أفكَار

لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار

أحمد القديدي: علينا الانفتاح على العصر بثقة في النفس وفي القيم وبشجاعة على إعادة النظر في منطلقات ثقافتنا وإعلامنا

نفس السؤال طرحه المصلحون العرب منذ 170 عاما وما نزال نطرحه إلى اليوم 2022 حتى نجد جوابا شافيا لهذه الحيرة ذات الأبعاد الحضارية لأن التخلف ليس قدرا بل مسألة إرادة وعي وإرادة فلنحلل معا أسباب طرحنا المستمر لنفس السؤال..

 

من تداعيات زلزال الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 على الفكر العربي أننا بدأنا نرى ونسمع في وسائل إعلامنا القليلة المتمتعة بسقف مرتفع نسبيا من طلاقة التفكير أصواتا وأصداء جريئة تضع واقعنا موضع النظر والتحليل وتقترح العلاج المفيد والاستعجالي للتردي الراهن. ولعل من رحمة الله بنا أن وهبنا محنة تاريخية تهز أركان القديم البالي من الأفكار المعلبة الجاهزة وتعيد ترتيب الأولويات العربية قبل فوات الأوان.

 

وزادت الأحداث العالمية على محنتنا العربية فأضافت الأمثال التي يضربها التاريخ المعاصر لنا عسانا نعتبر، مثل ما جاءنا من الاتحاد الأوروبي وهو يدخل بثلاثمائة مليون مواطن أوروبي عصر العملة الموحدة (اليورو) بشجاعة وحماسة وتخطيط، رغم أن هذه الشعوب تتكلم 12 لغة وطنية..  وبالرغم من أن هذه الشعوب تتكلم 12 لغة وطنية ولها 12 عملة نقدية وتعتنق مذاهب وأديانا شتى وتاريخها مشحون بالبغضاء من جراء ثلاث حروب أوروبية عالمية في ظرف قرن واحد: 1870 ـ 1914 ـ 1945 .

 

ولم يكن ذلك ممكنا لولا تمسك الشعوب الأوروبية على مدى خمسين عاما بنعمة العقل ونعمة الديمقراطية. وهاتان النعمتان هما اللتان أتاحتا دول المؤسسات الراسخة والتداول السلمي على السلطة والتنازل عن مظاهر السيادة الوطنية لصالح السيادة الإقليمية الموحدة وقبول الاختلاف في الرأي كأمر عادي بل ضروري للنهضة بالمجتمعات من خلال وسائل التعبير الشرعية التي يرعاها قانون عادل وغير مسيس.

 

هكذا توحدت أوروبا وتفرقنا نحن، ولنذكر بداية الستينيات حين كانت ثلاثة شعوب أوروبية هي أسبانيا والبرتغال واليونان ترزح تحت نير دكتاتوريات حيث كان الجنرال فرانكو يحكم أسبانيا بيد من حديد، وكان الجنرال سالازار يحكم البرتغال خارج إطار المؤسسات الدستورية وكان العقداء (الكولونالات) يسيطرون على السلطة في اليونان بعد الإطاحة بالملك.

 

واجتمعت أوروبا كلها في خطة سياسية وإعلامية وثقافية لتخليص هذه الشعوب الثلاثة من وصمة الدكتاتورية، فاعتلى الملك خوان كارلوس عرش أسبانيا وأدخل بلاده إلى خريطة الديمقراطية وقامت ثورة برتغالية مباركة على الدكتاتور سالازار وجاءت بالاشتراكي الديمقراطي ماريو سواريس إلى الحكم كما وقع أول انقلاب مدني على العسكر اليونانيين لتحل محلهم جمهورية ديمقراطية. وبدأت أوروبا تلحق هذه الدول الثلاث بمنظومة الاقتصاد الحر والسوق الأوروبية المشتركة وهبت ريح الحريات على كل أوروبا إلى درجة التأثير القوي والنافع على دول أوروبا الشرقية التي كانت تحت تأثير الاتحاد السوفييتي، فأصابتها عدوى الحريات وتحررت وانفتح لها باب الاتحاد الأوروبي الذي سيتحول من خمسة عشر عضوا إلى سبعة وعشرين، خلال السنوات القادمة، تضم 600 مليون مواطن وتطمح إلى أن يكون اتحادها ـ أي الاتحاد الأوروبي  أقوى دولة على وجه الأرض اقتصاديا وثقافيا.. وربما سياسيا وعسكريا في حالة تدهور حالة الحضارة الأمريكية وانحسار هذه الدولة العظمى "الواحدة" إلى حدودها التاريخية القديمة قبل انفرادها بالعظمة.

 

وعلى ضوء هذه العبر التي قال عنها الإمام علي كرم الله وجهه: ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار ـ على ضوئها الساطع لابد أن نفكر ونستعمل البصيرة إلى جانب البصر. كما فعلت أوروبا حيث أجمعت ـ بالانتخاب ـ على اختيار الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جسكار دستان رئيسا لفريق من المفكرين والمخططين والساسة الأوروبيين بقصد إعداد مشروع دستور أوروبي موحد ومؤسسات دستورية أوروبية موحدة حتى يقطع الاتحاد خط الرجعة إلى الوراء.. وينطلق نحو صناعة التاريخ.

علينا أن نعيد قراءة تراثنا المجيد بعيون أخرى حسب فقه الأولويات والمقاصد فنلغي من برامجنا التربوية وأدبياتنا مظاهر التكفير والعنف وإلغاء الآخر لندرس روائع الفكر العربي الإسلامي المتحرر بفضيلة العقل.. أي نعوض التكفير بالتفكير.

فهل كتب علينا نحن العرب أن نظل خارج منطق التاريخ خائفين مترددين أمام موجات التغيير القادمة، نُصرَ على أن نحرس بوابات قلاعنا القديمة المتهالكة خوف الهواء النقي؟ وهل نحن أيتام حضارة أو لقطاء تاريخ حتى تهملنا الحضارة ويجافينا التاريخ؟ لا بل علينا أن نعيد قراءة تراثنا المجيد بعيون أخرى حسب فقه الأولويات والمقاصد فنلغي من برامجنا التربوية وأدبياتنا مظاهر التكفير والعنف وإلغاء الآخر لندرس روائع الفكر العربي الإسلامي المتحرر بفضيلة العقل.. أي نعوض التكفير بالتفكير.

 

وكم عانينا من خزي التكفير الديني والسياسي فأعلن البعض أن البعض الآخر خارج من الملَة أو مارق عن الدين أو صائد في الماء العكر أو في قلبه مرض أو تحركه أياد خفية.. إلى آخر هذه المصطلحات التي كانت أدوات قمع وإلغاء وسجن ونفي ومشانق.

 

وبالطبع في ظل بعض مظاهر القمع الرسمي ولدت حركات العنف الديني والسياسي حين أوصدت أبواب التعبير السلمي عن رأي مخالف أو نصيحة صادقة أو إسهام شريف في إطار المواطنة.. وفتح الغرب أبوابه للمنفيين ومنهم المصلح والمسيء ومنهم المعتدل والمتطرف ومنهم المهتدي والضال، حتى ضج الغرب بإيواء تناقضاتنا العربية وصراعاتنا الداخلية وكوارثنا العقائدية عوض أن نقوم بمواجهتها وحلها داخليا وفي منظومة شفافة من الديمقراطية والشورى ودولة القانون.

 

أما إذا ما ضللنا الطريق وركبنا موجة المنطق العولمي الجائر المنادي جهرا بالتخلي عن الهوية الإسلامية واعتبار الحركات المقاومة للاستعمار والاحتلال حركات إرهابية فإننا سنأتي جرما حضاريا كبيرا.

 

يجب أن نختلف اختلافا جوهريا عن الرؤية الغربية العنصرية التي تعتبر مقتل الوزير الإسرائيلي زائيفي جريمة إرهابية ومقتل الزعيم الفلسطيني أبو علي مصطفى عملا مشروعا لمقاومة الإرهاب، أو التي تعتبر الهجوم على البرجين عملا إرهابيا ـ و هو كذلك بلا شك ـ وقتل 650 ضحية في قلعة خانجي بأفغانستان عملا بطوليا طبيعيا لمقاومة الارهاب ـ وهو ليس كذلك على الإطلاق ـ وبالموازاة مع التعلق بأصول الهوية، علينا الانفتاح على العصر بثقة في النفس وفي القيم وبشجاعة على إعادة النظر في منطلقات ثقافتنا وإعلامنا وغايات مجتمعاتنا وجذور حضارتنا حتى يعود لحضارتنا إشراقها و توهجها وإسهامها الحي في الحضارة الإنسانية كما كانت في عصورها الذهبية..