كتب

أهل السنة والجماعة.. التاريخ والمفهوم والنشأة والظهور.. قراءة مغايرة (2من2)

الحقيقة أنه لا أحد من منتقدي التصوف، ولا حتى ابن تيمية نفسه، ذهب إلى رفض التصوف بكليته..
الحقيقة أنه لا أحد من منتقدي التصوف، ولا حتى ابن تيمية نفسه، ذهب إلى رفض التصوف بكليته..
في الفصل الخامس من كتاب بشير نافع (أهل السنة والجماعة.. مقالة في النشأة والظهور) وهو الفصل الذي خصصه المؤلف لرصد حركة التصوف وموقعها من تيار أهل السنة والجماعة، يشير إلى أن التصوف مر بمرحلتين، مرحلة الزهد التي عرفت في القرنين الأول والثاني من خلال عدد من أصحاب النبي وكبار التابعين، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ثم الحسن البصري وغيرهم، ثم مرحلة التصوف التي هي نمط من التفكير العرفاني وصولا إلى القرن الرابع والخامس الهجري الذي شهد تبلور تيار التصوف وانتشاره ونشأة مقار له في العراق وخراسان، زوايا وخانقاه ورباطات، معتبرا أن مرحلة الزهد كان يغلب عليها نزعة الخوف من الله والتشاؤم تجاه الحياة، بينما مرحلة التصوف غلبت عليها نزعة الاتصال والمحبة والتفاؤل، حسب قوله، ويعرض لبواكير رواد التصوف من أهل السنة أمثال إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي وحاتم الأصم، وصولا إلى سهل التستري، والحكيم الترمذي .

وبشير نافع بميله العلمي الأكاديمي إلى وضع الأفكار في سياق تاريخ اجتماعي سياسي، يبرز لنا رؤيتين بالغتي الأهمية، الأولى أن العقوبات التي وقعت لبعض غلاة المتصوفة مثل الحلاج وغيلان الدمشقي، لم تكن فقط للهرطقة والأفكار الشاذة التي حاولوا نشرها، وإنما أيضا لثبوت اتصالاتهم بحركات ثورية خارجة على الدولة، مثل القرامطة، كما يعرض لوقائع محاكماتهم التي امتدت أحيانا لشهور طويلة، واستماع الحجج والردود والشهادات وشهود النفي والوثائق من مراسلات وخلافه، وهي ضمانات للعدالة تفتقدها محاكم عربية في عصرنا الحالي!، كما أن واقعة مقتل الحلاج لم توقف انتشار التصوف المعتدل بفعل ميراث الجنيد وأصحابه.

الملاحظة الأخرى التي توقف عندها المؤلف باقتدار، هي أن ظاهرة التصوف لم تتبلور وتتسع في العالم الإسلامي إلا في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حيث استقرت أمور الخلافة، وازدهرت الحياة، وانتشرت الفنون والصنائع والرفاه ورغد العيش، والذي وصل لشيء من التهتك، الأمر الذي ظهرت معه موجات التصوف كرد فعل على هذا الإسراف في الملذات .

الملاحظة الثالثة أن التصوف لم يمثل طائفة دينية منفصلة، بل كان حالة روحية تتغلغل في المذاهب السنية المختلفة ، فكان هناك شافعية ومالكية وحتى حنابلة من مشاهير التصوف، ويقول المؤلف مؤكدا ملاحظته : "الحقيقة أنه لا أحد من منتقدي التصوف، ولا حتى ابن تيمية نفسه، ذهب إلى رفض التصوف بكليته، لم يتردد ابن تيمية مثلا في الإشادة بأبي القاسم الجنيد ، وبشر الحافي، وشفيق البلخي، وعمر بن عثمان المكي، وسهل التستري، وأبي طالب المكي، إضافة إلى الحنبلي الكبير عبد القادر الجيلاني".

ظاهرة التصوف لم تتبلور وتتسع في العالم الإسلامي إلا في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حيث استقرت أمور الخلافة، وازدهرت الحياة، وانتشرت الفنون والصنائع والرفاه ورغد العيش، والذي وصل لشيء من التهتك، الأمر الذي ظهرت معه موجات التصوف كرد فعل على هذا الإسراف في الملذات .
في الفصل السادس، الذي عقده المؤلف للسلطة السياسية وخصصه لمرحلة قوة الحكم المركزي لدولة الخلافة، وهو يبحر بمهارة في فترة الحكم الأموي، شديدة الحساسية، كثيرة الارتباك والفتن والخروج والهرج والقتل، ويستعرض الكثير من حركات الخروج، مثل المختار الثقفي، وابن الأشعب، والحسين رضوان الله عليه، وزيد بن علي، وعبد الله بن الزبير، لكي يخلص من ذلك إلى أن أهل السنة لم يكونوا متماهين مع السلطة السياسية دائما، بل كثير منهم ثاروا عليها، وقتل منهم نفر كثير، وقد رصد المؤلف أسماء كثير منهم وسيرتهم، غير أن توالي الثورات والفتن وتهديدها لوحدة الأمة والوجود الإسلامي نفسه في قرنه الأولى والخوف على بقاء الإسلام دفع علماء أهل السنة إلى تبني خيار تفضيل "الجماعة" كأولوية على الخروج حتى مع وجود شيء من المظالم ، بالنظر إلى الحصاد الدموي المهول لحركات الخروج المسلح المتتالية .

وبقدر ما انتقد المؤلف الدولة الأموية في مواقف، مثل منح يزيد بن معاوية ولاية العهد، إلا أنه أنصفها في مواطن أخرى، وعرض بشكل دقيق أفضال الدولة الأموية في حفظ وحدة الأمة وانتشار الإسلام في ربوع الأرض واتساع حركة الفتوح وحماية الثغور، كما أنه كان من بين خلفائها من عرف بالعلم والدين مثل عبد الملك بن مروان، الذي أشار عبد الله بن عمر إلى أنه وريثه في علم الشريعة، إضافة إلى ما اشتهر من عدل الخليفة عمر بن عبد العزيز، غير أن الصواب أخطأه عندما عرض لموقف معاوية من شرط "قرشية" الخليفة، ونزع إلى أنها اصطفاء "قبائلي/عروبي" احتج به معاوية، والخطأ هنا أنه اعتمد على "رضوان السيد" ونقل عنه، ومشكلة رضوان أنه متأثر بالاستشراق الألماني إلى درجة كبيرة فيبدو أحيانا غريبا على روح التشريع الإسلامي، وشرط القرشية منصوص عليه في أحاديث عديدة روتها كتب الصحاح وكانت متداولة باستفاضة منذ القرن الهجري الأول بين أصحاب النبي.

ثم يستعرض المرحلة العباسية، بعد نجاح ثورة الخراسانيين، وكيف استفادوا من كل مكونات الغضب تجاه الأمويين ـ خاصة الموالين لآل بيت النبي ـ وضعف الدولة الأموية في أواخرها، ثم يعرض لأسباب قلق العباسيين من طموحات أنصار "آل البيت"، بعد استتباب أمر الملك لهم، وهو ما انعكس على الخطاب الديني المؤسس لشرعية خلافة العباسيين، والتأكيد على أن "العباس" هو الأولى بها وظهور حذري عباسي من النشاطات الشيعية، والمؤلف يستعرض الحراك العلمي والاجتماعي والسياسي خلال فترة الحكم العباسي الطويلة، لكي يخلص إلى أن انتشار تيار أهل السنة والجماعة لم يكن له أي صلة بالسلطة السياسة ودعمها، بل كثيرا ما تصادمت السلطة بأهل السنة، وهنا يتوقف طويلا أمام مرحلة "المحنة"، محنة خلق القرآن، والتي سيطرت على عقل الخليفة المأمون ثم المعتصم من بعده ثم الواثق، وكيف طورد أهل السنة وحبس علماؤهم، ونكل بهم، وخاصة أحمد بن حنبل، لإجبارهم على الخضوع لاعتقاد الخليفة ـ المتأثر بفكر المعتزلة ـ بخلق القرآن، ومع ذلك انتصر الصمود العلمائي والشعبي السني أمام تلك الموجة العنيفة، واضطر الخليفة المتوكل ـ بعد ثلاث دورات للخلافة ـ إلى إلغاء محاكمات المحنة التي قادها سلفه، وحاول التقرب من أهل السنة والتودد إليهم باعتبارهم سواد المسلمين الأعظم في العراق، حاضنة الخلافة، وغيرها من حواضر المسلمين، ثم يخلص من ذلك إلى القول: "إن ما عزز من ثقل العلماء السنة ونفوذهم في عقود ما بعد المحنة لم يكن التأييد والدعم الرسميين، بل قابلية الحاضنة السنية المسبقة لاستيعاب قطاعات كبيرة من المحدثين والفقهاء والزهاد والمتصوفة، إضافة إلى تقدم متكلمين كبار للدفاع عن مفاهيم أهل السنة والجماعة واعتقادهم".

في الفصل السابع الذي خصصه لمرحلة ضعف السلطة المركزية لدولة الخلافة، استعرض فيه باستقصاء مضن، الدول والسلطنات والممالك والإمارات التي نشأت في شرق العالم الإسلامي وغربه، مستغلة ضعف السلطة المركزية، وعدم قدرتها على إخضاع أو إدارة مساحات ضخمة من البلدان من الهند شرقا إلى المغرب الأقصى غربا، عرض الباحث لنشأة البويهيين في خراسان، ونشأة الفاطميين في شمال افريقيا ثم فتحهم مصر والسيطرة عليها، وإرسال جيوشهم للشام وسيطرتهم فترات على حلب، وظهور إمارات للقرامطة، ونشأة إمارات صغيرة من الانقسامات الشيعية المتوالية، ودول للحمدانيين في حلب والإخشيديين والطولونيين في مصر والقرامطة في شرق الجزيرة العربية، ويضع المؤلف يدنا على الجذر التاريخي لانتشار طوائف مثل الإسماعيلية والبهرة والإباضية والدروز والعلويون في مناطق جغرافية بعينها في العالم الإسلامي ما زالت باقية فيها حتى اليوم .

من طريف ما أشار إليه المؤلف أن الفاطميين عندما فتحوا مصر أنشأ قائدهم "جوهر الصقلبي" عاصمة جديدة ـ غير الفسطاط ـ أسماها "القاهرة"، يقول المؤلف: "أن أهل مصر كانت غالبيتهم من الشافعية والمالكية، وأخفق الفاطميون في إجبار عموم أهل مصر على التحول للمذهب الإسماعيلي، فأنشأوا مدينة القاهرة ،وقصد بالقاهرة أن تكون فضاء إسماعيليا خالصا، وقلعة خاصة للحكم والطبقة الحاكمة، وأن تعزل عن سكان مصر، مسلمين كانوا أو غير ذلك"، وهو ما يذكرنا بحديث أهل مصر اليوم عن "العاصمة الإدارية الجديدة" !!، ولم يسمح لأهل مصر بالسكن في القاهرة إلا بعد تولي الوزير بدر الجمالي ، حيث نشر الاحتفال ببعض المواسم الشيعية، في حين بقيت الإسكندرية ـ البعيدة نسبيا ـ عصية على هذا التأثير .

يتوقف المؤلف طويلا عند الدور التاريخي المهم للغاية الذي قام به "الغزنويون" وسط آسيا في حماية ظهر دولة الخلافة العباسية أمام طوفان الانقسامات وفسيسفاء الإمارات المتوالدة، كذلك المرحلة التي بسط فيها "السلاجقة" سيطرتهم على المساحة الأكبر من العالم الإسلامي، محتفظين بولائهم الروحي للخليفة العباسي، ويعتبر السلاجقة هم الحدث الأهم والأبرز الذي حمى الخلافة العباسية ومنحها قرونا من البقاء رغم هشاشة سلطة الخليفة ورمزيته، وهم الذين ساهموا في تأسيس المدارس العلمية على يد وزيرهم "نظام الملك" ونشروا الأمن والأمان والرخاء أزمنة طويلة في ربوع الدولة.

أهل مصر كانت غالبيتهم من الشافعية والمالكية، وأخفق الفاطميون في إجبار عموم أهل مصر على التحول للمذهب الإسماعيلي، فأنشأوا مدينة القاهرة ،وقصد بالقاهرة أن تكون فضاء إسماعيليا خالصا، وقلعة خاصة للحكم والطبقة الحاكمة، وأن تعزل عن سكان مصر، مسلمين كانوا أو غير ذلك
وينتهي المؤلف في هذا الفصل إلى أن نهاية القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس، شهدت الانتصار النهائي والحاسم لتيار أهل السنة والجماعة في عموم العالم الإسلامي من مشرقه لمغربه ليكون المعبر الحقيقي عن "روح الإسلام" وسواده الأعظم.

يختم بشير نافع بحثه الرائع بما أسماه "على سبيل الخاتمة"، يستجمع فيه الملامح الرئيسية التي خلص إليها في بحثه، ويؤكد على أن أهل السنة والجماعة لم يكونوا أبدا صنيعة سلطة سياسية، كما أنهم لم يتصرفوا كطائفة أبدا، "لم يطلقوا خطابا تبشيريا، لم يبعثوا دعاتهم في الآفاق لحشد الأتباع، ظهورهم لم يكن مدينا لطائفة تؤمن بحقها الإلهي في الإمامة ، أو لفرقة عقدية تؤمن باصطفائها وتميزها عن عامة المسلمين"، ليخلص إلى القول: "حمل خطاب أهل السنة والجماعة هاجسين رئيسيين، وحدة الجماعة واستمرارها ، وسيرها على نهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، ولم يلبث هذا الخطاب أن وجد استجابة تلقائية من عموم المسلمين، الذين رأوا في مقولات أهل السنة ومواقفهم التعبير الأكثر مصداقية عن مقتضيات إسلامهم، ورأوا في الانحياز إلى هذه المقولات والمواقف خير دينهم ودنياهم ".

ويشير المؤلف ـ في النهاية ـ إلى ما أسماه "عاصفة التحديث" التي اجتاحت العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى اليوم، ونشأة الدولة الحديثة التي صادرت الفضاء العام، وسيطرت على كل روافده ، القضاء والتعليم والأوقاف والإفتاء، وقلصت دور العلماء في صياغة خطاب الجماعة ورسم ملامح هويتها، وأنتجت نخبها الأيديولوجية البديلة، لكنه يؤكد في الختام: "بيد أنه ليس ثمة شك أن اجتياز تحديات التحديث يظل مسؤولية أهل السنة والجماعة أكثر من غيرهم من أهل الإسلام، ليس فقط لأنهم أغلبية المسلمين الساحقة، ولكن أيضا لأن مسيرة الإسلام عبر التاريخ منحتهم، ومنذ قرون طويلة، شرف الحفاظ على دين الله ووحدة جماعته".

كتاب بشير نافع نشرته "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" في 500 صفحة من القطع الكبير .

اقرأ أيضا: أهل السنة والجماعة.. المفهوم والنشأة والظهور.. قراءة مغايرة (1من2)
التعليقات (0)