كتب

من إحياء التراث إلى تشغيله وتوظيفه لبناء المستقبل

الدكتور عبد السلام رباح: التراث يمثل البوصلة الموجهة والملمح المميز للأمة كلها- (عربي21)

الكتاب: "التراث وأثره في بناء الحاضر وإبصار المستقبل"
الكاتب: الدكتور عبد السلام رياح
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة الأولى: 2019
عدد الصفحات: 2016

اشتغل الفكر العربي الإسلامي كثيرا على موضوع التراث، وتباينت وجهات نظر المثقفين حول الموقف منه، وما إذا كانت النهضة العربية الإسلامية تستدعي البناء عليه واستثماره؟ أم القطيعة معه؟ أم انتقاء ما يمكن اتخاذه أرضية للانطلاق الحضاري؟

وكما تباين الموقف من التراث قبولا ورفضا وانتقاء، فقد تباين النظر إليه، واختلف منهج التعاطي معه، وتعددت طرق قراءته، ودخلت عليه مناهج ومسبقات أيديولوجية، أضفت عليه رؤية الدارس، أكثر مما كشفت مضامينه وقضاياه والرؤية المعرفية الثاوية فيه.

ومع أن هذا الموضوع قُتِلَ بحثا، وأصبح يعد موضوعا للقرن الماضي أو ما قبله، فإن السؤال النهضوي والإصلاحي، لا يزال يتطلب إعادة طرح هذا الموضوع، وبحث طرق وكيفيات وآليات إدماج التراث في تشكيل رؤية المسلم في تعاطيه مع واقعه، وأيضا في استشراف مستقبله.

يقدم كتاب "التراث وأثره في بناء الحاضر وإبصار المستقبل للدكتور عبد السلام رياح نموذجا مغايرا للكتابات التي حاولت بحث هذا الموضوع، فقد حاول الكاتب أن يتجنب التورط في إعادة ما كتب حول الموقف من التراث، وإن كان أشار بإجمال إلى المواقف الثلاثة المعروفة (الانتظام في التراث لبناء النهضة، والقطيعة مع التراث لبناء النهضة، وانتقاء ما يصلح من التراث من المكونات العقلانية لبناء النهضة)، فقد حاول طرح الموضوع من زوايا ثلاث، زاوية التراث موضوعا ومتنا، وزاوية الباحث ومدى توفر المكنة المعرفية والشروط العلمية لإحياء التراث ودراسته وتوظيفه، ثم زاوية تشغيل التراث والآليات التي يمكن التماسها في ذلك.

التراث بين الغربلة والإنقاذ

لا يتردد الكاتب في تبني رؤية تجعل من شرط نهوض الأمة الانتظام في التراث، والانطلاق منه، فالتراث حسب الباحث يمثل البوصلة الموجهة والملمح المميز للأمة كلها، لكنه، يشترط لذلك، أن يتم دراسته وبحثه بطريقة راشدة، تبين الأهداف الإيديولوجية للجهات الاستشراقية التي درست التراث الإسلامي، وتصحح الرؤى المستغفلة الموجة للطعن في تراث الأمة، وتبين سبيل إنقاذ التراث الإيجابي النافع، وتسخر الطاقات والموارد للحفاظ عليه، وترصد مظاهر القوة الكامنة في التراث والمحيطة به بما يجعلها مؤهلات تمكنه من بناء النهضة، بل بناء المشترك الإنساني.

ينتهي الكاتب إلى أن شرط الانتظام في التراث وتوظيفه هو غربلته وإنقاذه، فالغربلة تجد مسوغها في مدى حاجة الأمة لمعرفة الجوانب، التي يمكن لها أن تستثمرها من هذا التراث، والجوانب التي ترى تركها منه، وهو ما يستدعي التزام فقه الأولويات، وتقسيم التراث إلى قسمين: قسم يجب الدخول في تحقيقه ودراسته من أجل إخراجه إلى النور، وقسم آخر يظهر مظاهر الضعف والترهل في التراث، فوجب ترك الاشتغال عليه، لأنه يدفع الأمة إلى الهاوية.

 

ينتهي الباحث إلى أن التراث ينبغي أن يعود له الدور نفسه كما كان في السابق، أي أن يصبح معيارا لبناء الحاضر وذلك بأن يسلك المسلمون المسالك المنهجية الت سلكها الأسلاف في رؤيتها الكلية، واستشراف المستقبل، وذلك بتحديد الأولويات المرتبطة به أولا، ثم تجميع الإمكانات الملائمة، ورصد الطاقات التي ينبغي تسخيرها لإنجاز ما يجب إنجازه.

 



وتبعا لهذا التصنيف، يرى الباحث ضرورة أن يخضع التراث لثنائيات أخرى، تبين القسم الذي وجب الاعتناء به من القسم الذي وجب تركه، كأن تعتمد ثنائية (التراث الإيجابي والتراث السلبي) وثنائية (القوي والضعيف في التراث) وثنائية (التقليدي والتجديدي في التراث) وثنائية (الأصيل والدخيل) وثنائية (المقبول والمرفوض) وغيرها من الثنائيات التي تلفت الانتباه إلى ما يمكن الاعتناء به، مما وجب تركه من التراث.

وبناء على ذلك، يحدد الباحث المعايير الموضوعية التي ينبغي الاحتكام إليها في ترشيح ما ينبغي إنقاذه من التراث، فيذكر من ذلك تبين موقع التراث من شخصية الأمة، ويعني بذلك، ترشيح المتن التراثي الذي يضطلع بمهمة بعث الأمة وإحيائها وتقوية دورها أمام الآخر، لا تبرير ضعفها وهوانها أمامه. ويذكر من ذلك أيضا معيار حفظ تراث الإنسانية، فيرشح من التراث ما يشكل إسهاما أو حلقة مهمة في تراكم الحكمة الإنسانية، ويذكر معيارا ثالثا، يرجح به نشر نوع من التراث يشهد بوقوع عملية نصب ثقافي ومعرفي من قبل ثقافات أخرى، استندت إليه، وأخرجته في غير صورته، لادعاء السبق المعرفي، فجعل الكاتب هذا المعيار من باب إقامة الحجة على سارقي التراث الإسلامي، من بعض فلاسفة أوربا ومفكريها الذين احتكوا بتراث الإسلام، فنسبوا أجزاء منه لأنفسهم مستغلين عدم نشر حلقات من التراث الإسلامي وعدم وعي الأمة بمصادره الرئيسة.

التراث والباحث المنقذ

يعتبر الباحث أن المشكلة لا تكمن فقط في التراث، وما ينبغي نشره وتحقيقه ودراسته، مما لا ينبغي الاشتغال عليه وإضاعة الوقت في دراسته، بل تكمن أيضا في نوع الدارس الذي يضطلع بمهمة غربلة التراث أو إنقاذه. فمع وفرة الاهتمام بإخراج التراث وتحقيقه ودراسته من لدن الباحثين الأفراد أو المؤسسات، إلا أن سؤال المعايير والمقومات المعرفية التي ينبغي توفرها في الباحث المنقذ للتراث، يجب طرحها بنفس الدرجة التي تطرح به معايير انتقاء ما يجب دراسته مما ينبغي ترك الاشتغال عليه

فيرى الكاتب أن من شرط الباحث المنقذ للتراث أن تكون عنده المقدرة والقوة المعرفية التي تمكنه من إنقاذ التراث.  لكنه، يميز هنا بين الاقتدار المعرفي وبين الكم المعرفي أو الوفرة المعرفية، فإنقاذ التراث ودراسته، لا يتطلب وفرة المعطيات وتكدس المعلومات، وإنما يتطلب اقتدارا معرفيا، أي يتطلب تخصص الباحث في الحقل الذي ينتمي إليه النص التراثي الذي يريد إنقاذه، وامتلاكه للكفايات المعرفية والمهارات التي يتطلبها تحقيق التراث وإخراجه إلى حيز الوجود، والعلم بمصادر المعلومات التي تسهل على الباحث العودة إلى ما يريد من مصادر الثقافة الإسلامية بيسر وسهولة، والعلم بطرائق التحقيق.

وإلى جانب القوة والاقتدار المعرفي، يشترط الكاتب شرط الأمانة العلمية في الباحث المنقذ للتراث، ويقصد بها أمانة الباحث في الغربلة وأمانته في الإنقاذ

التراث وآليات الإنقاذ

وتكتمل عملية الغربلة والإنقاذ بالمقوم الثالث المكمل للمادة التراثية المختارة للإنقاذ، والشروط المعرفية اللازم توفرها في الباحث المنقذ، أي الآليات التي يمكن التماسها واعتمادها في عملية الإنقاذ، فيركز الكاتب على آلتين اثنتين، محاولا التعرض للعناصر التي تعتمد عليها كل آلية على حدة.

أما الآلية الأولى، فيسميها بالإحياء، أي إخراج النص بصورة مطبوعة بعد أن كان مخطوطا. ويقر الباحث أن هذه العملية، ليست على مستوى واحد، فهي متعددة الواجهات، ومختلفة المكونات، وتتطلب قدرات وطاقات، وتقوم على مراحل ليس عبورها بالأمر اليسير، إذ تبدأ باختيار المخطوطة، ومنحها الأولوية على غيرها، وتمر المخطوطة بعد ذلك بما يستلزمه التحقيق، وتنتهي بالغوص في النص التراثي من أجل تبين طبيعة المنهج والرؤية التي تحكم صاحبه بغية الاستفادة منها في الحياة. 

ويقترح الباحث لكي تؤدي هذه الآلية دورها على الصورة المستوفية للشرط العلمي والوظيفي، إنشاء معاهد الإحياء، حتى يتم الانتقال من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي، والاعتماد على التصوير، وتوسيع نطاقه، وكذلك فهرسة المخطوطات، وتصنيفها بحسب علومها وفنونها وأصحابها وأماكنها وتواريخها وحالاتها، ثم التحقيق بالشروط والطرائق العلمية المرعية فيه، ودراسة المصطلح، والاستثمار المنهجي للنص التراثي المحقق.

وبخصوص الآلية الثانية، فيسميها الكاتب بآلية التشغيل، أي توظيفه في بناء جهوزية الأمة للنهضة وحل مشكلات الواقع واستشراف المستقبل، ويقترح لذلك تسخير العلم في توظيف التراث وتشغليه، وتسخير وسائل الإعلام لتصير معنية بالاهتمام بالتراث بسواء باللغة العربية أو بلغات مختلفة، وتسخير شبكة الانترنت، وتأسيس صندوق للتراث يضطلع بدور إخراجه وإحيائه ودراسته.

التراث الإسلامي ومكر التوظيف

يتعرض الباحث في الفصل الثالث للكتاب إلى مسالك انتقاد التراث، ويستعرض كما هائلا من المحاولات التي اشتغلت على نقد التراث العربي الإسلامي، مركزا في ذلك على الدراسات التي التمست عطب النهضة العربية والإسلامية في أزمة العقل العربي، متهمة إياه مرة بالغيبية، أو بالنزعة البيانية أو بالنزعة غير المنهجية أو بالتناقض أو بالانشداد إلى الماضي، ويبين الكاتب مأزق هذه الدراسات النقدية، وأنها ساهمت من حيث لا تدري في تعزيز نفسية الشك في التراث ومدى إمكان قيامه بدور ما في نهضة الأمة وتقدمها، هذا فضلا عن كونها سقطت في اختلالات منهجية كثيرة، منها ما يتعلق بالانتقاء التاريخي، أو قلب الحقائق، أو إرجاع التراث إلى ثقافات غير إسلامية. 

كما تناول الباحث بالنقد دراسات ومساهمات أخرى، صنفها ضمن ما سماه بجهود اختراق الأمة، فسجل جملة أعطاب على دراسات المستشرقين ومن جاراهم من الدارسين، ومن ذلك نزعة الإيهام التي يعني بها جهود بعض الباحثين الذين حاولوا دراسة جوانب أو شخصيات تراثية من زاوية تأصيل مواقف إيديولوجية ثورية أو غيرها (طيب تزيني، حسين مروة)، ومن ذلك أيضا مسلك القطيعة مع التراث (اركون، عبد الله العروي) أو مساك الاختزال، أي حصر التراث في بعض الجوانب الحياتية المحدودة أو في الفلكلور أو في بعض الأعلام، كما عرض لمحاولات أخرى، اتجهت في منحى التهوين من التراث على شاكلة ما قانم به بعض المستشرقين وتلامذتهم من المثقفين العرب.

التراث وتحصين الأمة.. من أجل بناء الحاضر واستشراف المستقبل

يعرض الكاتب لعنوانين اثنين ضمن معالم تحصين الأمة، وأثر التراث في ذلك، يرتبط الأول بالرؤية التي يقدمها هذا التراث، والثقافة التي ينسجها للأمة، والبوصلة التي يوجه بها الأمة. ويرتبط الثاني بدور التراث في ضبط الممارسة، حتى تكون الرؤية والممارسة على سنن واحد، لا اضطراب بينهما ولا تناقض.

ويشير الباحث إلى مظاهر عديدة تعكس الانسجام بين الرؤية والممارسة، ويركز بشكل كبير على اشتغالية وغائية الحقول المعرفية المتعددة، فحقل الدراسات اللغوية والبلاغية، انطلق من قاعدة حماية وتحصين كتاب الله من اللحن، الذي قد يفضي إلى انحراف المعاني والدلالات، فتأسست الدراسات اللغوية والبلاغية بذلك من قاعدة خدمة الدين. وحقل الدراسات الفقهية والأصولية، جاء بقصد التشريع ووضع قواعد تخرج بواسطتها الأحكام، ويعرف منها طرق الاستدلال، وحقل الدراسات الفلكية، كان القصد الأول منها معرفة عدد السنين والحساب وضبط مطالع الأهلة ومعرفة أوقات الصلوات والشعائر الأخرى، وحقل الرياضات والهندسة، استفيد منهما في حساب المساحات وحساب الزوايا ومعرفة ألأكال المختلفة التي استفيد منها في بناء المساجد والأقواس والقباب وحقل الطب والصيدلة، إنما تأسس استجابة لأمر إلهي بالتداوي وإحياء النفس وإنقاذها.

وهكذا ينتهي الباحث إلى أن التراث ينبغي أن يعود له الدور نفسه كما كان في السابق، أي أن يصبح معيارا لبناء الحاضر وذلك بأن يسلك المسلمون المسالك المنهجية الت سلكها الأسلاف في رؤيتها الكلية، واستشراف المستقبل، وذلك بتحديد الأولويات المرتبطة به أولا، ثم تجميع الإمكانات الملائمة، ورصد الطاقات التي ينبغي تسخيرها لإنجاز ما يجب إنجازه.