أفكَار

هل أخرج فقه التكيف الفكر الإسلامي من واقع الجمود؟

بلال التليدي: نجحت الحركة الإصلاحية في إنتاج فقه غزير للتكيف مع مفردات الفكر السياسي الغربي
منذ أكثر من قرن من الزمان، والفكر الإسلامي يرفع تحدي الاجتهاد والتجديد للخروج من قيود التقليد والانحطاط، وقد كان للاحتكاك بالغرب أثر كبير في إعادة بحث الجدوى من تجديد الفكر الإسلامي، ونشطت مدارس فكرية إسلامية، تعنى أساسا بتجديد النظر للمصادر الشرعية (منهج التعامل مع القرآن والسنة) وتجديد التعامل مع التراث المعرفي الإسلامي، ونقد النموذج الغربي، والوقوف على تحيزاته المعرفية والمنهجية، وتداعت إلى تأسيس مفردات منهجية جديدة في دراسة الحقول المعرفية الاجتماعية، أطلقت عليها شعار "أسلمة المعرفة" أو " نقد التحيز الغربي" أو "استقلال المراكز المعرفية الحضارية وخصوصيتها".

ومهما يكن من شأن هذه المدارس المختلفة، التي انطلقت من خلفية استعادة الهوية الثقافية للأمة، والانتظام في خلفيتها المعرفية والمنهجية، فإن سؤال الأثر الذي خلفته، والتراكم الذي نتج عنها، فضلا عن الإضافة النوعية التي شكلتها، يبقى الأساس في عملية التقييم، وما إذا كانت مساهماتها قد نجحت بالفعل في تجاوز واقع الجمود، وتحويل المنتج المعرفي الإسلامي، إلى رصيد "كوني" يجتذب مختلف المعنيين بالظاهرة الإنسانية والقيمية والمعرفية، سواء كانوا باحثين أو مفكرين أو فاعلين في السياسة، أم إنها لم تخدم من وراء ذلك كله إلا حاجات ضيقة للتنظيمات العاملة؟

من فقه النهضة الإصلاح إلى فقه التكيف

تعد مدرسة المنار من أهم مدارس الفكر الإسلامي المعاصر التي اهتمت بمراجعة التراث الإسلامي، واستئناف النظر فيه، ومحاولة تسويغ فكرة النهوض من أرضية الانتظام فيه، فضلا عن اجتراح محاولات النقد المعرفي للتراث الإنساني، ومحاولة تقديم قراءة مختلفة للمدنية الغربية.

ومع الإقرار بواقع تعدد الإسهامات داخل مدرسة المنار نفسها، فإن الذي يجمع زخمها المعرفي، هو فكرة التكيف مع المدنية الغربية، ومحاولة التأسيس لها من داخل التراث المعرفي الإسلامي، وإحداث مراجعات في التراث الإسلامي، لتوطين مفردات الفكر الإنساني المعاصر في الثقافة الإسلامية، ومحاولة تبيئتها وتسليط الضوء أكثر على الجوانب العقلانية فيها، بما في ذلك إعادة تأويل جملة من القضايا الغيبية، بحملها على معاني محسوسة.

وقد ورثت المدرسة الإصلاحية المعاصرة هذا الزخم المعرفي، فحاولت من خلال أطيافها المختلفة، أن تستأنف منهجها في النظر، وتتعدى به مجال الفكر والمعرفة، إلى مجال الحركة والواقع، معتمدة في ذلك، فقه التكيف بديلا عن فقه الرفض والممانعة الذي ساد في الفترة التي التبست بمقاومة الاستعمار ومواجهة خلفيته الثقافية الخادمة لأجندته التوسعية والامبريالية.

وهكذا، وسواء تعلق الأمر بالمدرسة الفكرية، أو بتجلياتها الحركية، فإن فقه التكيف أخذ شكلين يتناسب كل واحد منهما مع وظيفة كل واحد منهما: التكيف الفكري، الذي سعى إلى تثبيت وجوده من خلال آلية التأصيل والتوفيق والتقصيد والتيسير. والتكيف الحركي، الذي سعى إلى تثبيت شرعيته وتوسع قاعدته من خلال اعتماد آلية التأصيل والاندماج والتطبيع.

فقه التكيف في المدرسة المنارية

لا نريد في هذا المقال أن نستقصي مختلف الأبعاد المنهجية والفكرية التي رسختها مدرسة المنار، فقد تم قتل هذه المدرسة بحثا، وتم تغطية رموزها ببحث جوانب مشاريعهم الإصلاحية بالكامل، مع تقديم دراسات مقارنة تقف على جوانب تميز كل علم من أعلام هذه المدرسة، لكن ما يهم أكثر، هو تسليط الضوء على الحجج التي اعتمدتها مدرسة المنار في تسويغ فكرة التكيف، والآليات التي اعتمدتها في فعل التكيف ذاته.

تجتمع الحجج كلها في حجة كلية، تنطلق من واقع التخلف وحاجة الأمة للنهضة، وأن نهضتها لا يمكن أن تكون على غير سنن التجارب البشرية في نشدان العمران، وأن التقدم الذي أحرزته المدنية الغربية، يفرض إجراء عمليتين نقديتين متلازمتين، توجه الأولى إلى الذات، وتتوجه الثانية إلى مساءلة السنن التي كانت وراء تقدم الآخر.

لا تتردد مدرسة المنار في اعتبار الانتظام في مرجعية السلف المدخل الأساس للتقدم، لكن الحجة الكلية السابقة، تدفعها إلى التساؤل عن الفهم الذي يمكن به تمثل هذه المرجعية، وبأي منهج يمكن قراءة العقيدة، وكيف يمكن استلهام المنهجية الأصولية في التعامل مع نصوص الشريعة، وما موقع التراث في هاتين العمليتين، وهل يتم إعطاؤه القدسية التي تعطى للنصوص الشرعية، أم يتم التعامل مع التراث باعتباره معطى نسبيا قابلا للمراجعة والتطهير.


تجتمع الحجج كلها في حجة كلية، تنطلق من واقع التخلف وحاجة الأمة للنهضة، وأن نهضتها لا يمكن أن تكون على غير سنن التجارب البشرية في نشدان العمران، وأن التقدم الذي أحرزته المدنية الغربية، يفرض إجراء عمليتين نقديتين متلازمتين، توجه الأولى إلى الذات، وتتوجه الثانية إلى مساءلة السنن التي كانت وراء تقدم الآخر.

من الملفت للانتباه في أدبيات مدرسة المنار الحضور المركزي لشخصية الإمام الشاطبي، ليس فقط في جانبه الأصولي المقاصدي (الموافقات) ولكن أيضا، في شقه العقدي (الاعتصام)، فهذه الشخصية، من خلال إسهامها العقدي والأصولي، كانت المعتمد في الزخم المعرفي الذي تركته هذه المدرسة. وعلى الرغم من تركيز عدد من الدراسات على التأثير الاعتزالي في رؤية المدرسة المنارية، إلا أن الخلاف لا يتسرب بالمطلق إلى مرجعية الشاطبي في بناء العقل الاجتهادي المناري.

نميل في تفسير هذا المنحى إلى سببين اثنين، أن المدرسة المنارية، كانت بصدد إنهاء الجدل الكلامي والعقدي الذي بدد كثيرا من طاقات الأمة وفرقها، وذلك من خلال تبني مفهوم جديد للعقيدة: حدي واستيعابي في الآن ذاته. حدي، ينهي مع ظاهرة البدعة العقدية (اختراع طريقة في الدين تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغ في التعبد)، وما يرمز إليه ذلك من محاولة لإنهاء ظاهرة التفرق الذي يتخذ من البدعة سندا شرعيا، ومن محاولة إعادة توحيد الأمة ارتكازا على القعيدة بمفهومها الذي بسطه في الاعتصام. واستيعابي، يفتح نافذة واسعة لاحتواء المذاهب الكلامية والصوفية، من خلال تزكية أعلامها، وكونهم "مجمعين على تعظيم الشريعة، مقيمين على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من آدابها، وأنهم أبعد الناس عن البدع وأهلها"، وأن الضلال إنما "مس المتأخرين منهم"، ومحاولة إرساء آلية للتعامل مع المنتج العقدي والمذهبي والصوفي قائمة العرض على الأصول الشرعية المعتبرة.

وأما السبب الثاني، وهو أن المدرسة المنارية، لم تجد في تراث الأصوليين ما يمكن الاستناد إليه لتسويغ فكرة التكيف؛ لأن منتهى ما يقرره هذا التراث ثلاثة أدلة إجمالية اعتمدت لتسويغ القول بالرأي هي: القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، إلا أن القيود التجريدية التي أحيطت بها، جعلتها أشبه ما تكون بالفاقدة للقدرة على الاشتباك مع الواقع المتجدد. فالقياس يحتاج لأصل يقاس عليه، وعلة جامعة، والاستحسان دليل مختلف عليه، تم التشنيع عليه من قبل الشافعية والحنابلة والظاهرية، فضلا عن كونه يحتاج إلى تسويغ العدول من القياس الجلي إلى القياس الخفي (عند الأحناف)، أو من الكلي إلى الجزئي (المالكية)، في حين تم الاختلاف على حجية المصالح المرسلة من جهة، وتم تقييدها بشروط ضيقت من مجال استعمالها، فكان الملجأ في تسويغ التكيف هو  المقاصد، لكونها لا تتطلب إلا استقراء النصوص لاستنتاج القواعد الكلية، ولأن القطعية التي أضفاها الشاطبي على هذه القواعد الكلية، تقلل من الخلاف في إعمالها، وتجعل مخرجاتها تتمتع بقدر عال من الشرعية.

وبالجملة، يمكن أن نخلص إلى أن المدرسة المنارية، استندت إلى مرجعية الشاطبي، وذلك، لبناء ثلاث آليات تساعدها على إنتاج فقه التكيف، آلية التأصيل، لتوفير شروط الشرعية من جهة، وشروط وحدة مكونات الأمة من جهة ثانية.  وآلية التطهير، التي وجهت فعاليتها إلى التراث الفكري والمذهبي والعقدي والفقهي، بقصد إزاحة العوائق أمام عملية التكيف (اعرض على الأصول الشرعية المعتبرة)، ذلك أن مطلب الشرعية، يتطلب إزاحة الأفهام المعيقة لفعل التكيف، ونزع صفة الشرعية عنها، لتبقى الأفهام التي خرجت بآلية التأصيل على قواعد القعل المناري هي الحائزة وحدها لهذه الشرعية.  وأما الآلية الثالثة، فهي آلية التقصيد، وهي الآلية الأوسع في تسويغ فقه التكيف، بحكم أنها لا تتطلب أكثر من التقدير العقلي المبني على جدل المصالح مع المفاسد واشتباكها وتعارضها، وهو النظر الواسع الذي يجعل مطلب التكيف ليس فقط أمرا ممكنا، بل واجبا شرعيا لما يترتب عنه من المصالح الشرعية المعتبرة. 

فقه التكيف عند المدرسة الإصلاحية المعاصرة

ليس هناك كبير منازعة في أن الحركة الإصلاحية المعاصرة ورثت المدرسة المنارية في كل شيء، وورثت منها على وجه الخصوص فقه التكيف. لكن، ما يميز هذه المدرسة، أنها أنتجت مرجعيات جديدة لتسويغ التكيف، واعتمدت آليات جديدة في توسيع مداه، ونوع حقوله، فلم يعد التكيف مرتبطا فقط بالشق الفكري المنهجي، وإنما صار لازما من لوازم فكرها الحركي والسياسي.

الواقع، أنه ينبغي الحذر كثيرا في تعميم هذه الملاحظات على كل أطياف المدرسة الحركية المعاصرة، فثمة تيارات رفضية داخلها، ابتعدت كثيرا عن فكرة التكيف، واعتبرته لازما من لوازم الذوبان الفكري والاحتواء في أجندة الآخر.

يستحضر المقال خصوصية هذه المكونات، لكنه، يعتبر أنها من حيث الاعتبار الفكري، والاعتبار الكمي، محدودة التأثير والامتداد في الزمن والمكان، ولذلك يركز على التيارات التي أنتجت أدبيات مؤثرة، ساهمت في خلق ما يسمى التيار الوسطي العام في الوطن العربي والإسلامي.

اهتم هذا التيار الوسطي من زاوية المرجعية، بإعادة بناء وترميم وتوسيع مرجعيته الفكرية والأصولية، فلم يعد الشاطبي وحده المرجعية المؤسسة في فعل التكيف وفقهه، وإنما استعان التيار الوسطي بكل المرجعيات التي ساهمت في تنمية الفكر المقاصدي وتوسيع أفقه، فصار الإمام ابن تيمية وابن القيم والقرافي والعز بن عبد السلام وغيرهم مرجعيات أساسية في تسويغ فقه التكيف.

من زاوية المعتقد والمذهب والنظر الفكري والمنهجي والأصولي، أنتج هذا التيار مفهوما جديدا بنى عليه أطروحاته في فقه التكيف، هو مفهوم الوسطية، الذي حاول به الجميع والتوفيق بين ثنائيات كثيرة في العقيدة وفي المذهب والفقه والفكر والنظر الأصولي والفقهي، وقد كان القصد فيما يبدو مزدوجا، تجميعيا يتوجه إلى إنهاء عوامل الفرقة والاختلاف والاصطفاف الحدي بين مكونات الأمة، من خلال إنتاج رؤية توفيقية تجميع الثنائيات المتناحرة. واستقطابيا، يروم الاستقطاب من أطراف الثنائيات المتصارعة، بالشكل الذي يسهل عملية اختراق التيار الوسطي لكل أطياف الأمة.

أما من حيث النظر الأصولي، فقد أنتج مفاهيم أخرى، إلى جانب مفهوم المقاصد، جعلها أساسا لفقه التكيف، وآلية لتوسع مخرجاته، من ذلك، فقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه مراتب الأعمال، وهي مفردات أصولية، كان القصد منها إنتاج بدائل أصولية للنمط التقليدي الذي تعتمده المدارس الظاهرية والحرفية، تسوغ التعامل المباشر مع الواقع، بإعمال قاعدة التقدير العقلي للمصالح، وموازنة بعضها مع بعض، وترجيح بعضها على بعض، من خلال الإحالة على المكاسب التي يمكن أن يحققها الإسلام من جراء التكيف.

كما استند التيار الوسطي في المجال الفقهي على آلية جديدة كانت الأساس في توسيع أفق فقه التكيف، هي ما يسمى بفقه التيسير، وقد كان القصد منها إيجاد سند للتكيف مع الواقع، من خلال تسويغ عملية الانتقاء من المذاهب الفقهية وترجيح أدلتها ليس في ذاتها، ولكن من مدخل ما يفرض المناط الذي يتنزل عليه الحكم. وقد كان أكثر اشتغال هذه الآلية في فقه الأقليات، لاسيما في المجتمعات الغربية، التي تخضع معادلاتها القانونية والسياسية والاجتماعية لقواعد يصعب معها المواءمة مع المقتضيات الشرعية.

استند التيار الوسطي في المجال الفقهي على آلية جديدة كانت الأساس في توسيع أفق فقه التكيف، هي ما يسمى بفقه التيسير، وقد كان القصد منها إيجاد سند للتكيف مع الواقع من خلال تسويغ عملية الانتقاء من المذاهب الفقهية، وترجيح أدلتها ليس في ذاتها، ولكن من مدخل ما يفرض المناط الذي يتنزل عليه الحكم.
صحيح أن بعض المدارس الفكرية التي انبثقت عن المدرسة الإصلاحية المعاصرة، مثل مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وضعت أساسا نهجيا وفكريا للتعامل مع المصادر الشرعية ومع التراث الإسلامي والإنساني بأفق معرفي إصلاحي، لكنها في المحصلة، لم تخرج عن فكرة دعم مركزية المقاصد بجميع مشمولاتها ومتعلقاتها وإضافاتها، بل لم تخرج هي الأخرى، عن سقف فقه التكيف، بل أضافت إليه بعدا جديدا، تمثل في اعتماد آلية الاستصحاب والتوظيف للعلوم الاجتماعي، بعد إجراء عملية شرعنة قيمية لمفرداته الإجرائية والمنهجية.

وهكذا، يمكن أن نخلص مع أعلام المدرسة الإصلاحية المعاصرة إلى أربع آليات اساسية في الشق الفكري والمنهجي، هي آلية التوفيق (الوسطية)، وآلية التقصيد (المقاصد ولوازمها)، وآلية التيسير (الانتقاء من المذاهب الفقهية)، وآلية الاستصحاب والتوظيف (العلوم الاجتماعية)، وذلك لفتح أوسع إمكان للتكيف، من خلال تسويغ عملية فقه الواقع بأدوات الواقع.

فقه التكيف في الفكر الحركي والسياسي:

 وجدت الحركة الإصلاحية المعاصرة سندا كبيرا في مرجعياتها المختلفة لتسويغ فكرة التكيف، ووجدت في آليات التقصيد والاستصحاب والتيسير والتوظيف الأدوات الأساسية لتسويغ فكرة التعاطي مع المجتمع والدولة والمحيط الدولي والإقليمي.

ولأن الإصلاح أصبح بديلا لفكرة النهضة في فكر التيارات الإصلاحية المعاصرة، لاسيما منها التي اختارت العمل الحركي السياسي، فإن مراجعاتها الفكرية التي همين عليها فقه التكيف، انعكس على واقع السياسة، فصار مطلبها في السياسة هو المشاركة في العملية السياسية، بحجة أن التأثير والإصلاح من داخل النسق السياسي، ليس فقط ممكنا، بل إن منطق الرفض ومجافاة المؤسسات، يزكي الفساد، ويجعل الإصلاح غير ممكن ألبتة.

وهكذا، تأسس فقه التكيف في واقع السياسة على ثلاث آليات أساسية، التأصيل، وذلك بحجة أن الاشتغال بالسياسة والدخول إلى مربعها وتحقيق مكاسب من داخل نسقها، هو عين ما فعله الرسول في مسار دعوته (نموذج صلح الحديبية). ثم الاندماج في العملية السياسية، بحجة أن الإصلاح غير متصور من دونه. ثم التطبيع مع قواعد النسق السياسي، بحجة أن الإصلاح لا يمكن أن يكون مقبولا مجتمعيا وسياسيا ودوليا، إلا من خلال الانضباط لقواعد اللعبة.

لا نريد الدخول في تفاصيل ومخرجات فقه التكيف، وكيف آل الأمر بالتيارات الإصلاحية المعاصرة، التي تهيأت للمشاركة السياسية أو انخرطت فيها، إلى تأصيل موقفها من الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وكيف راجعت موقفها من الأحزاب، والتعددية السياسية، وكيف لينت مواقفها في قضايا الحقوق والحريات (حقوق المرأة والأقليات)، فما يهمنا أكثر في هذا المقال، ليس تقييم هذه المخرجات، بقدر ما يهمنا تسليط الضوء على المرجعيات والمقولات والآليات التي اعتمدتها في تسويغ فقه التكيف.

وماذا بعد فقه التكيف؟

من المفيد أن نلاحظ أن فقه التكيف في أدبيات المدرسة الإصلاحية، ظل دائما يتأرجح بين فكرة التوطين في الجانب الأداتي (توطين مفردات الفكر السياسي الغربي)، مع إبداء قدر كبير من التحفظ على الخلفية الفلسفية العلمانية، كما اتسم  بقدر غير قليل من المساجلة مع الذات، وخوض معركة التأصيل مع مكونات الطيف الإسلامي المحافظ، الذي لديه قدر من التحفظ على تبيئة تلك المفاهيم السياسية في الفكر الإسلامي، كما اتسم من جهة أخرى باستحضار الطابع الدفاعي، ومحاولة تبرئة الإسلام من كل التهم التي توجه إليه بخصوص وضع الحقوق والحريات، سواء داخل مرجعيته أو في التجربة التاريخية للأمة.
 
لكن عملية التأصيل لفقه التكيف، لم تكن خالية من العثرات، فقد عبرت في كثير من الأحيان عن وجود أزمة عميقة في بنية الفكر الإصلاحي، إذ كشف عن وجود تناقضات كبيرة في شكل تعاطي هذه الحركة مع مفردات الفكر السياسي الغربي من جهة وتراثها الإسلامي من جهة مقابلة، فعلى سبيل المثال، اتجهت كتب ما يسمى بفقه السياسة الشرعية إلى التكيف مع مفردات الفكر السياسي المعاصر، فأصلت لفكرة الديمقراطية، وفصل السلط، والتداول السلمي على السلطة، والتعددية والدولة المدنية، لكنها في المقابل ظلت منشدة إلى الفقه السلطاني الذي يؤصل لصلاحيات الحاكم، ما لم يأمر بمعصية، ودور العلماء في التشريع، وسلطة الحاكم في تعيين القضاة وعزلهم، وغيرها من القضايا التي يتم الاجتهاد في تأصيلها وضبطها، مع أنها تتناقض في جوهرها مع الجهد النظري الكثيف، الذي بذلته هذه الأدبيات في التكيف مع مفردات الفكر السياسي المعاصر. 

فإطلاق مبادرة الحاكم في التشريع، وفي تعيين القضاة وعزلهم، يمس في الجوهر فكرة الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، كما يضرب في العمق استقلالية القضاء. كما أن إسناد التشريع إلى العلماء ـ هكذا دون وضع مؤسساتي يراعي تمثيليتهم في المحكمة الدستورية مثلا ـ، يجعل هذه الأدبيات في مناقضة صريحة لفكرة الدولة المدنية، أو في تناغم تام مع فكرة الدولة الدينية. ففي الوقت الذي كان فيه مطلوبا من الفكر الإسلامي أن ينطلق من واقع الدولة الحديثة ومؤسساتها الموجودة، ويسلط الضوء على الأعطاب التي تواجهها، والاختلال الذي يحكم العلاقات بين السلط داخلها، ويعمل على إنتاج صيغ فكرية تقدم أجوبة عن هذه المعضلات، راح في الأغلب الأعم، يناقش معطيات الدولة الحديثة بأدبيات الفقه السلطاني، محدثا نوعا من الالتباس في الفهم، إذ لا يعرف بالتحديد هل المقصود التعايش مع مؤسسات الدولة الحديثة، أو تبني نمط مزدوج يجمع بين الدولة الحديثة والفقه السلطاني، أم مجرد تقديم أوراق اعتماد  إيجابية حيالها في الظاهر،  والاستمرار في الاحتفاظ بالصورة التاريخية نفسها لممارسة الحكم، بعيدا عن وقائع العصر وتطور حقائقه ومؤسساته.

إن ما يفسر هذه الأزمة، ارتهان المشروع الفكري لحاجات التنظيم أكثر من ارتباطه وتعلقه بمشروع البناء الفكري والمنهجي للأمة؛ فالتنظيمات الحركية في الغالب تروم خلق حالة تعبوية داخل أبناء التنظيم، تجعلهم في قناعة بأن ما يستندون إليه من مرجعية، قادر على التحقق في أرض الواقع. ولذلك، تستثمر هذه الحالة التعبوية في عملية الاستقطاب والامتداد والتوسع، وتحصين أبناء التنظيم، كما تستثمر آراءه الاجتهادية لتسويغ التكيف مع البيئة الجديدة وقواعدها وشروطها، وامتلاك أوراق اعتماد قوية تبرر الوجود القانوني والدور السياسي للتنظيم في البيئة السياسية، وأن ذلك يمكن حصوله بتأصيل مفردات الفكر السياسي المعاصر، حتى ولو بقيت مناطق ظل كثيرة يرمز بعضها إلى حالة الارتباك والتناقض بين الإنتاجات الفكرية في هذا الموضوع، لاسيما ما يتعلق بصيغة التوليف بين الفقه السلطاني ومتطلبات الدولة الحديثة. 

لقد نجحت الحركة الإصلاحية في إنتاج فقه غزير للتكيف مع مفردات الفكر السياسي الغربي، فأعانها هذا بدون شك في إيجاد أوراق اعتماد للدخول إلى العملية السياسية، وفي تعزيز مواقعها فيها، كما ساعدها في تجميل صورتها أمام الغرب وتحييد موقفه منها، لكن هل نجحت في أن تجعل من فقه التكيف جوابا مقنعا لبناء مشروع نهضتها؟

الجواب على هذا السؤال، يجد سنده في طبيعة العلاقة التي تجري بين الغرب والعالم الإسلامي، أي علاقة القوة والهيمنة والتحكم في مقدرات الشعوب العربية والإسلامية، وطبيعة العلاقة التي تقوم بين الحركة الإصلاحية باعتبارها فاعلا سياسيا والنخب العليا في الحكم، التي يحكمها التوظيف وجدل الاحتواء والإنهاك.

في الواقع، لا يمكن تقييم أثر فقه التكيف إيجابا إلا في الحالة التي تتوجه فيه الحركة الإصلاحية إلى تغيير موازين القوى، وتحويل اتجاه التكيف من مجرد الاندماج والتطبيع مع قواعد اللعبة، إلى التأثير فيها وتغيير موازين القوة، التي تحكم العلاقة بين الأمة والغرب من جهة، والعلاقة بين المجتمع والدولة من جهة ثانية.