قضايا وآراء

ردا على سمية الغنوشي: الإسلام لا يعرف العلمانية!

1300x600
طالعت مقال الكاتبة التونسية سمية الغنوشي بعنوان أي دور للإسلام في السياسة؟ وقد لمحت نبل الغاية بين سطوره في محاولة الكاتبة التوفيق بين القيم الإسلامية التي يبدو أنها نشأت عليها، والقيم الغربية -أو الحداثة كما أسمتها- والتي يبدو جليا أنها متأثرة بها! 

وقد سمحت لنفسي أن أكتب ملاحظات على المقال، لتبيان وجهة نظر غالبا لا يُسلط عليها الإعلام، ولا تأخذ حقها في التعبير، لأسباب يطول شرحها الآن.
 
*** 

أولا العنوان يعبر عن توصيف غير دقيق للمشكلة! "أي دور للإسلام في السياسة؟؟" عنوان يعبر عن نظرة متأثرة بتاريخ الكنيسة المقيت في أوربا في التسلط بالرأي، وفرض الفكر بالقوة، إلى درجة لعب دور سياسي رئيسي، وتبني نظريات علمية ثبت بالدليل القاطع خطؤها، مما دفع أصحاب العقول في أوربا إلى تطليق الكنيسة والدعوة إلى تحجيم دورها في العلوم السياسة والحياة العامة!

أما الإسلام فليس فيه كهنوتا، ولم يعرف مصطلح "رجال الدين" قط، ولا يستطيع أن يدعي أحد أنه يحكم باسم الله كما كان يحدث في أوربا قديما. 

والإسلام لا يتحدث في أساليب وآليات للتنفيذ، لكنه يضع قيما عامة، وقواعد ثابتة، ويترك للمسلمين في كل مكان وزمان التشاور في كيفية تطبيقها، حتى أن أمير الشعراء شوقي رحمه الله أوجز هذا المعنى العميق في بيت شعر قائلا:
الدينُ يسرٌ والخلافةُ بيعةٌ .. والأمرُ شورى والحقوقُ قضاءُ

ففي السياسة مثلا يجب أن يكون الأمر شورى، دون أن يحدد القرآن الكريم ولا السنة النبوية المطهرة آلية اتخاذ القرار وفق هذه الشورى، هل يكون مجلسا نيابيا واحدا، أم مجلسين؟؟ وما النسبة المطلوبة لاتخاذ القرار...إلخ . نفس الأمر ينطبق على القضاء (درجات التقاضي وسن القوانين)، نظام الدولة (رئاسي أم برلماني) الجهاد يكون بأي سلاح وتنظيم الجيوش ... إلخ

أي أن الإسلام يضع فقط إطارا للصورة، كما يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه "هل نحن مسلمون"، ويترك المسلمين في كل مكان وزمان ليضعوا هم بأنفسهم الصورة الملائمة، بشرط ألا تخرج الصورة خارج الإطار.

وهذا الإطار المقصود هو النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، أو ما اصطلح الأصوليون على تسميته "المعلوم من الدين بالضرورة"
***
وقد ادعت الكاتبة أنه "لا يوجد إسلام جوهري في حد ذاته خارج ظروف الزمان والمكان" وهو ادعاء قد جانبه الصواب كثيرا، وفيه تأثر واضح بالعالم ريشار سيمون (1638–1712) الذي حاول تفسير العهد القديم من المنظور اللغوي، فأثبت أن التوراة التي بين أيديهم لا يمكن أن يكون موسى عليه السلام هو الذي كتبها، لأن فيها ألفاظا لم تكن على عهده، كما أن فيها فصلا يتحدث عن وفاة موسى عليه السلام ودفنه، فهل تحدث موسى عن نفسه بعد أن مات وقبر؟؟ 

هناك بالفعل "إسلام جوهري" - بلغة الكاتبة -لا علاقة له بالتغيرات التي طرأت على المسلمين منذ انقضاء فترة الخلافة الراشدة وبداية الحكم العضود الوراثي في عهد الأمويين، ولا بما حدث أيام العباسيين، أو الفاطميين، أو المماليك أو العثمانيين أو حتى الحكام العرب المستبدين حديثا! هذه كلها نماذج تقاس كما قلنا بمعيار واحد، هو النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة! 

فالإسلام في ماليزيا أو إندونيسيا أو سلطنة بروناي كما قالت الكاتبة، أو في العراق وسوريا على الجانب الآخر، يقاس بمعيار واحد وهو "النصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة" من القرآن والسنة الصحيحة، وهذه النماذج جميعها ليست حجة لأحد، ولا يتحمل نتائجها إلا أصحابها، مع الأخذ في الاعتبار أنه من الطبيعي جدا استدعاء معاني الجهاد في الدول التي تعرضت لاحتلال، مع إمكانية تأويل النصوص بشكل غير مناسب، تنتج فصائل متطرفا، لا ذنب للنصوص فيها!

وإذا كانت سياسة حزب إسلامي النقدية خاطئة مثلا، أو لم يوفق هذا الحزب في وضع نظام سياسي يضمن حرية التعبير بالشكل الأمثل، أو لجأ إلى العنف والإرهاب بشكل يهدم أوامر الإسلام الواضحة الناصعة فإن ذلك يكون خطأ الحزب الإسلامي أو الحركة الإسلامية لا مشكلة الإسلام!

*** 
وعقيدة المسلم تحتم عليه الاعتقاد أن كل حركاته وسكناته لله عز وجل: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون" الأنعام 159، ويقول أيضا عز وجل: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" الأنعام 162

وعليه، فإن محاولة الكاتبة حصر الإسلام "كمصدر للقيم الأخلاقية والروحية العامة"، أو "الثقافة السياسية التي تزود الأفرادَ والمجموعاتِ بالمخزونِ الرمزيِّ والدلالي المنتج للخطاب والموجّه للسلوك"، هو اجتزاء للإسلام، ونقض للغاية التي يتحتم على المسلم وضعها نصب عينيه، وهي تطبيق شريعة الله وإعادة الخلافة الإسلامية وتحرير فلسطين.  

وحتى لا يفهم كلامنا في غير موضعه؛ فإننا نفهم أن الإسلام اهتم بالإنسان قبل أن يهتم بالبنيان، وعليه تكون مهمة الأحزاب الإسلامية الرئيسة أن تجعل الناس يقبلون بشريعة الله بفرح وسرور، لا بإجبار وإكراه، وأن يوفروا لهم سبل الحياة السليمة والاحتياجات الأساسية لهم قبل تطبيق شرع الله، المتمثل كما قلنا في المعلوم من الدين بالضرورة وليس التفاصيل الفقهية المختلف فيها، فالقاعدة تقول: المختلف فيه لا إنكار فيه!
 
***

وإني أؤكد أنه لا توجد مشكلة إطلاقا في التعرف على النافع في "الحداثة" -التي تراها الكاتبة قد فرضت نفسها- واستقاء المفيد منها؛ فقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه: الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها. 

وهذا الحديث وإن لم يثبت مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن معناه صحيح، وذلك أن المؤمن لا يزال طالبا للحق حريصا عليه، فكل من قال بالصواب أو تكلم بالحق قبل قوله وإن كان بعيدا بغيضا (إسلام ويب)

لكن هذه الحداثة يجب ألا تدفعنا إلى لتخلي عن عقيدتنا الإسلامية بأن الإسلام دين ودولة، بالمعنى الذي وضحنا ضوابطه أعلاه، وإلا فسنكون مثل زجاجة العصير التي شرع أعداؤنا يخففونها مرات ومرات، حتى لم يبق من زجاجة العصير إلى اللافتة الرقيقة التي توضع عليها من الخارج، بينما المحتوى قد تم تخفيفه، وصار بلا طعم ولا شكل ولا رائحة! 

ويجب ألا ننسى هنا أن هذه الحداثة قد أنتجت لنا "إسرائيل" وانتزعت فلسطين، واستحلت دماء المسلمين في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها، ودعمت حكاما مستبدين لا علاقة لهم بالإسلام، ولا هم لهم إلا قمع الإسلاميين وقتلهم في الشوارع والسجون، فهل صار الإسلام الآن متهما، مطالبا بتغيير لغة خطابه وهو المعتدى عليه؟؟ ألا يكون من الطبيعي أن يلجأ المسلمون إلى آيات الجهاد والمقاومة للدفاع عن دينهم وحياتهم وأرضهم وحريتهم، وفق الشكل المناسب في كل دولة ؟؟

وإذا استغل بعض الأطراف النصوص الإسلامية استخداما مشوها، وفسروها تفسيرات خارجة عن السياق، وانحرفوا عن الطريق، هل يكون ذلك مبررا لرفض هذه النصوص واقتطاعها من القرآن الكريم والسنة الصحيحة؟؟ 

وما يدركم أن هذه الفصائل التي تدعي الإسلام يحركها الغرب والنظم المستبدة لإيجاد مبرر لشيطنة الإسلاميين ووصفهم بالإرهاب؟؟ (لمزيد من التفاصيل حول هذا الشأن برجاء مطالعة كتاب "الحرب القذرة" للحبيب سويدية، وخاصة ص 16-17)

*** 

في فترات الضعف يحدث الذوبان، ويكون النصر الحقيقي وقتئذ هو الثبات على المبدأ. وإنني أقدر كل جهد مشكور لإيجاد فكر إسلامي مستنير يناسب طبيعة المرحلة، لكن ألا يكون بنوع من العلمانية المبطنة، التي تقصي الإسلام عن السياسة والاقتصاد والحكم وشتى نواحي الحياة، وتبقيه في الخلفية كمصدر إلهام ومخزون قيمي وثقافي! فالصحابية التي قاومت الشرك في مكة ولما يكتب عليها الصوم والصلاة والحجاب بعد، أفضل عند الله -بنص القرآن- من الذين أتوا بعد الفتح وصاروا يصومون النهار ويقومون الليل!  
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع