قضايا وآراء

زلزال إنساني وآخر شيطاني

الخوذ البيضاء
لقد تسببت سلسلة الزلازل التي ضربت جنوب تركيا وشمال سوريا برسم خريطة جديدة للأرض؛ فأخاديد ووديان، وتصدعات وانزياحات، وبنايات راكعة أو ساجدة أو مصعّرة خدها للأرض تسترحم ربها؛ مما رسم خريطة من الحزن في عيون الناس، وحفر على صدورهم أخاديد، وأحدث في قلوبهم تصدعات لن تختفي آثارها سريعا، وستبقى كالوشم لا يمّحي بمرور السنين.

حتى في الألم والحزن الناجم عن الكوارث؛ ثمة حزن سهل التناول، شهي الدفء، سريع الاحتواء، وثمة حزن لا أب له ولا أم، تمضي به الأيام وهو يزداد حرقة ووجعا؛ فتتعالى الصيحات ويخترق عويل الثكالى واليتامى الحجب الواقية من صوت المقهورين؛ لكن لا حياة ولا حياء لمن يسمعون بآذانهم المثقوبة وضمائرهم الخربة. فلو كان النداء لطائرة وبراميل متفجرة، لجاء الجواب سريعا، أما النداء العاجل لتوفير قسط صغير من الرحمة والإنسانية؛ فلا تسل عنهما في مصانع القرار السياسي العربي والدولي في آنٍ معا..

ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر مدينة غازي عنتاب في جنوب تركيا، فجر السادس من شباط/ فبراير، تلاه بعد نحو تسع ساعات زلزال آخر بقوة 7.5 درجات في ولاية كهرمان مرعش، وطالت الأضرار جنوب تركيا وشمال سوريا، وبعد الزلزال الثاني بدأت الكارثة على الجانبين التركي والسوري تتكشف بصورة مرعبة. لكن ثمة جانبان آخران هما سوريا وسوريا.. نعم سوريا وسوريا.. الأول سوريا الجلادين واللصوص، والثاني سوريا المقهورين والمتعبين.. والفرق الأبرز بينهما أن الأول لا يتعرض للبراميل المتفجرة ولم تصبه زلازل من قبل، بينما الثاني معتاد على الموت والزلازل قبل حدوثها..!!

كان يفترض ألا يتم تسييس الكارثة؛ فالمسألة أولا وأخيرا تتعلق بإنسان يعيش فوق الأرض كغيره من البشر الذين يتعرضون لغضب الطبيعة في أي مكان من هذا الكوكب، لكن العالم كله صمت على معاناة السوريين في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة؛ حتى لكأنهم بشر من الدرجة العاشرة

كان يفترض ألا يتم تسييس الكارثة؛ فالمسألة أولا وأخيرا تتعلق بإنسان يعيش فوق الأرض كغيره من البشر الذين يتعرضون لغضب الطبيعة في أي مكان من هذا الكوكب، لكن العالم كله صمت على معاناة السوريين في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة؛ حتى لكأنهم بشر من الدرجة العاشرة، وبالكاد وصلهم بعض الغذاء وبعض الأغطية والملابس بعد أربعة أيام من الزلزال، وكم كانوا منذ اللحظة الأولى بحاجة لبعض المعدات للمساعدة في انتشال الأحياء من تحت الأنقاض، الذين قضى كثير منهم لعدم كفاية المعدات والآليات الضرورية للمساعدة في الوصول إليهم وتلبية صرخاتهم الصاعدة من صدورهم ساخنة تناجي رب السماء والأرض، والغاصة في صدور الشرفاء من هذه الأمة وهم يبكون عجزهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس..

لكأني بالزلزال زلزالان، واحد تحفه الملائكة وآخر تنفخ فيه الشياطين؛ فمن ترضَى عنه القوى الغاشمة شرقا وغربا فهو في حِفاف الملائكة وحفظها، ومن لم ترض عنه؛ فهو عمل شيطاني غير صالح، مغضوب عليه حتى وهو يهوي مظلوما عاجزا، لا يلوي على شيء.. وهنا تماما يتجسد المثل العربي القديم: "الصديق عند الضيق"، حيث لا صديق للفقراء والمحرومين، والصداقة تكون مع القوي، فالسياسة العالمية والعلاقات الدبلوماسية تشبه العلاقات القائمة على المصلحة بين الأفراد؛ فليس للفقير والضعيف والمعدم أن يفكر كما يفكر الأقوياء.. وهنا يمكن للشافعي رضي الله عنه أن يصدح ببديع المعنى حين قال:

جزى الله الشدائد كل خير   وإن كـانت تغصّصنـي بريقـي
ومــا أحـبـبـتـها إلا لأنــي   عرفت بها عدوي من صديقي

فلا أصدقاء للمقهورين والمعذبين في الأرض، ولا رحمة للأموات من أبناء جلدتهم، ولا أبناء جلدة القردة والثعالب والخنازير.

الزلزال هز الأرض تحت المطحونين والمعذبين في الأرض، لكنه لم يهز وجدان كثير من البشر قساة القلوب.. كانت الجدران والسقوف تتهدم فوق أجساد البشر، والحجارة تتكدس فوق رؤوسهم، وظل بعضهم يعاني لأيام جريحا أو كسيرا تحت الأنقاض وهو يصرخ، ليجد منقذا، بيد أن الأيدي كانت فارغة عاجزة؛ فيموت الصريخ وتموت معه كل وسائل التعبير عن المشهد بالمعنى والدلالة، والحقيقة والمجاز، ولا يبقى إلا لغة واحدة تصدر عن نزف المآقي ونشيج الأرواح المتعبة بالصبر والصمود أمام مشاهد الموت قبل الزلزال وبعده.

الزلزال هز الأرض تحت المطحونين والمعذبين في الأرض، لكنه لم يهز وجدان كثير من البشر قساة القلوب.. كانت الجدران والسقوف تتهدم فوق أجساد البشر، والحجارة تتكدس فوق رؤوسهم، وظل بعضهم يعاني لأيام جريحا أو كسيرا تحت الأنقاض وهو يصرخ، ليجد منقذا، بيد أن الأيدي كانت فارغة عاجزة؛ فيموت الصريخ وتموت معه كل وسائل التعبير عن المشهد بالمعنى والدلالة، والحقيقة والمجاز

وتقفز إلى ذهني هذه اللحظة قصة الطفلة آية التي ولدت تحت الأنقاض في بلدة جنديرس في الشمال السوري، وقد فقدت أمها وأباها وأشقاءها الأربعة، لتبقى هي وحيدة فريدة، ستكبر لتجد نفسها بلا عائلة ولا عائل، وقد عرض آلاف الأشخاص تبني الطفلة التي اختاروا لها اسم "آية"، لكن لا أتصور أنها بلا أقارب من أخوال وخالات وأعمام وعمات.. فغداً تجد من أقاربها من يضمها إلى حضنه، فذلك أهون ألف مرة من ألف عرض للتبني، قدمها أشخاص، ربما يفكر بعضهم باستثمار قصة الطفلة تجاريا حاضرا ومستقبلا..!!

الموت هو الثابت الوحيد في هذه الحياة، لكن هذه الزلازل تماهى فيها الموت مع الحياة فأموات أحياء يلوذون بالحجر ويستصرخون أخاهم الإنسان.. وأحياء أموات، يسمعون الصراخ ولا يسمعون؛ فهم بلا خلق ولا ضمير.. وما مصطلح الإنسانية إلا معنى هش مفرغ من محتواه وأبعاده اللطيفة، فما هو إلا للاستعراض وبذل دموع التماسيح على مرأى الشعوب ومسمع؛ لزوم الدبلوماسية والسياسات الخادعة القائمة على سرقة الحقوق والاستهانة بأرواح البشر وكرامتهم الإنسانية، والتعامل معهم بالروح الاستعمارية التي لا تزال تعمل في السر والجهر في عالم مخادع ميت الضمير، لا يعرف الرحمة حين يطالب بحقوقه، ولا يعرف الرحمة وهو يسرق عرق الشعوب المغلوبة على أمرها؛ بما يذكرنا بشكسبير ومسرحية "تاجر البندقية" وشخصية "شايلوك"..!!

وأخيرا..

سلامٌ على من نجا منهمو   وألفُ سلام على الميّتينْ
سـلامٌ على حلـبٍ كـم بهـا   جـــراحٍ تئـنُّ ولا تستـكيــنْ
ســلام على مــدنٍ لا تنامُ   من الحزن والهمّ في كل حينْ
ولم يكفها الموتُ جوعاً وبرداً    فزُلزلتِ الأرضُ بالمنهكين
إلهي وأنت مليك الحياة   ورب السماء القوي المتين
ترفق بهم يا إلهي؛ فعيشٌ   كريم، وأمن وركن ركينْ