كتب

غزة كحقل تجارب للأسلحة وللتلاعب بالقانون الدولي.. قراءة في كتاب

عبر صفحات الكتاب تتوقف باومغرتن عند أهم التنظيمات الفكرية والسياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية منذ العام 1948..
عبر صفحات الكتاب تتوقف باومغرتن عند أهم التنظيمات الفكرية والسياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية منذ العام 1948..
الكتاب: "لا سلام لفلسطين، الحرب الطويلة ضد غزة"
المؤلف: هيلغي باومغرتن
المترجم: محمد أبو زيد
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


وضعت هيلغي باومغرتن، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بيرزيت لأكثر من ربع قرن، هذا الكتاب باللغة الألمانية مستهدفة فضاء مختلفا، يسود فيه عادة الانحياز للرواية الإسرائيلية، إما بسبب خلفيات استعمارية استعلائية وعنصرية، أو بسبب غياب صوت قوي للضحية (الفلسطينيون) يشرح حقيقة ما يحدث. وهو، الكتاب، مع ذلك يمنح القارىء العربي فرصة للإحاطة تاريخيا بمجمل الأحداث المفصلية في نضال الشعب الفلسطيني وسعيه للتحرر وإنهاء الاحتلال.

تقول باومغرتن إن الكتاب وليد التأثر بالمقاومة الفلسطينية ضد عنف الاحتلال والتطهير العرقي في القدس الشرقية ، وردة فعل على حرب إسرائيل الطويلة ضد أهالي قطاع غزة. وكانت قد وضعته في العام 2021 لكنها عادت وأضافت إليه، في ترجمته العربية، مقدمة خاصة بعد أحداث "طوفان الأقصى" تتهم فيها الدول الأوروبية صراحة بالتواطؤ مع إسرائيل في حربها البشعة على القطاع، إذ أطلقت العنان لإسرائيل كي تدمر غزة وتقتل سكانها.. و"ألمانيا، كما هو الحال دائما، تشارك في ذلك متقدمة الصفوف"بحسب ما تقول.

وبينما تؤكد باومغرتن على مسؤولية إسرائيل، منذ العام 1948، عن عدد لا يحصى من جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، وهي تدعو إلى جرائم حرب جديدة منذ أكتوبر، مدعومة من غالبية المجتمع الإسرائيلي ومصحوبة بتهليل من الغرب الاستعماري، فإنها تلفت بالمقابل إلى الموقف الغربي السلبي من الفلسطينيين، فهؤلاء "الذين يستخدمون حقهم المكفول في المقاومة ضد نظام استعماري، هم إرهابيون، ويتم في غضون ذلك مساواتهم  بالقاعدة وبالدولة الإسلامية (داعش)".

منطلق باومغرتن وحافزها لوضع هذا الكتاب كان أحداث مايو العام 2021 في القدس ثم في غزة، لكنها في الوقت ذاته تنتهز الفرصة للقيام "بعملية تنوير من خلال جذب الانتباه إلى الحقائق الماثلة في فلسطين التاريخية" منذ العام 1948. وتحاول شرح الأسباب التي تقف خلف أن إسرائيل تتصرف دائما وأبدا بوحشية أكبر من حرب إلى حرب، وفي الوقت نفسه تحقق دائما ما هو أقل.

وعبر صفحات الكتاب تتوقف باومغرتن عند أهم التنظيمات الفكرية و السياسية الفاعلة على الساحة الفلسطينية منذ العام 1948، من حيث النشأة التاريخية، والأدوار السياسية التي لعبتها، وفهم المواقف التي تمثلها اليوم، وحجمها وكيفية رسوخها في المجتمع الفلسطيني. كما تعرض لأهم التحولات السياسية التي شهدتها القضية الفلسطينية مثل اتفاقية أوسلو ، وموت ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، وانتخابات المجلس التشريعي في عام 2006، التي حققت فيها حركة حماس انتصارا مدويا وصولا إلى سيطرة الحركة على غزة وحالة الانقسام التي سادت حتى اليوم.

النكبة والمقاومة

في الفصل الأول من الكتاب تقدم باومغرتن استعراضا تاريخيا لما شهدته فلسطين منذ العام 1948 وحتى العام 1967، فتلخص حيثيات إقامة دولة إسرائيل والدعم الذي تلقته هذه الدولة من القوى الغربية، وكيف كان ذلك هو الوجه الآخر ل"النكبة" التي حاقت بفلسطين والفلسطينيين، بعد أن ارتكبت بحقهم المجازر المروعة، وسلبت منهم أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وهُجٍر ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني فتحولوا إلى لاجئين بين ليلة وضحاها.

وهي في هذا السياق تورد استشهادات من مذكرات لشخصيات قيادية لاحقة للحركة الوطنية الفلسطينية، ومثقفين وأدباء فلسطينيين، يشرحون فيها جزءا من هذه التجارب"المؤلمة والصادمة"، مثل جورج حبش، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب ولاحقا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصلاح خلف (أبو إياد) أحد مؤسسي حركة فتح، والأديب غسان كنفاني، وأستاذ العلوم السياسية إبراهيم أبو لغد. وتفند باومغرتن الدعاية الإسرائيلية عما حدث في العام 1948، التي "تؤدي دورا حتى اليوم في الخطاب الناطق بالألمانية"، مستعينة، تحديدا، بمصادر إسرائيلية توثق وتحلل أحداث النكبة، مثل الكتب التي وضعها ما يعرف ب"المؤرخون الجدد"، دون أن تغفل،طبعا، المصادر الفلسطينية. وتقول باومغرتنأن الفلسطينيين عاشوا بعد العام 1948 حياة من دون أي حرية، بغض النظر عن مكان وجودهم. وحتى النشاطات اليومية الأكثر بساطة كانت مقيدة. وجرت المحاولة بوسائل شتى لمحو هويتهم وإنزال مكانتهم إلى لاجئين مجهولين وبلا حقوق.

وبحسب مكان وجودهم فرضت عليهم هويات جديدة، فتم تعريفهم من جديد كلاجئين في لبنان، أو كعرب، أو كإسرائيليين، أو كأردنيين. إلا أن هذا لم يمنعهم من المقاومة المستمرة ضد كل ما فرض عليهم، فحاولوا منذ مطلع الخمسينات تنظيم أنفسهم سياسيا من جديد من خلال حركة القوميين العرب، ولاحقا من خلال حركة فتح.

ليست غزة بالنسبة إلى إسرائيل حقل تجارب لأسلحة جديدة وأدوات قمع جديدة فحسب، ففي غزة تختبر إسرائيل أيضا تلاعبها بالقانون الدولي الإنساني
تنتقل باومغرتن بعد ذلك للحديث عن الفترة الممتدة من حرب 1967 إلى الانتفاضة الأولى في العام 1987، وهي ترى أن تجارب الحكم العسكري للفلسطينيين في إسرائيل من عام 1948حتى عام 1966 تُنقل مباشرة إلى الحكم العسكري الحديث التأسيس في الضفة الغربية وقطاع غزة.

فمنذ العام 1967 تسيطر إسرائيل على فلسطين التاريخية كاملة، وبذلك أمكن الاستيلاء على بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم وتهجيرهم ومصادرة أراضيهم وبناء المستوطنات عليها. وتقول إن سنوات السبعينيات والثمانينيات تبدو كسلسلة متصاعدة من الهجمات ضد الوجود السياسي والوطني والبدني للفلسطينيين في المناطق المحتلة وفي الشتات على حد سواء." فقد بدأ ذلك مع أحداث أيلول (في الأردن) وبلغ أوجه في حرب 1982ضد منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان." ما جعل المنظمة تدرك أن الحل لا يوجد إلا في الأراضي المحتلة، ولذلك بدأت بالتركيز في عملها السياسي والتنظيمي هناك، "بغية النضال بشكل مشترك مع المجتمع الفلسطيني" وهو الأمر الذي أسفر في النهاية عن تفجر الانتفاضة الأولى.

أظهرت الانتفاضة الأولى استعداد المجتمع الفلسطيني ككل لمقاومة الاضطهاد، بحسب باومغرتن، لكن في حين سارت الانتفاضة الأولى على نحو خال من العنف، سادت الانتفاضة الثانية مقاومة استخدم فيهاالعنف المسلح، ومع ذلك لم تستطع أي منهما التغلب على الاحتلال الإسرائيلي ونظام الاستعمار الاستيطاني. تقول باومغرتن أن مفاوضات أوسلو مكنت ياسر عرفات والمنظمة من التخلص من وضعية المنبوذ، بعد وقوف عرفات إلى جانب صدام حسين في حرب الخليج، ومن التحول المفاجىء إلى سياسي ينشد السلام. علاوة على ذلك استطاعت المنظمة أن تعود إلى المناطق المحتلة بكامل أجهزتها بعد توقيع اتفاق أوسلو. لكن اتفاق "التعاون الأمني" حوّل القيادة الفلسطينية إلى شرطي في خدمة الاحتلال. ورغم محاولة عرفات "الانقلاب إلى الخلف" بعد أن أدرك أن الدخول في مفاوضات أوسلو كان غلطته السياسية الكبرى، فالحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين منذ نهاية عام 2000 وفي سياق الانتفاضة الثانية، حالت دون ذلك وأدت في النهاية إلى وفاته المشبوهة.

حرب بلا نهاية

تشرح  باومغرتن الظروف المحيطة بالانتخابات المحلية التي شهدتها مناطق السلطة الفلسطينية في العام 2004، وصولا إلى انتخابات المجلس التشريعي في العام 2006 التي حققت فيها حماس فوزا كبيرا، وترى أن التحول الموعود نحو الديمقراطية، وإن كان تحت الاحتلال، ظل عالقا في بداياته.

فما آلت إليه الأمور بعد هذه الانتخابات كان مخيبا للآمال." الناس في الضفة الغربية وفي غزة يعيشون في دولة فصل عنصري ويواجهون احتلالا قمعيا، وكأن هذا لا يكفي، فراحت فتح في رام الله وحماس في غزة تقيمان في الداخل حكمهما السلطوي الخاص بكل منهما، رغم وجود اختلافات جوهرية بينهما؛ في رام الله يتعاون الرئيس محمودعباس باستمرار مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى النقيض من ذلك فإن قطاع غزة تحت حكم حماس محاصر بالكامل من الجيش الإسرائيلي. ولتحقيق تغيير في هذا الوضع الذي لا يحتمل لا ترى حماس بديلا آخر سوى المقاومة، سواء كانت مقاومة جماهيرية كما في مسيرات العودة منذ العام 2018، أم مقاومة مسلحة من خلال قصف إسرائيل بصواريخ مصنوعة محليا".

وخلال 15 عاما شنت إسرائيل أربع حروب على قطاع غزة، كل واحدة منها كانت أقوى تدميرا وأكثر كارثية على أهل غزة من سابقتها. تصف إسرائيل القطاع بأنه "كيان معاد" تحت حكم حركة إرهابية، وترى أنه يحق لها شن حرب عليه في أي وقت بذريعة "الدفاع عن النفس"، وأنه يجب هزيمة حماس مرة وإلى الأبد. تقول باومغرتن أنه يبدو واضحا أن إسرائيل لا تملك استراتيجيا سياسية للعلاقات مع الفلسطينيين وخاصة مع المجتمع الفلسطيني في غزة ومع حماس. فقد اختارت سياسة تشديد الاحتلال، والحرب الطويلة ضد الناس، التي أريد لها أن تكون حرب إبادة وحشية ، دمر خلالها الجيش، بكل قوته، كل ما اعترض طريقه إلى أهدافه، مطبقا ما يطلق عليه"عقيدة الضاحية" التي طبقها في حرب لبنان 2006.

وتستشهد بما كتبه الباحث الإسرائيلي جيف هالبر حول كيف تستخدم إسرائيل الفلسطينيين في غزة "أرانب اختبار" في استراتيجيتها الخاصة ب"تكييف" القانون الدولي، إذ تحاول إسرائيل ترسيخ مفاهيم جديدة  أو تسميات جديدة للمقاومين المقاتلين على غرار "أطراف فاعلة غير شرعية"، أو "إرهابيين" أو "متمردين"، أو "أطراف فاعلة غير حكومية" والسكان المدنيين الذين يدعمونهم، بهدف نزع الشرعية عن كل مقاومة، وحتى تتمكن من محاربة الفلسطينيين من دون عوائق. في السياق ذاته أعد كل من أسا كاشير، أستاذ الفلسفة وعلم الأخلاق في جامعة تل أبيب، والجنرال عاموس يادلين، رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية،"عقيدة جديدة للأخلاقيات العسكرية" على أساس عقيدتهما الخاصة بحرب عادلة ضد الإرهاب، حيث يكون للدولة مطلق الحرية في الحط من شأن خصومها بوصفهم ببساطة إرهابيين.

تقول باومغرتن إن كاشير ويادلين يستندان إلأى الحق في الدفاع عن النفس الذي على أساسه تُشرعن جميع الأعمال التي يقوم بها الجيش ، لكن هذا الحق مكفول فقط للدول. تقوم الاستراتيجيا الخاصة باستخدام القانون لتحطيم العدو ونزع مشروعيته، أي استراتيجيا الحرب بواسطة القانون، ببساطة على قاعدة أساسية: يعيد المرء مرارا وتكرارا القيام بأعمال غير شرعية إلا أنه يبررها المرة تلو الأخرى بمبادىء جديدة "لأخلاقيات عسكرية". "ليست غزة بالنسبة إلى إسرائيل حقل تجارب لأسلحة جديدة وأدوات قمع جديدة فحسب، ففي غزة تختبر إسرائيل أيضا تلاعبها بالقانون الدولي الإنساني".
التعليقات (0)

خبر عاجل