قضايا وآراء

أمة الصورة.. وصورة الأمة!

1300x600
الجسد الواقع تحت آلام المرض الشديد تنتابه حالات تشبه استعادة كامل الحياة في أزهى نوبات قوته من وقت إلى آخر.. لكن إن لم يتم استثمار تلك الهزات، الأقل من انتفاضات غالبا، ماتت في مهدها وساءت الحالة أكثر.. 

أما والأمر يخص حال أمة أمتنا العربية الإسلامية، فإن دليل حياتها في وقت الضعف الشديد.. تلك الانتفاضات ثم الهزات، والعكس من الحين إلى الحين، وقد تعلو "انتفاضة" لتضم الملايين في بلد واحد أو في بلاد متجاورة، مثل الظاهرة المُسماة بالربيع العربي منذ نهاية عام 2010م، واستمرارا حتى اليوم بداية من مصر ونهاية بسوريا، ومن آسف شديد، فإن هذه "الأمور"، على حبنا وتقديرنا لها، حتى يومنا هذا لم تفد الأمة ولم تغير من واقعها شيئا.. في ذاتها وأحداثها على الأقل، وإن كان الأمل في الأمة معقودا يزيد في إمكانية صحوتها، وما تزال المرارة تراوح النفوس وتمثل غصة غير محدودة في حلق ملايين الشرفاء المخلصين على امتداد عشرات الدول تمثل شظايا لدولة واحدة سقطت منذ أكثر من تسعين عاما..

ومن "تشظي" آلام الأمة الصورة التي هزت وجدان الملايين منذ ساعات للطفل السوري الشهيد على الحدود البحرية التركية، ذلك الطفل الصغير السن، المحدود الحجم عبر بصدق عن مأساة أكثر من مليون سوري بعد اندلاع ثورتها من حماة في 2011م كمتوالية للثورات: التونسية، المصرية، اليمنية.. وكانت المفاجأة إن "الهبة" الجماعية المتتالية في الدول العربية الأربعة لم تكن إلا "انتفاضة" من انتفاضات الأمة لم تنجح في السير بها لأسباب كثيرة أهمها انعدام الوعي لدى الملايين، بضرورة الحفاظ على مثل هذا الانجاز غير المكتمل.. والنتيجة ترنح الأمة من جديدة.. وعودتها إلى سُبات المرض الشديد في مصر، قلب الأمة المتعب حتى اليوم.. وبالتالي قشعريرة تصيب الأمة في مشارقها ومغاربها.. قشعريرة تشبه قشعريرة الحياة في ظاهرها.. لمن يريد أو يحلم أن يرى عقبها قياما للعزة والقوة والمناعة في الأمة..

ولكن أعداء الأمة إذ يتفنون في دوام سباتها وطول مرضها ومنامها، بعدما يئسوا تماما من موتها، يُلبسون الأمر تماما على الملايين الصابرة المنتظرة للحظة خلاص، وأداة "تثبيت" اللحظة الراهنة الحالية في قلب الأمة.. الرصاصة التي يمد أعداؤنا بها أولئك "المندسين" بين أظهرنا.. المستمدين أساليب حكمهم من قهر الملايين من أحرار الشعوب، والتدليس على الذين لم ينالوا قسطا وافيا من الثقافة، مستغلين فريقا منهم مع معدومي الضمير لتحقيق سيء أغراضهم..

ثم إن هذه الصورة الحقيقة للأمة يتم "تدليسها" إعلاميا، لتمثل أداة لقهر شعوبنا، بإيهام الناس في الأمة بأنهم على ما يرام، وإن الغد يحمل من النتائج والثمار لما لم يتم زرعه أصلا، ولكن هذا الإعلام "الموبوء" كيف له أن يتصرف حيال مآسي الأمة المتكررة الشديدة ..مثلا مأساة ملايين السوريين يفرون من جحيم الظالم الطاغية بشار الأسد..هنا تقفز إلى الأذهان حيلة الاستغلال للموقف استغلال الكلمة العربية الشهيرة للإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: "كلمة حق أريد بها باطل"..

أو صورة حق..في زماننا هذا!

إن الطفل الغارق بصباه الغض الأخضر الطري يؤرق كل صاحب ضمير في العالم، ولكن لما يتم التركيز على الصورة من قبل مناصري الانقلاب في مصر أولئك الذين حرقوا وأصابوا آلاف الأبرياء وما يزالون، لما يُركز الإعلام عليها متناسيا مئات الآلاف من المهجرين السوريين يلاقون المصير ذاته في اللحظة ذاتها التي نتأسى فيها لهذا الطفل.. وكأن المطلوب فقط.. مصمصة الشفاة لا أكثر واستبدال صور الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة غرقه ..

نعم إن صورة غرق الطفل تستبعها شهقات في جسد الأمة هنا وهنا.. أو لنقل رعشات لكن وماذا بعد؟ 
لاشيء كمثل آلاف الصور التي مرت في حياتنا فاهتممنا بها للحظات وأيام ثم انداحتْ وانمحت.. ولم تبق في الذاكرة منها شيئا، نعم ظلتْ القضية لدى الشرفاء .. ولكن بالتحديد ما فائدة الصورة؟.. وإلا فمن يذكر صورة الطفل "حمزة الخطيب" الغارق في دمه، الذي قتلته قوات بشار الأسد يوم 29 من نيسان/ أبريل 2011م .. وماذا بني على تلك الصورة..

إن مثل هذه الصور من آسف لا تمثل إلا مادة لجذب انتباه الأمة للحظات ودقائق وأيام .. ثم لا شيء بعض، ومع كرهي الشديد لكل ظالم دفع بصاحبها وأهله إلى هذا المصير الصعب، وعلى كل حاكم أحال دولنا العربية الإسلامية الممتلئة خيرا إلى جهنم طاردة للبشر.. ممتلئة بالشرور.. ومع دعائي عليهم أتمنى أن نستطيع توثيق مثل هذه الصورة من أجل يوم قريب تنتعش فيه ذاكرتنا بأخذ حقوق هؤلاء الأبرياء، ففي السبعينيات من القرن الماضي لم يكن فن التصوير مزدهرا لما تسببت الصورة الأشهر للفتاة الصغيرة الفيتنامية التي تجري باكية دامعة لكن وهي عارية من النيران، لم يكن فن التصوير مزدهرا لكن صورتها آلمت الولايات المتحدة على نحو فريد من نوعه!

إنني أحلم بذلك اليوم الذي يفهم كل مقاتل إلى جوار طاغية في ربوع أوطاننا العربية الإسلامية إنه إنما يقتل نفسه لا أكثر، وإن الدور قادم عليه، وإنه يرتكب جرما لا يسقط بالتقادم في الدنيا والآخرة .. وحتى ذلك الحين فإنني لأتذكر أمر الصورة الأخير للطفل السوري وأثرها في أمة تهتم بصورة أكثر مما تهتم بحقيقة الملايين.. والأمرين محزنين ولكن أين ترتيب الأوليات.. مع صورة الأمة الإجمالية غير الجيدة من آسف..؟! أتذكر الأمرين مع موقف مشابه مع الفارق..

مثل ما هو دارج بكثير من البلاد كان من العيب في بلدتي أن يتم فتح جهاز التلفزيون فيما هناك ميت في بيت أصحابه، بل كنا صغارا نتحاشى أن يعلو صوت التلفزيون في بيتنا حال وجود جار لنا ميت، ولكن أحد صغار الجار فتح الباب ذات مساء.. وجهاز التلفزيون مفتوح، فقالت له أمه على الفور:

ألم أقل لك إن أبيك ميت من يومين.. ولا ينبغي أن نفتح التلفزيون "علنا" .. فإن أردت فتح الباب.. فأغلق التلفزيون المفتوح طوال اليوم..!

هذا مع تسليمي بأن الطفل الصغير الذي فتح الباب كان أكثر حزنا على وفاة أبيه من أمه، ولكن القصة تجسد الفارق بين أمة تمجد صورتها.. ولو على الباطل، وصورة الأمة الحقيقية..!

ومع احتفاظي بالألم على الطفل الغارق.. لكن في حيز المعاناة الحقيقي للأمة وتمني زواله بالأخذ بالأسباب لا مجرد مصمصة الشفاة والأمنيات!