كتب

الرأسمالية إذ تنقلنا من الإنسان الحكيم إلى الإنسان المستهلك

الاستهلاك اليوم يجعل كل ما هو رائع وجميل يتراجع أمام ما هو سريع

الكتاب: "ثقافة الاستهلاك: الاستهلاك والحضارة والسعي وراء السعادة"

الكاتب: روجر روزنبلات

ترجمة: ليلى عبد الرازق
دار النشر: الهيئة العامة المصرية للكتاب 2011، ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة
عدد الصفحات: 248 صفحة


1 ـ الإنسان المعاصر وفخ الاستهلاك

حُفر في ذاكرتي، منذ طفولتي كاريكاتور للتونسي عبد الرحمن بلخشين لا يكف عن إضحاكي إلى اليوم، كلما صادفته في ركن من أركانها: يعتلي أحدهم، ذو بطن ضخم ويدخّن السيجار، ظهر ثان يبدو راكضا لاهثا. ويدفع له من الخلف بقطعة كبيرة من اللحم فتتدلى أمامه على هيئة صناره ويغني له من كلمات حسين السيد أغنية محمد عبد الوهاب: (اجر، اجر، اجر ـ وديني قوام وصلني ـ وصلني قوام وصلني ـ ده حبيب الروح مستني).

طبعا سنكمل المشهد في أذهاننا. فالكادح الجائع سيعدو نحو قطعة اللحم. وقطعة اللحم تتحرك بنسق عَدْوه لارتباطها ماديا بالرأسمالي على ظهره ولن يدركها أبدا. والرأسمالي، المنتفخ البطن سيوجهه كيفما أراد فيحركه يمينا أو يسارا بتحريك قطعة اللحم. ويركبه حتى يصل إلى وجهته: إنه شقاء الإنسان المعاصر الذي تحول من البحث عن المتعة العقلية والفلسفة التي هي حب الحكمة كما عرّفها الإغريق إلى أسر فلسفة الاستهلاك والغرق في البحث عن اللذة الحسية والشقاء للقصور دونها. لذلك استعملنا مصطلح الإنسان الحكيم (Homo Sapiens) بشيء من التعسف على سياقه الفلسفي، عنوانا لهذه الورقة لنبرز المقابلة بين الحكمة والاستهلاك ولنشير إلى أحد أسباب شقاء الإنسان في عالمنا المعاصر وهو الوقوع في فخ ثقافة الاستهلاك. 

وهذا هو الموضوع الذي يتناوله الكتاب الجماعي القيّم "ثقافة الاستهلاك، الاستهلاك والحضارة والسعي وراء السعادة" الذي جمع مادته روجر روزنبلات ونسقها. فتتوسع مقالاته في محاولة فهم البنية الذهنية والنفسية والاجتماعية لإنسان اليوم، ضحية النسق الفكري الليبيرالي. وتردّه عامة إلى التناوب الدائم بين تملكه للأشياء وتطلعه لتملّك أخرى حالما يتحقّق التملّك الأول في مسار من الرّكض اللانهائي. وهذا ما يجعله في حالة شقاء مستمر. ذلك أن المنظومة الرأسمالية تتحكّم بأياد خفية في هذا التّطلع ولا تكفّ عن إذكائه بنزع التوهّج عن كل ما يحقّقه بخلق رفاهة أكبر منه. فيتعيّن أن يعاود الركض من جديد للحصول عليها. فتفتح شهيته حتى الوِسع وتجعله في حالة عجز مستمر عن إشباعها.

2 ـ الاستهلاك بئر بلا قاع تبتلع الجميع

يحاول ويليام جرايدر في المقالة "عالم واحد من المستهلكين" أن يشخّص أمراض الرأسمالية الصناعية. فيجدها أمراضا دورية تميل إلى تكرار أعراضها جيلا بعد جيل ويجعل من مؤسساتها حاضنة لها واصفا إيّاها بالمصانع "الشيطانية المظلمة" لكونها تتوخّى كل الوسائل لتحقيق العائدات السهلة وتستمرّ في النهب بلا هوادة. وممّا ضاعف من قدرتها على اختراق مناعة الشعوب والأفراد العولمةُ. فقد أذكت نزعة الاستهلاك وباتت السبيل عندهم لتحقيق المساواة عبر التماثل في تملّك الأشياء الجالبة للسعادة والرّفاهية التي كانت مقصورة على الأغنياء فحسب. وهو تطلع إلى الحلم المستحيل. وباتت تحاصر الإنسان أينما حلّ بحيث لا يوجد ملاذ يحمي من عالم الأشياء. 

 

آلة الاستهلاك لا تتوقف عن ابتكار أنماط جديدة وحاجات جديدة وامتحان استهلاك جديد يُدعى هذا الوافد على الطبقة إلى اجتيازه. وهذا يعني ضرورة استهلاك مواد جديدة بعد التخلي عن القديمة التي أضحى استهلاكها معيبا وإنفاق قدر أكبر من المال وهو المطلوب بالنّهاية.

 



ويرصد هذا الأسلوب في ماليزيا ويتخذه نموذجا لما تفعل العولمة بالشعوب المختلفة. فجميع الشبان يحملون معهم قارئ الموسيقى ويتبادلون الأقراص المدمجة الرخيصة ويستمعون إلى موسيقى الراب في كلمات محلية. والمحلات مكتظة بالماركات العالمية التي تصنع منها نسخ مزيّفة في الصين وتباع بأثمان أقل ومطاعمها تبيع وجبات البرجر، وإن على الطريقة الإسلامية. فيخلص إلى أن ثقافة الاستهلاك صنيعة الفكر الليبيرالي وظلّ مركزها في أمريكا. ولكنها أخذت تزحف على بقية أنحاء العالم حتى بات من العسير اليوم نسب كل سيئاتها إلى أمريكا وحدها. فكأنما الرغبة في الاستهلاك جنيّ تحرر من قمقمه. ولن نستطيع اليوم إعادته إليه. 

والصين الشيوعية، أصبحت اليوم أكبر داعميه وأهم المستفيدين منه. فهي تصنع كل شيء للعالم وتبيعه له بأسعار بخسة وتهدد الاقتصاد الأمريكي نفسه. وخارج سياق هذا الكتاب لا شك أنّ القارئ سيستحضر ذلك صدامها العنيف مع الرئيس السابق دونالد ترامب أحد ممثلي هذه الليبيرالية الأمريكية.

3 ـ الاستهلاك وحلم الارتقاء في السّلّم الاجتماعي

تسعى جولييت شور في المقالة "ماذا حدث في المجتمع الاستهلاكي؟ الإنفاق التنافسي والنزعة الاستهلاكية الجديدة" أن تعيّن موطن الخطإ في المجتمعات الاستهلاكية بعد فشل الخطابات الدينية والأخلاقية والبيئية في ترشيد النزعات الاقتصادية وتجنب تبعاتها على البيئة وعلى السلامة الذهنية للأفراد. وتنتهي إلى أنّ الفكر الليبرالي يتسلل من الخطاب الأخلاقي نفسه ليحث على الاستهلاك وليروّج لأطروحة بديلة مدارها على أنّه لا يمثّل مشكلة. فهو يضمن الرفاهية وعبرها يقضي على الألم وعلى الشعور بالحرمان ويخلق المتعة ويوفر المنفعة. وربما أضفنا في هذا السياق ما يتردد باستمرار من أنه يحرّك الاقتصاد ويخلق مواطن شغل جديدة وفرصا لملء البطون الفارغة. والنتيجة المفارقة التي تنتهي إليها الباحثة هي أنه يتحول هكذا إلى [طيّب] يحلّ المشاكل التي يتسبب فيها الآخر [الشرير] الذي هو الجوع والبرد والضجر. فكل ما يفعله الاستهلاك هو في صالح المستهلك في النهاية.

وتفيد من مقاربات الفرنسي بيار بورديو لتبيّن وظائف الاستهلاك الاجتماعية في المجتمعات الحديثة. فما يُستهلك من ملابس وسيارات وعطور ومختلف "السلوكيات الاستهلاكية الراقية" تتجاوز وظيفة تلبية الحاجات المباشرة لتتحوّل إلى وسيلة من وسائل تأكيد الانتماء إلى المجموعة الاجتماعية "الراقية". وعبرها تحافظ على صفاء انتمائها. فلا تقبل بمكانة الفرد فيها إلا عبر قدرته على الاستجابة إلى أنماطها الاستهلاكية. وبالمقابل يتعين على الفرد أن يُخضع نفسه إلى "عملية تهذيب للذوق" عبر الاستهلاك الأكبر أو الأفخم. وكلما تقدّم فيها، انتزع قدرا أكبر من الاعتراف. 

لكن هيهات. فآلة الاستهلاك لا تتوقف عن ابتكار أنماط جديدة وحاجات جديدة وامتحان استهلاك جديد يُدعى هذا الوافد على الطبقة إلى اجتيازه. وهذا يعني ضرورة استهلاك مواد جديدة بعد التخلي عن القديمة التي أضحى استهلاكها معيبا وإنفاق قدر أكبر من المال وهو المطلوب بالنّهاية. تقول: "وهكذا يستلزم الآن الانتماء إلى طبقة اجتماعية معينة، استهلاك مجموعة من السلع والخدمات الضرورية. وفي مثل هذا العالم هناك دائما عملية ديناميكية يتم عن طريقها تحديث هذه المجموعة وتوسيعها وتعديلها من السلع والخدمات... والميزة الرئيسية في هذه المناهج هي أنّ الاستهلاك يؤدي إلى الرفاهة والرضا ليس على أساس مستواه المطلق ولكن دائما في علاقته بمستوى الاستهلاك الذي يحقّقه الآخرون".

4 ـ الاستهلاك من وهم الارتقاء الاجتماعي إلى حقيقة السقوط في العبودية

يحاول إدوارد ن. لوتواك "الاستهلاك من أجل الحب" فهم صلة الاستهلاك بالعمل ضد الحرمان الذي تسبب فيه نسق الحياة اليوم. ويجد في التحليل النفسي الفرويدي أداة مهمّة. فالإنسان عنده يعيش الحنين المأساوي للتملّك منذ فقد الأم. وما العمل على تملك الاشياء غير سبيل لا واع للتعويض عنه ولطمر النقص الذي يخلّفه حتى يحوّل إلى ضرب من الإدمان بديلا عن الرعاية الأسرية. لذلك نجد أنّ الأمريكي ذا الدخل المحدود، ويصحّ هذا على الإنسان المعاصر عامّة، يقترض حتى الموت. والنتيجة هذه تراجيدية بالفعل. فالأمريكي الذي ينشأ على قيم الحرية الفردية التي يفرّط فيها بثمن تنتهي به إلى عبودية يدفع هو ثمنها. فـ"ـكثير من الذين يعملون من أجل المال فقط، حريصون على العمل لساعات إضافية ويسعون للحصول على وظائف ثانية مضحين بحريتهم الشخصية والحياة العائلية لمجرّد الاستمتاع باستهلاك أكثر. في الواقع لا يختار كثير من الأمريكيين العمل من اجل الشراء. فهم يجب أن يعملوا ليدفعوا الفوائد، وليسددوا أصل الدين على ما قاموا بشرائه بالفعل".
 
5 ـ ثقافة الاستهلاك والمأزق الأخلاقي 

ينتهي ويليام جرايدر في "عالم واحد من المستهلكين" إلى أنّ الاستهلاك اليوم يجعل كل ما هو رائع وجميل يتراجع أمام ما هو سريع ملاحظا أنّ المعابد في بانكوك باتت محاطة الآن بتجارة محمومة، والظاهرة نفسها تتجسّد أمام المساجد في البلدان الإسلامية. وليست هذه المشاهد بلا معنى. فهي تجسيد للصدام بين الروحاني العميق والمادي المبتذل، وتكريس لهيمنة المبتذل الذي يحاصر الروحاني في عقر داره لينتزع منه رواده. ونتيجة التطور الصناعي والزراعي واعتماد المبيدات والأدوية الكيمائية هي أن التلوث أضحى يسود الكون وحرارة الأرض ترتفع والاحتباس الحراري يزحف والقنوات مليئة بالطمي والملوحة التي ترتفع في البحيرات والأنهار وتضير بالمياه العذبة ومعدّلات التساقطات تتراجع. والأدهى أن الإنسانية تقف أمام معضلة أخلاقية تعسّر إنقاذ الأرض من تبعات الاستهلاك المفرط. فمطلوب من الاقتصاديات الفقيرة أن تتحمّل تبعات حماية المناخ والحد من الاحتباس الحراري بما يتجاوز قدراتها في حين أن المصانع تعود إلى الولايات المتحدة وإلى البلدان الصناعية عامّة. ويوجز ديبلوماسي برازيلي في مؤتمر كيوتو ببلاغة هذه المفارقة قائلا: "هم يدعونك لتناول قهوة فقط بعد العشاء ثم يطلبون منك المشاركة في دفع الفاتورة حتى وأن لم تكن قد تناولت معهم الطعام".
 
6 ـ الاستهلاك نزعة لا إنسانية

ربما اعتمدنا التشبيه لنعبّر بطريقتنا عن رحلة الإنسان المعاصر نحو السعادة المستحيلة التي يصوّرها الكتاب. إنها أشبه ما يكون بمسار نجم يهوي في العوالم القائمة مقتربا من الثقب الأسود حتى إذا ما تماسّ معه تلاشى. ولا يسعفنا علم الفلك حتى اليوم بمصير النجوم حينما تقع في الثقب الأسود من عوالمنا القائمة. ولكن الفلسفة تخبرنا عن مصير الإنسان في عوالم الاستهلاك. فالسوق التي تستوعب كل شيء وتحوله إلى بضاعة: الكتب ومباريات كرة القدم والكلام عبر الهواتف الجوالة والخيال والضحك ضمن ثقافة تعلّب السعادة وتقدمها على اعتبار أنها منتج مادي. والإنسان المعاصر ينفق من كيانه لملاحقة هذا الطلب المستحيل. 

وفي الأثناء تتآكل إنسانيته في عالم يسوده الاتجار بالبشر والأسلحة النووية والتلاعب بالعقول لتوجيهها حيث تريد لها القوى العظمى المتحكمة في العالم. ويعرض منسق الكتاب حكاية عروس تباع بالمزاد وأنقل هذه الواقعة، على طولها لأنها تختزل هذا السقوط المريع للإنسان المعاصر في ثقب الاستهلاك الأسود: "في خلال الأسبوع الذي كتبت فيه هذه المقدمة، تزوج رجل من مدينة مينيابوليس من امرأة قد التقى بها قبل يوم واحد فقط، والتي تسوقها من بين المئات المتنافسات. قال الرجل إنه قد حدّد موعدا، ووعد عائلته أنه سيتزوج فيه. 

ومع اقتراب الموعد، أعلن عن طلب العروس على شبكة الانترنت، وغيرها وجعل مجموعة من الأصدقاء بمثابة مشترين، لإجراء المقابلات الشخصية مع المرشحات وفحصهن كما يفحص الشخص السيارات واللحوم. وكانت "العروس الفائزة" مستعدّة تماما أن تستمرّ في هذه المهزلة (هي طالبة صيدلية في جامعة مينيسوتا)، وكذلك كانت جميع المرشّحات الأخريات. باختصار، كان كل واحد من هؤلاء الشباب المتعلّم سعيدا بأن يتعامل مع الزواج كصفقة بيع. وإذا كان العريس يبحث في السوق عن زوجة، فليس من المستغرب أن تقام مراسم حفل الزفاف في مول "أمريكا". فيحوّل الاستهلاك إذن التحدي من "نكون أو لا نكون تلك هي المسألة" إلى "نستهلك أو لا نستهلك، تلك هي الحياة".