كتب

من وجوه الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الأندلس زمن الأمويين.. قراءة في كتاب

وجه التميّز في هذا الأثر عودتُه إلى المجتمع الريفي الأندلسي ضمن مبحث عسير تتوزع مادته بين المصادر المختلفة والاختصاصات المتباينة ليعرض لنا الدور الفعال الذي لعبه هذا المجتمع في مختلف النواحي..
الكتاب: "المجتمع الريفي في عصر بني أمية (138- 422 هـ/ 756- 1031م)"
الكاتب: حسن محمد قرني
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، 2012
عدد الصفحات: 530 

ـ 1 ـ

لم يضيّع العرب والمسلمون الأرض فحسب بتفريطهم في الأندلس وإنما فرطوا في حضارة وثقافة وخبرات كان يمكن أن تضيف إلى مكتسباتنا اليوم كثيرا. والأمارة على ذلك أهمية ما بقي منها من أساليب وتقنيات فلاحية وصناعية ومن معمار وأدب وثقافة وفن للطبخ أو الحياكة والتطريز، في بلدان شمال إفريقيا بعد أن وفد مع الموريسكيين المرحّلين من شبه الجزيرة الأيبيرية. وجلبوا المشاتل والسلالات. فأحيوا الأراضي واستصلحوها وأثروا الحياة الثقافية والفنية على نحو لا يزال وقعه محسوسا حتى زمننا هذا.

لذلك كلّه لا يزال بعض المؤرخين يحاولون العودة إلى هذا الماضي في المصنفات المختلفة للقبض على لحظة من التاريخ انفلتت من بين أصابعنا في غفلة منّا. وضمن هذا المسعى ننزّل الكتاب القيّم "المجتمع الريفي في عصر بني أمية (138- 422 هـ/ 756- 1031م)" للباحث حسن محمد قرني.

ووجه التميّز في هذا الأثر عودتُه إلى المجتمع الريفي الأندلسي ضمن مبحث عسير تتوزع مادته بين المصادر المختلفة والاختصاصات المتباينة ليعرض لنا الدور الفعال الذي لعبه هذا المجتمع في مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية، مصادرا على أنّ السلطات قد اعتمدت عليه بشكل كبير في تمويل مشاريعها السياسية الداخلية والخارجية "وبالجملة كان المجتمع الريفي بمثابة الظهير الاقتصادي للمجتمع الحضري أو المديني في الأندلس". فمثل ظاهرة تاريخية عمل الباحث على تقصي مظاهرها في مستوياتها المختلفة بما في ذلك تجلياتها في الحواضر أي في غير مواطنها الجغرافية الأصلية.

ـ 2 ـ

وكان لا بدّ لمحمد حسن قرني أن يوضّح المراد من عبارة "الريف الأندلسي" التي اعتمدها أسوة بمباحث علم الاجتماع اليوم خاصّة أن الأندلسيين كانوا يشيرون إلى موضوع الدراسة بالبادية وأن يحدد المعايير التي وضعها الكتاب المسلمون للتفرقة بين المجتمعات الريفية وغيرها من مجتمعات الحواضر وسيعتمدها لاعتبار الأقاليم المدروسة ريفا. فمنها معيار الموقع ويتمثل في قربه من الماء، فمن دلالات كلمة الريف عند اللغويين خاصّة، كل ما قارب الماء من الأرض.

ويعود الربط بين العنصرين إلى حاجة المواشي إلى الورد والأراضي الزراعية إلى السقي. ومنها معيار الحرفة أو المهنة. وكان ابن خلدون أول من اعتمده لتمييز المجتمع الريفي (البدوي في اصطلاحه) عن غيره. فمن الريفيين "من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة القيام على الحيوان". وظلّ هذا المعيار مهما لدى علماء الاجتماع المحدثين للتفرقة بين المجتمعات. ويُصنّف أهل الريف من جهة مهنهم وعلاقتهم بالأرض إلى صنفين. فمن اشتغلوا بالزراعة  غلب عليهم الاستقرار. وأما من اشتغلوا بالرعي، فقد غلب عليهم التنقل والترحال بحثا عن العشب والكلإ.

ويضيف ابن خلدون معيارا آخر يشير إليه الباحث ب"مستوى المعيشة" وفق الاصطلاح الحديث. ويتجلى في طبيعة المأكل والملبس والمسكن. فأهل البدو عنده، مقتصرون على الضروري مقصرون عمّا فوق ذلك من كل ما هو كمالي. ومثل حجم التجمعات السكنية معيارا أخيرا. ويشمل عدد السكان والمرافق الاجتماعية الموجودة مثل الحمامات والفنادق وما إليها، فوجود مثل هذه المرافق لا يتوفّر عادة إلا في المدن أو بعض القرى. "وهكذا يتضح أن مفهوم الريف الأندلسي يعنى ما كان يُسمى البادية الأندلسية، ويشمل كل المناطق الزراعية ومناطق الرعي والصيد خارج نطاق المدن الكبرى".

ـ 3 ـ

حاول المجتمع الريفي الأندلسي أن يوظّف مختلف المعطيات الجغرافية والطبيعية الصعبة ليستغلها في أنشطته الفلاحية. فابتكر الفلاحون صيغا جديدة في الزراعة تحافظ على خصوبة الأراضي الجيدة، وعملوا على مضاعفة خصوبة الفقير منها. واستصلحوا القابل للزراعة واستخدموا أساليب وتقنيات مختلفة في الزراعة والري تلائم أنواع التربة. واتبعوا الدورات الزراعية المكثفة في الأراضي التي تتحمّل مثل هذا النشاط والدورات الزراعية غير المكثفة في بعض الأراضي الأخرى. ثم استخدموا أنظمة وأساليب في الري، ملائمة لوعورة التضاريس وقلة المياه. وكثيرا ما نجحوا في التغلب على تقلبات الطقس، وخطر الآفات باستخدام تقنيات ذكية يفصّلها في الباحث في أثره.

فضلا عن ذلك عمل الفلاح الأندلسي على استغلال مختلف الموارد الطبيعية في بيئته. فمارس أنشطة أخرى مثل الرعي أو الصيد البرى وقطع الأخشاب، والتقاط الأعشاب البرية النافعة، مستغلا لذلك المساحات التي لا تصلح للزراعة.

لم يضيّع العرب والمسلمون الأرض فحسب بتفريطهم في الأندلس وإنما فرطوا في حضارة وثقافة وخبرات كان يمكن أن تضيف إلى مكتسباتنا اليوم كثيرا. والأمارة على ذلك أهمية ما بقي منها من أساليب وتقنيات فلاحية وصناعية ومن معمار وأدب وثقافة وفن للطبخ أو الحياكة والتطريز، في بلدان شمال إفريقيا بعد أن وفد مع الموريسكيين المرحّلين من شبه الجزيرة الأيبيرية.
وانفتح على محيطه القريب وتعرّف إلى خبراته. فأدخل سلالات جديدة من الأغنام والخيول وأفاد من نظم الزراعة والري التي أدخلها المسلمون من العرب والبربر. وانتهى بفضلها إلى استغلال للأراضي الزراعية بشكل مثالي، واستوعب الأساليب والتقنيات الوافدة أو المحلية الإسبانية، ليزيد من فاعليتها في زيادة الإنتاج وتحقيق قدر كبير من الاكتفاء الذاتي و"بفضله تبوأت إسبانيا فيما بعد مكانا مرموقا في مجال الاقتصاد الرعوي. وعامة "يمكن أن تتحدث عن مدرسة أندلسية في الرعي امتزجت فيها التقاليد المحلية الإسبانية بالتقاليد الوافدة خاصة التقاليد البربرية.. التي نقلوها معهم إلى الأندلس" وأفضى التفاعل بين المكتسب والوافد إلى إيجاد أسلوب زراعي مميز أسس في القرن الخامس الهجري ما سمي بالمدرسة الزراعية الأندلسية.

ـ 4 ـ

ولم يكن لهذا الريفي أن ينجح في إثمار الأرض على النحو الذي وجد في الأندلس لولا وجود التنظيم الإداري يشرف عليه جهاز بيروقراطي محكم قام على توزيع الأدوار والاختصاصات بدقة. فضبط العلاقة بين الفلاحين والحكومة إلى حد كبير. وكان هناك موظفون يتولون الإشراف على الشؤون المالية، وموظفون يشرفون على الإدارة الدينية وآخرون يختصون بالنصارى وغير المسلمين عامة. ولئن سيطر كبار الملاك على الأراضي الشاسعة، فإن نظام حيازة الأرض من زراعة ومغارسة ومساقاة، قد أتاح للعديد من الفلاحين استغلال الكثير من الأراضي ومقاسمة ريعها مع أصحابها وفق الضوابط التي كفلها الشرع أو رسّخها العرف. وبمرور الوقت ظهرت ملكيات صغرى تتيح لصغار الفلاحين ملكية الضيعات والبساتين.

وكان للمجتمع الريفي الأندلسي إسهام بيّن في الحياة التجارية والاقتصاد. فقد ساعد الفلاحون بما وفروا من الإنتاج الزراعي والموارد الطبيعية، البلاد على مواجهة مختلف الأزمات الاقتصادية، كما ساعد الحكومة في تمويل معظم مشروعاتها الداخلية والخارجية، وأعان على الازدهار الصناعي والتجاري. فأمكن تصنيع العديد من المنتجات الغذائية وغير الغذائية. وابتكرت الوسائل لتخزين الطعام لفترات طويلة، لاستعمال هذه المنتجات في الطب والعلاج، وفي الأزياء والملابس ووسائل الزينة. فأسهمت الصناعات الريفية في ظلّ الاستقرار الذي نعمت به الأندلس في فترات كبيرة من حكم بني أمية، في بعث حركيّة  في الأسواق الريفية وفي ازدهار التجارة عامة، مفيدة من وجود شبكة من الطرق الداخلية المتنوعة كفلت الاتصال بين مختلف الأقاليم  وربطت النواحي الريفية ببعضها وهيأت الظروف لوجود علاقات تجارية قوية بين مجتمع الريف ومجتمع المدينة.

ـ 5 ـ

المستوى الاجتماعي وانطلاقا من هذه السمات المختلفة كان الباحث يثني على ثراء الشخصية الريفية الأندلسية، وذكائها المكتسب من البيئة المحلية والمدعّم بما كان يحصّل من العناصر الحضارية الوافدة، بحيث انصهرت هذه العناصر المتباعدة إلى حد كبير في كلّ موحّد مهيمن هو الطابع الإسلامي الشرقي دون أن تفقد مكوناتها الثقافية المحلية. ولعلّ ذلك أن يعود إلى الامتزاج الحضاري الذي تمّ بصورة متأنية. فشمل بين مختلف العناصر السكانية الريفية. ومن مظاهر هذا الانسجام والامتزاج أنّ الطبقة الاجتماعية الواحدة كانت تضمّ مختلف الأعراق والعناصر والديانات.

ويجد الباحث في استغلال المجتمع الريفي لكل معطيات التضاريسية لتطوير الفلاحة ودعم الدّخل مظهرا آخر من مظاهر الذكاء الاجتماعي الأندلسي. فقد طوّع سفوح الجبال ومدّ عبرها أنظمة مناسبة للري للتغلب على معضلة نقص المياه وحفر الآبار. وجمّع مياه الأمطار، وواجه أخطار السيول بإقامة العديد من السدود والجسور والمعابر.

ـ 6 ـ

وكان لا بدّ لهذا التميّز الاقتصادي ولهذا الحراك التجاري من أن يتحوّل إلى ثراء ثقافي. فاتسم المعمار الريفي باختلاف الأنماط وتداخلت فيه العناصر المشرقية وبالطراز المحلية الإسبانية. وتفاعلت العادات والتقاليد وطقوس الحياة الأسرية من زواج وميلاد وموت. فكانت مختلف العناصر السكانية تشترك في الاحتفال بكثير من الأعياد الدينية والوطنية، ربما كان ذلك بمقتضى التضامن الذي يميّز الريفيين مقارنة ببرودة العلاقات الاجتماعية بين ساكنة المدينة، حتى أن بعض الفقهاء انتقدوا مشاركة المسلمين للنصارى في الاحتفال بأعيادهم، ولكن دون أن يحدوا من الظّاهرة. وعامّة كانت المؤثرات الإسلامية هي المهيمنة. ولكنّ ذلك لم يحل دون بروز  بعض المؤثرات المحلية النابعة من البيئة الإسبانية الغربية ومعايشتها لها. فكانت هذه المكونات المختلفة للشخصية الريفية إفرازا لسمتي التسامح والتعايش اللذين كانا سائدين عصرئذ.

ولم يكن هذا المجتمع الريفي الأندلسي موصدا أمام مختلف التيارات الثقافية، فقد نشطت في ربوعه حركة نشر الإسلام والتعريب منذ الفتح. واضطلعت الكتاتيب بدور مهم فمثلت مرحلة أولى من التعليم لابد لكل طالب أن يجتازها قبل السفر إلى الحواضر المجاورة لقراهم بحثا عن الترقي في المعارف والتخصّص في أنواعها. هذا فضلا عن دور بعض الحركات الثقافية التي أثرت الفكر الثقافي في الريف مثل حركة الزهاد والمتصوفة والحركة المسرية. وإلى هذه العناصر المختلفة يردّ حسن محمد قرني بروز عدد من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء ينتمون إلى أصول ريفية أثروا الحياة الفكرية الأندلسية.

ـ 7 ـ

إذن تميّز هذا المجتمع عامّة بالاستقرار والانسجام التلقائي بين مختلف العناصر ذات الأصول العرقية أو الدينية المتباعدة. ولكن الأمر لم يخل أحيانا من عناصر التوتّر التي تعود على الأهالي بالضرر وتتسبب في تلف المحاصيل. فمن المهم الإشارة إلى أنّ هذا المجتمع الريفي لعب أحيانا دورا سياسيا عنيفا. فجعل من هذه العوامل الجغرافية منطلقا لقيادة الانتفاضات ومناوئة الحكومات محولا وعورتها إلى حصون طبيعية للتخفي بعيدا عن بطش السلطات المركزية. وكثيرا ما كانت أراضيه مسرحا للمعارك الحربية بين المسلمين في الأندلس، وبين النصارى في الممالك النصرانية المتاخمة في الشمال أو بين المسلمين والنورمان الذين أغاروا على الأندلس في فترات متقطعة.

ـ 8 ـ

وسيكون هذا المجتمع الريفي ملاذ المسلمين ليمارسوا معتقداتهم الدينية بعد سقوط الأندلس بعد أربعة قرون أو خمسة، إثر استرداد الأندلس ونكث الأسبان بعهودهم ومحاصرتهم من قبل حملات التنصير ومحاكم التفتيش وأنّ كل هذا الاستقرار والنماء سيتحوّل إلى عنف واضطهاد وتطهير عرقي وديني انتهى إلى اجتثاث كل ما هو عربي من مظاهر الحياة في شبه الجزيرة الأيبيرية. وهكذا احتضن آخر الصفحات الحزينة من التاريخ العربي والإسلامي في الأندلس. ولكن الكتاب لا يذكره لأسباب منهجية باعتبار أنه يقع خارج الفترة الزمنية التي حدّدها موضوعا للدراسة.