كتب

نعوم تشومسكي متفلسفا.. كيف تكون الحرية معبرا لفهم ماهية الإنسان؟

يخلص تشومسكي إلى أن الإنسانية قد استنفدت كل آمالها لتجعل من الرأسمالية نظاما إنسانيا.
يخلص تشومسكي إلى أن الإنسانية قد استنفدت كل آمالها لتجعل من الرأسمالية نظاما إنسانيا.
الكتاب: غريزة الحرية: مقالات في الفلسفة والفوضوية والطبيعة البشرية.
الكاتب: نعوم تشمسكي: ترجمة عدي الزعبي ومؤيد النشار
دار النشر: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق -سوريا، 2018، ط 2.
عدد الصفحات: 198 صفحة.

ضمن أثره "غريزة الحرية: مقالات في الفلسفة والفوضوية والطبيعة البشرية"، يحاول الأمريكي نعوم تشومسكي، الباحث اللساني الألمعي، أن يشكّل حركة مضادة للإعلام المضلل، وأن يفتح أعيننا على حالة الاستلاب التي يعيشها الإنسان اليوم، وأن يحثنا على البحث في أفضل السبل التي تكفل تحرّره. والكتاب مجموعة من المقالات والمحاضرات يجمع بينها خيط ناظم، هو الانتصار للحرية.

1

بكثير من الحنين والأسف، يعود تشومسكي إلى فلاسفة القرن الثامن عشر ليرصد تصوراتهم لمقولة الحرية، تلك المرحلة السابقة لاستشراء النظام الرأسمالي وهيمنته على مختلف مناحي الحياة الأوروبية.

ويرجع حنينه إلى حالة الفكر الغربي وقتها؛ فقد كان واعدا، وكان طموحه أن يجعل تحرير الروح الإنسانية مادة الفلسفة وغايتها. فمما يؤثر عن شلنغ قوله: "بداية ونهاية الفلسفة هي الحرية"، واعتقاده أنّ " الإنسان ولد ليعمل وليس ليتأمل"، داعيا البشر ألا يكتفوا في جعل الفلسفة مادة للتفكير المتعالي، وأن يعتمدوها للتفاعل مع واقعهم والتخلص من قيودهم. وضمن فلسفة الأنوار الفرنسية، ينتبه إلى وعي روسو العميق في أثره "اللامساواة"، بأن "المجتمع المدني" ما هو إلا مؤامرة يحبكها الأثرياء للحفاظ على مكتسباتهم المسروقة، عبر تشريعات العدالة والسلم التي يطالب الجميع بالامتثال لها، فيمنع الثري والفقير المشرد "من النوم تحت الجسر ليلا".

ومن هنا مأتى الأسف؛ فقد انطلت الحيلة، فـ"ركض الجميع إلى قيودهم، وفق عبارة أناتول فرانس الساخرة، مصدّقين أنهم أمنوا حريتهم". وأخضع القوي للضعيف وأرسي قانون الملكية واللامساواة إلى الأبد، وحُوّل اغتصاب الشرعية إلى حق نهائي مناهض لجوهر الإنسان الممثل في حريته. ومنه ينتهي روسو إلى أن "القضاة الذين يعلنون أن ابن العبد يولد عبدا، يقررون بكلمات أخرى أنّ الإنسان لم يولد إنسانا".

لقد ألهمت هذه الفلسفة كانط ليرفض القول بأن بعض الناس يولدون غير مستعدين للحرية، فـ"إذا قبل المرء بهذا الافتراض، فالحرية لن تُنال أبدا؛  لأن المرء لن يستطيع الوصول إلى النضج اللائق بالحرية إن لم ينلها بداية. للمرء أن يكون حرا لكي يتعلم كيف يستخدم قواه بشكل حر ونافع. بالتأكيد ستكون الخطوات الأولى قاسية، وستؤدي إلى أوضاع أكثر ألما وخطورة مما كان الحال عليه تحت سيطرة سلطة خارجية، بل وتحت حمايتها. ولكنْ، يكتسب المرء الفكر فقط من خلال تجاربه الخاصة، وعلى المرء أن يكون حرّا كي يختبر هذه التجارب".

2

ويجد في تفكير فيلهلم فون هومبولت في معضلة الحرية ما يثير الفضول؛ فلا شيء عنده يحث على نضح فكرة الحرية في أذهاننا كالحرية ذاتها. فنحن لا نجهل كيف نتصرّف بحرية، إلا بسبب معضلة في قوانا الأخلاقية والعقلية. ولا سبيل إلى معالجة هذا النقص والسمو بهذه القوى سوى التدرب على الحرية، فكل ما لا يأتي من الاختيار الحر للإنسان، وكل ما يصدر عن التوجيه والأوامر الخارجية التي يتلقاها، لا يدخل في الكينونة فعلا، ويبقى غريبا عن الطبيعة الحق للإنسان، فلا يأتيه بطاقة إنسانية وإنما يحققه بدقة ميكانيكية، ضمن منظومةٍ معادية لإنسانية الإنسان، تحترم الفعل المحقق في مجال العمل، ولا تقدّر الفاعل، وفي إطار دولة ترى في الإنسان محض "أداة لتحقيق أهدافها العشوائية وتتجاهل تطلعاته الفردية".

لقد صيغت الأطروحات المنادية بالحرية قبل 1790 في مرحلة الليبرالية الكلاسيكية ومرحلة التطلع إلى الديمقراطية الحق، ولكن سيصطدم شعاران من شعارات هذه المنظومة القيمية، هما " المساواة بين كل الناس في القانون" و"حق الإنسان في التحكم في ذاته"، بفعل الاقتصاد الرأسمالي اللصوصي، وسيدمر كلاهما الآخر. فهذا الاقتصاد سيسلعِن (من سلعة) العمل، وسيجعل تدخل الدولة ضرورة للحفاظ على الوجود الإنساني، ولمنع تدمير البيئة الفيزيائية. وهكذا لن يعود الأمر للسلعة لتتحكم في ذاتها، ولتقرر ما إذا كان يجب عليها أن تعرض للبيع وبأي طريقة ستستهلك. وسيفقد الإنسان الحق في التحكم بذاته.

وها نحن اليوم نعيش مرة أخرى مثل هذا الزمن؛ فقد خلقت الرأسمالية اللصوصية نظاما صناعيا معقدا وتكنولوجيا متقدمة، سمحت بمقدار معقول من الديمقراطية، لكنها كانت مجافية للطبيعة الإنسانية؛ فعجزها عن فهم الإنسان خارج دائرة التنافس من أجل جمع المال،  خلق كائنات مائعة لا همّ لها سوى مضاعفة الثروة، فيخضع الإنسان نفسه من أجل تحقيق الربح الأقصى لاستغلال السوق وللسلطات الخارجية. وهذا تصور غير إنساني، ودولة الرفاه العسكرية، والولايات المتحدة الأمريكية نموذج  جيّد لذلك، غير قادرة على الاستجابة لحاجات الإنسان الحقيقية.

3

بالتزامن مع التفكير في الحرية وانطلاقا منها، كان فلاسفة عصر التنوير وعصر الليبرالية الكلاسيكية يجعلون اللغة مادة للتفكير الفلسفي، ومعبرا لفهم ماهية الإنسان. وليس الأمر محض تواز بين موضوعين للتفكير؛ فبينهما من الصلات العميقة ما سيدفع تشومسكي إلى إعادة طرح المبحث من جديد، ولكن من منطلق تصوره التوليدي للغة؛ فقد كانت وجهة النظر الديكارتية التقليدية تؤمن بأنّ ملكة الكلام طبيعية عند البشر، وأنها من المقدرات الفطرية التي تجعلنا ننتج أفكارا بطريقة خاصة، بتأثير من عناصر خارجية، ودون هذا البعد الفطري لن يتسنى لنا التفكير.

لقد صيغت الأطروحات المنادية بالحرية قبل 1790 في مرحلة الليبرالية الكلاسيكية ومرحلة التطلع إلى الديمقراطية الحق، ولكن سيصطدم شعاران من شعارات هذه المنظومة القيمية، هما "المساواة بين كل الناس في القانون" و"حق الإنسان في التحكم في ذاته"، بفعل الاقتصاد الرأسمالي اللصوصي، وسيدمر كلاهما الآخر.
وعلى منواله، يناقش روسو أصل اللغة، راميا إلى فهم الطبيعة البشرية من خلالها. فـ"إذا احتاج البشر إلى الكلام ليتعلّموا التفكير، فقد احتاجوا بشكل أكبر إلى معرفة كيف يفكرون لاكتشاف فن الكلام... لذا المرء يجد صعوبة في وضع تخمينات معقولة حول فنّ تواصل الأفكار هذا، وتأسيس تفاهم بين العقول.". أما همبولت، فكان يرى في اللغة عملية إبداع حر ومتغيرة بشكل لا نهائي، وتأويل الكلمات نفسه بين استعمال وآخر يقوم على تأويل حر.

ورغم ذلك، فعمادها نظام من القوانين التوليدية المركوزة في طبيعة العقل البشري. وعليه، فقد كان العقل الفلسفي النتويري:

ـ يناهض مظاهر الاستبداد، ويجد في شكل الدولة أو المجتمع المدني وقتها صيغتين لتأبيدها باعتماد عناوين جديدة.

ـ يتلمس الطريق ليدرك جوهر الإنسان عبر البحث عن الفطري، وعن المشترك فيه الرافض للاستبداد.
فكان هذا المشترك بابيْن في الآن نفسه: غريزة الحرية وغريزة اللغة، أو لعلّ الباب كان واحدا، وأن العقل الفلسفي لم يكن يعلم أنه يطرقه مرتين.

4

يخلص تشومسكي إلى أن الإنسانية قد استنفدت كل آمالها لتجعل من الرأسمالية نظاما إنسانيا. وفي الآن نفسه، يبدو على ثقة بأن هذا النظام سيأفل يوما ما؛  فليس الإنسان مادة صلصالية طيعة يمكن أن نشكلها كما نريد؛ فبنية عقله فطرية موروثة تلازم بعده الثقافي المكتسب، ولن يتسنى للدول التسلطية ولا لأعوانها المستبدين أن يقطعوا عنه حلمه بالحرية، أو يوقفوا توقها إليها. ويتساءل، ولا يخفي حيرته وتلاطم أفكاره، عن إمكانية وجود صيغ جديدة للتنظم السياسي والاقتصادي تستند إلى مفهوم الطبيعة البشرية، فتناسب الإنسان وتحترم إنسانيته. ويستبعد قدرة العلوم السلوكية والاجتماعية الحديثة على تولي الأمر، فهي لا تنتبه إلى تلك البنية الفطرية الموروثة، المسلك الوحيد الذي يمكن أن يقودنا إلى طبيعة العقل البشري، وإلى ما يقتضيه الاجتماع البشري الأمثل.

وبالمقابل، يجد في اللغة أكثر من نظام يوصف كما هو الحال في لسانيات ديسوسير. فانطلاقا من فهم همبولت، يعتقد أنها وحدها قادرة على تزويدنا بومضات مساعدة على فهم السلوك البشري. والعالم بمبادئ لسانياته التوليدية ينتهي إلى أنه يشير إلى ما يصطلح عليه بالبنية السطحية، التي تمثل المستوى المنجز والفردي للغة، والمنطلق الذي يفضي إلى القواعد التوليدية المحدودة على مستوى البنية العميقة والأفعال الخلاقة التي تعكس خصائص التنظيم العقلي. وفي أثره هذا، يقترح على  علم النفس وعلم الاجتماع، سواسية، أن يدرسا خصائص هذا النظام – على مستوى بنيته العميقة-، وأن يجعلاه معبرا لفهم خصائص العقل الفطرية، وتمثل الطبيعة البشرية بعدئذ، وليتجاوزا قصورهما المنهجي الذي ذكرنا سلفا.

5

ولكن، ماذا يعني أن تكون الحرية غريزة فطرية في الإنسان؟ يعسر تعريف الغريزة التعريف العلمي الدقيق، ولكن المعاجم المختلفة تعيدها إلى الطبيعة المشتركة بين جميع أفراد نوع من أنواع الكائنات الحية، وتجد فيها ذلك التصرف الفطري أو رد الفعل التلقائي على محفزات بعينها، فتتفاعل معها بطريقة آلية موروثة، لا تستند إلى تجربة سابقة أو تدريب. وتذكر مثالين نموذجيين لعملها: اتجاه السلاحف حال خروجها من البيض نحو البحر، وبحث الوليد بشفتيه عن حلمة أمه، ولا تكون هذه الغرائز قابلة للتعديل، ولا يقاومها الإنسان؛ مدفوعا بثقافته المكتسبة، إلا بعسر شديد. ولإثبات وجاهة أطروحته حول البعد الغريزي للحرية وللغة، يعمد إلى البرهنة بالخُلف. فعدم وجود اللغة أو الحرية فطريا في الدماغ، وعدم وجود أسس بيولوجية لهما، يعني عدم قدرة الإنسان على استعمال اللغة لتلقي المعلومات، أو عدم شعوره بالحاجة إلى الحرية كما هو الحال عند الحيوان. وهذا ما تنفيه الوقائع.

ولم يعمل تشومسكي على الموازاة بين غريزتي اللغة والحرية، وعلى إبراز عملهما بالآلية المستمدة من صميم العقل البشري نفسه، إلا ليحرض علم النفس وعلم الاجتماع على دراسة منتج هذا العقل للبحث عن فهم جديد للإنسان فردا ومجموعة، كما كانت اللسانيات التوليدية تفعل في الثلث الأخير من القرن الماضي، لفهم وظيفة ملكة اللغة أو كما درس الفلاسفة الحرية في أواخر القرن الثامن عشر. وهذه الدعوة، تمثل قطيعة مع المقولات الإنتروبولوجية، التي ترى أنّ الإنسان كائن ثقافي، وأنّ البيئة والمجتمع مسؤولان عن نحت كيانه، وأنّ اللغة والإحساس بالحرية مكتسبان بالنتيجة. فتعكس حماسة لساني شاب وقتها، كان يعتقد أنه انطلاقا من البحث في البنية العميقة للغة، أي تلك المكلة الفطرية المشتركة بين الناس التي تتجسد عبر فعل الكلام يمكن أن نصل إلى صيغ جديدة في العمران، وأن نؤسس نظرية متكاملة عن الإنسان والمجتمع، تقاوم وحشية رأس المال واستبداده.

6

لقناعة تشومسكي بأنّ الحرية غريزة عند الإنسان وجبلة يرثها بيولوجيا، تجعلها حقا طبيعيا لكل البشر، وبأنّ تقييدها اعتداء على إنسانيته، تبعات كثيرة على المستوى الأخلاقي والفلسفي والسياسي. فانطلاقا منها، نعي بأنه لا يحق لأي مجموعة من الطغاة، بأي معنى من المعاني، سواء كان طغيانها ماليا أو سلطويا أو أبويا، أن تحدّ من هذه الحرية. ومن هذا المنطلق، نسجل دعمه للقضية الفلسطينية ونقده لتراخي الولايات المتحدة في التعاطي الإيجابي مع محنة الفلسطينيين، وهو اليهودي الأمريكي. ومنه أيضا، نفهم إصراره على عدم القبول بالكلام عن نسبية قيم الحرية أو بمنعها عن البعض لارتباطها بثقافات معينة. فليس المعطى الثقافي عنده غير تعلة لتبرير الظلم والتعسف البشريين؛ لأنّ الحرية واحدة لا سمات تميّزها عند مجموعة مقارنة لأخرى. ولكن من تبعات هذا التصوّر أيضا، مناهضته لسلطة الدولة عامة ولأجهزتها، فقد كان يجد فيها أداة قمع لكل الأصوات الحرة. ومن هنا تنفتح فلسفته ومواقفه السياسية على مفهوم الفوضوية.

7

تمثل الفوضوية اتجاها فلسفيا سياسيا يرى حرية الإنسان في تفكيك مختلف أشكال السلطة والاضطهاد القائمين منذ عهود، ويرى في الدولة رأس الاضطهاد. فليس السياسي عندها إلا خادما لصاحب المال، وكل انعتاق حقيقي لا بد أن يمر عبر المستوى الاقتصادي، خاصّة  في تصور النقابات الفوضوية ومنظرها روكر، وعبر القطع مع صيغ التنظيم التقليدية التي تفضي إلى الاستغلال، فلا يكون الحل إصلاحيا نحو نقد سلطة الدولة أو البرلمان، وإنما يكون جذريا عبر "إعادة بناء حياة الناس الاقتصادية من القاعدة إلى الأعلى مستحضرين روح الاشتراكية"، فيحرر المنتجون أنفسهم بتحرير العمل من جميع المؤسسات وإجراءات السلطة السياسية [كذا]. ويتحقق ذلك عبر تحالف مجموعات حرة؛ بحثا عن صيغ عمل تعاوني وتخطيط إداري يخدمان المجموعة، ويرصان صفوف المجموعات الكادحة ليعملوا كالمقاتلين، "من خلال استيلاء العمال على رأس المال من مواد أولية وأدوات إنتاج وأراض". فتلغى الملكية الخاصة والامتيازات التي يتمتع بها أصحاب رأس المال.

ولا يجب أن نفهم أنّ تشومسكي يدعو إلى الدولة الشيوعية على نحو ما كان قائما في الاتحاد السوفييتي، فقد كان يرى أن "البيروقراطية الحمراء" كذبة القرن الكبرى، التي أوجدت لتخفي دكتاتورية ستالين، ولم يكن يجد في البلشفة تطبيقا عمليا للماركسية، بقدر ما يجد فيها تكريسا للجوانب البرجوازية للثورة الروسية، وتجسيدا لليسار الذي انحرف عن هدف تحرير الكادحين، حيث "لا يمكن للشجيرة التي تحولت إلى هراوة أن تورق". ولا يختلف مع "الماركسيين التحريفيين" فحسب. فتصوره للمجتمع يختلف عن تصور إنجلز نفسه الذي يناهض فكرة ردع الدولة، ويعتبر أن القضاء عليها تدمير للكيان الوحيد الذي يتيح للكادحين المنتصرين، تأكيد سلطتهم المنتزعة حديثا"، داعيا إلى الاتعاظ من تجربة كومونة باريس.
التعليقات (0)