قضايا وآراء

صرخات الشعوب المكبوتة.. من معتصمي رابعة إلى لاجئي سوريا!

1300x600
لم يفهم الكثيرون وقتها – وربما لا يزال بعضهم لم يفهم بعد – سر هذا الإصرار العجيب والثبات الأسطوري لأنصار الرئيس محمد مرسي في ميدان رابعة العدوية، عقب الانقلاب العسكري عليه بغطاء علماني!

كان الحر شديدا، وساعات الصيام تجعل من الظل ترفا وثروة، فمن ذا الذي يترك البيت حيث الماء البارد والهواء اللطيف، ويجلس في الشوارع لساعات ثم لأيام ثم لأسابيع، حتى أتموا شهرا ونصف، وهم لا يكلون ولا يملون، وقد وطنوا أنفسهم للاعتصام عاما أو بعض عام!

لم يفهم الكثيرون أن ميدان رابعة كان صرخة من شعب مكبوت، بل ظل مكبوتا طيلة عقود وقرون، لا يؤخذ رأيه لا في سلم ولا في حرب، لا في سلطة ولا في حكم، وحين أتت له الفرصة ليختار بإرادته، جاء عسكري مغمور، ضعيف الثقافة، ضحل الفكر، فقير الإنجاز، منعدم الولاء، ليمحو خياراته بدبابته الضخمة أميركية الصنع، وطائراته التي تدربت على حماية أمن إسرائيل!

لم يفهم الكثيرون أن معتصمي رابعة كانوا متشبثين بفرصة نادرا ما تأتي، يحكم من خلالها هذا الشعب، بل جميع شعوب المنطقة، أنفسهم بأنفسهم، دون قمع أو فساد أو استبداد!

كان المعتصمون على دراية كاملة بعواقب تمسكهم بحقوقهم، واستقبلوا رسائل التهديد التي أرسلها لهم العسكر في الحرس الجمهوري والمنصة بنفسية صلبة لم تزدد إلا ثباتا وإصرارا، وهم يستحضرون من الذاكرة اعتصاما مماثلا أمام قصر عابدين في 1954 طالبوا فيه أجداد هؤلاء العسكر بتسليم السلطة للشعب، ثم انصرفوا وتركوا الميدان إثر وعود واهية، فإذ بهم يضيعون فرصة التغيير، وتسقط البلاد في براثن الاستبداد لستين عاما، قبل أن تلوح فرصة أخرى للتغيير!

ورغم أن ثورات الشباب بدأت في تونس، إلا أن معتصمي رابعة كانوا يدركون أن إجهاض التجربة في مصر يعني ضربة قوية للثورات ككل، فهي قلب المنطقة النابض، وتجربتها الأكثر إلهاما! فمشهد المعتصمين في ميدان التحرير ألهم الشباب في كل ساحات التغيير في دمشق وصنعاء وطرابلس، لكن الميدان صار مليئا بالفلول، مما يعني أن الميادين الأخرى أيضا باتت مهددة!

***

لاشك أن الانقلاب العسكري في مصر قد أعطى دفعة جبارة للنظام القمعي الاستبدادي في سوريا، فبمجرد إحراق المصريين في ميداني رابعة والنهضة، حتى أحرق بشار شعبه بالسلاح الكيماوي الذي لم يستخدمه حتى ذلك الحين!

ومثلما خاض الانقلاب في مصر حملة تشويه بشعة ضد معارضي الانقلاب، فقد فعل النظام السوري بالمثل، حتى استخدمت نفس الشائعات وذات الأكاذيب، فاتهموا المعتصمات العفيفات بنكاح الجهاد؛ وهي ذات الفرية التي استخدمت في سوريا، وكأنهم ينهلون من ذات الكتاب الشيطاني اللعين! لاحقا عرف الجميع العفيف من الداعر، والطاهرة من الراقصة!

ومثلما كان المستبد في سوريا ينحاز إلى طائفة أقلية من الشعب، فقد انحاز الانقلاب في مصر إلى كل الأقليات الدينية والسياسية والشعبية، والتي ما كان لها أن تطفو إلى صدارة المشهد السياسي إلا عبر دبابة كبيرة الحجم!

ومثلما كان المستبد في سوريا يتمسح في شعارات المقاومة وحرب إسرائيل، فقد تمسح الانقلاب في مصر بأفلام السبعينات والثمانينات، ناسبين فضل غيرهم إليهم ومتناسين أحضان كامب ديفيد وقبلات بيجين لجيهان!

أنصار الشرعية في مصر كانوا يعلمون أنهم ينبون عن الأمة في صد هجمة استبدادية صهيونية عفنة، يحاول بها عسكر مصر التمسك بإرث دولتهم البالية، ذات الطابع الاستبدادي العلماني الصهيوني، المتمسح بحضارة سبعة آلاف سنة، ولقطات من حرب العبور التي أجادت مصر بدايتها وأساءت نهايتها! كانوا يعلمون أن نجاح اعتصامهم في رابعة سيمنع مثل هذه المشاهد المذلة لجحافل اللاجئين السوريين وهم يطرقون أبواب أوربا، يتوسلون ويتسولون اللجوء!

لا أحد يمكن أن يعرف كم الضحايا التي كان سيتم إنقاذهم إذا لم يحدث الانقلاب، سواء في مصر أو في سوريا! إذا استمر هتاف الرئيس المصري من القاهرة لبيك يا سوريا! لا مكان ولا مجال لحزب الله يف سوريا! إذا ظلت العلاقات بين القاهرة والنظام السفاح مقطوعة! إذا لم يرسل جيش الانقلاب صواريخ الهيئة العربية للتصنيع، لا لدك تل أبيب، ولا لتحرير الجولان، ولكن لقصف دوما وحرستا وإدلب والزبداني المطالبة بالتحرير!

لكن الانقلاب في مصر سارع بعد تهجير سريع لأهل سيناء، وبعد تغير عقيدة الجيش من حرب إسرائيل إلى "حرب الإرهاب" إلى التواصل سرا وعلنا مع نظام قتل مئات الآلاف من أبناء شعبه وسلم بلده إلى الإيرانيين، للإجهاز على الثورتين المصرية والتونسية!

الرسالة التي يبعثها الطغاة في دمشق والقاهرة للشعوب واحدة؛ صرخات السعوب لا تكفي، فليس بالصراخ وحده تتحرر الشعوب، ويسقط الطغاة! إنهم حتى يستكثرون عليكم الصراخ، ويرونه إرهابا يجب اجتثاثه! يقتلونكم على الهوية، ويعتقلونكم بالاشتباه!

هناك جرح اجتماعي عميق لا يلتئم إلا بالعدل والمساواة، وقوة الحق التي تكسر غرور القوة وظلمها واستبداها!