالحها". مستغلة فوضى الثورات العربية.

ولا ننكر أنّ في توصيف الباحث كثيرا من الحقائق التاريخية التي لا يمكننا إلا التسليم بها. ولكن ورقته لم تخل من إسقاط لما بدا له قانونا يحكم سلوك الشيعة ماضيا على الحاضر. وبناء على هذا القانون يستنتج أنّ إيران اليوم "تقود مشروعًا استراتيجيًّا للسيطرة على محيطها وإخضاعه لنفوذها" والأخطر أنها تعمل على  "تغيير ديمغرافي وعقدي" وبذلك فإن خيانة الشيعة تتفاقم مع تقدّم الزّمن.ف "البعد الإيراني في موقفه من إسرائيل لا يشبه بحال من الأحوال قبول الدويلات أو العائلات الشيعية الحاكمة في محيط الإمارات الصليبية التحالف مع السنة، فهم لم يعملوا على تغيير ديموغرافي وعقَدي واسع كالذي تنتهجه إيران في سورية واليمن".

بيّن أنّ ورقة الباحث عرابي تنزع إلى تأجيج الصّراع المذهبي. فتدعو إلى مزيد من المواجهة بين الشيعة والسنة ومزيد من الحروب المدمرة التي لا يستفيد منها أحد بالنتيجة، وإن لم تصرّح بذلك. فللصدام بين السنة والشيعة في اليمن نتائجه الكارثية التي يتحمّلها الشعب اليمني وحده وحرب الخليج الأولى التي قادها صدّام حسين بتهوّر بالعنوان نفسه انتهت بالعراق إلى دمار لم تستطع التخلص من تبعاته إلى اليوم. وعليه فأولى بنا أن نفكّر في مخرجات أخرى لهذا الصّدام المذهبي بما يحفظ مصالح الدول العربية المتضررة من تفاقم الدور الإقليمي الإيراني بدل أن نصبّ الزيت على النار الموقدة في التّوتر المذهبي الذي يدفع الجميع فاتورة تفاقمه.

قد نتفهم البعد الذاتي من المسألة انطلاقا من تجربة الباحث الشخصية التي يوثقها قوله[من المؤكد لي -وأنا السوري المهجّر من بلدي- أن الميليشيات الإيرانية الرسمية وغيرها أوغلت في دماء السوريين، وأنها كانت سببًا في مقتل عشرات الآلاف منهم، وتهجير عشرات الآلاف آخرين، فهي في نطاق هذه الرؤية عدوّ يجب أن ينسحب من أرضنا كشرط لبدء حلٍّ في عودة السوريين إلى بلادهم]. ولا نملك هنا إلاّ أن نتعاطف معه. فليس المهجّر من دياره بفعل السياسة الإيرانية كالمتابع للوقائع على بعد آلاف الكيلومترات.

ولكن لا بدّ أن نفهم أنّ "التّمذهب" عامّة كان دائما محركا من محركات السياسة وأنّ "التشيع" استخدم منذ زمن  ضمن حلم استعادة الإمبراطورية الفارسية. فقد كانت إيران سنّية شافعية في أغلبها. ولكنّ الصفويين رحّلوها من المذهب السني إلى المذهب الشيعي خلال القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر لمّا فرضوا التشيع الإثنا عشري مذهبا رسميا لإمبراطوريتهم لخلق هوية مذهبية مختلفة عن الدولة العثمانية حتى يضمنوا إخلاص سكانها وولاءهم للدولة ومؤسساتها ويستغلّوا المشاعر الدينية لتوطيد حكمها. وإيران اليوم تلعب الدّور نفسه فتستغل الانتماء الديني حتى تجنّد المشاعر الدينية لدى الشعوب العربية لخدمة المشروع القومي الفارسي.

أعتقد أن دور المثقفين التنويري على قدر من الأهمية في هذه المرحلة المربكة في تاريخ العالم العربي الإسلامي رغم ما تواجهه أصواتهم من إقصاء وتهميش. وبدل الاندفاع العاطفي جدير بنا أن ننفتح على التجارب المقارنة التي نجحت في تحويل الصّدام إلى تكامل. وتبقى الوحدة الأوروبية هنا أعظم التجارب وأبلغها رسالة.
وليس أدلّ على ذلك من ولاء المكونات الشيعية العربية لسلطة الملالي في طهران أكثر من ولائها للأرض والوطن وقتالها بالوكالة عنها. ولا شك أنها ما فتئت تنشر الفوضى في الجسد العربي الممزق، في العراق واليمن والبحرين وتنخرط في الحرب الأهلية السّورية وتعطل الحياة السياسية في لبنان وأنها تستأنف الصدام بين الحضارة الفارسية والعربية الذي عرف بالحركة الشعوبية، ولكن من جهة الطرف المهيمن الذي يتحكّم اللعبة.

ولكن الورقة تنزع إلى تصنيف السّلوك الإيراني ضمن الصّراع المذهبي بين السنة الأخيار المدافعين عن بيضة الدين والشيعة الأشرار الخونة الذين يمثلون ورما خبيثا في الجسد المسلم. ولا أجدني هنا أميل إلى إلقاء اللوم على إيران، فتلك هي لعبة السّياسة في كل زمان ومكان، ولا إلى المذهب الشيعي، فالمعتقد وتر حسّاس يستخدم دائما للتّحكم في العقول لما له من وقع. ومن الطبيعي أن يقودنا التشخيص الخاطئ للمسألة إلى معالجة خاطئة. فالانحراف هنا سياسي أساسا.. ومن شأن مواجهته بانحراف مضاد يغذّي التوتّر المذهبي في المنطقة أن يقود إلى حروب جديدة يكون المنتصر فيها من يخسر أقل.

6 ـ هل من أفق لتحويل الصّدام إلى تكامل

أعتقد أن دور المثقفين التنويري على قدر من الأهمية في هذه المرحلة المربكة في تاريخ العالم العربي الإسلامي رغم ما تواجهه أصواتهم من إقصاء وتهميش. وبدل الاندفاع العاطفي جدير بنا أن ننفتح على التجارب المقارنة التي نجحت في تحويل الصّدام إلى تكامل. وتبقى الوحدة الأوروبية هنا أعظم التجارب وأبلغها رسالة. فالاتحاد الأوروبي اليوم يضم  28 دولة تنسّق فيما بينها ضمن هدف أسمى هو  الحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا والحيلولة دون قيام الحرب في القارة العجوز مرّة ثانية. فأسهم هذا التعاون الاقتصادي الأوروبي نحو التكامل والبناء النقدي لابتكار اليورو عملة موحّدة تواجه الدولار توحّد أغلب الدول الأوروبية اقتصاديا وتضمن ازدهارها الاقتصادي وفق شراكة تضامنية. ولم تهتد أوروبا إلى هذا المعادلة القائلة بأن الدّول المتشابكة اقتصادية تتجاوز خلافاتها وتبحث باستمرار عن حلول تأخذ بعين الاعتبار مصالح كلّ الأطراف  إلا بعد أن دفعت خسائر ثقيلة جدّا في الحربين العالميتين. فصدامها القومي وكلّفها خسارة نحو  60 مليون شخص من مواطنيها ودمارا هائلا وانهيارا اقتصاديا.

ولا شكّ أن عالمنا العربي الإسلامي قد دمع خسائر اكبر بكثير مما دفعته أوروبا. منها سنوات طويلة من الاستعمار والانحطاط والاستبداد ونهب الثروات. ولا بدّ أنّ الأوان قد حان لنخبتها لتخرج من دائرة ردود الفعل العاطفية الانتقامية لتقوم بدورها للدفع نحو مقاربات عقلانية ترفع المهانة والاستضعاف عن الأمة وتنقذها من جحيم التقاتل الدّاخلي وتوجّه البوصلة نحو العمل المشترك لمواجهة الأخطار الخارجية. ولا يكون ذلك إلا بالعمل على التكامل الاقتصادي في إطار احترام حرية الضمير بدل تأجيج الصراع المذهبي في عالم لا يمنح مكانا تحت الشمس إلاّ للأقوياء.
التعليقات (0)