كتب

ما هو "الغرب" ومن اخترعه؟ كتاب يجيب

ما هي محددات صورة الغرب كما تبدو في العالم؟. (عربي٢١)
الكتاب: فكرة الغرب .. الثقافة والسياسة والتاريخ
المؤلف: آلاستير بونيت
المترجم: أحمد مغربي
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/2018


"الغرب" المصطلح الذي يستخدم بشكل دائم في كل مكان ليس اختلاقا غربيا خالصا، بل هو إضافة إلى ذلك، مفهوم متخيّل صنعته ونمطته ووظفته شعوب عدة في العالم، حيث يترافق استخدامه غالبا مع افتراض أن الغرب مهم ومسيطر، وحيث صار مألوفا وتقليدا ضمن السياق السياسي والتاريخي التشديد على طريقة فعل الغرب وردة فعل غير الغرب. لقد أُرسي نموذج صارم للعلاقات الدولية، تشكّل من الافتتان بقوة الغرب وقدرته على الابتكار. هذا ما يفتتح به آلاستير بونيت، بروفيسور الجغرافيا الاجتماعية في جامعة نيوكاسل، كتابه موضوع العرض هنا. 

هنالك أماكن يكون فيها "الغربي" تعريفا شائعا عن الذات، يقول بونيت. لكن ما أثار دهشته هو ما وجده من أهمية لتمثلات "الغرب" في أوساط غير الغربيين. ففي سياق تحليلها صور الآسيويين عن آسيا أوردت عالمة الاجتماع الصينية سون غي الملاحظة التالية: "في روايات المفكرين الآسيويين يكون الغرب موجودا دوما. برؤية تاريخية تؤدي تلك الفئة المثالية وظيفة الوسيط الذي يحث الآسيويين باستمرار على تكوين وعي عن الذات". 

ملاحظة سون شكلت لبونيت نقطة البداية لكتابه هذا بحسب ما يقول. لقد حفزته على التفكير في "الغرب" بطرق لم يعهدها من قبل، وبعد بحث تبين له "المدى الهائل الاتساع" لنقاش غير الغربيين عن الغرب. لقد وجد أن أفكار غير الغربيين عن الغرب في كثير من الأحيان سبقت نظيرتها عند الغربيين، "بمعنى أن الغرب ابتكار غير الغربيين".

سقوط "العرق الأبيض"

في الفصول الأولى من الكتاب يركز بونيت على أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم ينتقل إلى الزمن الحاضر معتمدا على مواد ترجع في معظمها إلى منتصف القرن العشرين وأواخره. وفي جزء من الكتاب يناقش بونيت فكرة "الغرب" مستندا إلى مفكرين بارزين قدموا مساهماتهم الخاصة في هذا السياق، وهو ما يرى أنه يبعده عن "مزاعم لا قيمة لها في شأن التمثيل القومي" فهو، مثلا، لا يتحدث عن "الغرب" عند اليابان بل عند المفكر الياباني فكوزاوا يوكيتشي، ولا الغرب عند الهند بل عند طاغور.

يقدم الفصل الأول دراسة عن العلاقة بين الروايات العنصرية عن مفهوم العرق الأبيض و"الغرب"، وهو بشكل أوضح يستقصي صعود مصطلح "الغرب" عبر العلاقة بسقوط مفهوم العرق الأبيض. يقول بونيت إن مصطح "الحضارة الغربية" في الوقت الحالي شائع ولا يثير الكثير من الانتباه. لكن "يكفي أن يعود المرء بضعة قرون إلى الوراء كي يجد أن شيئا ما كـ"الحضارة البيضاء" كان مسلما به. ومع ذلك غدت تلك العبارة عند بداية القرن الحادي والعشرين كفيلة بقرع جرس الإنذار، ليس لمجرد نبرتها العرقية، بل لأنها تافهة إلى حد ما". يبين بونيت أنه بين عامي 1890 و1930 ظهرت في بريطانيا أعمال فكرية تناقش "أزمة الأبيض" وتحتفي بالهوية البيضاء، لكن هذه الأعمال كشفت من حيث لم ترد عن ضعف قدرة هذا المفهوم على بناء شكل للتضامن الاجتماعي، مضيفا أن فكرة "الغرب" التي تطورت في ثنايا هذه الأعمال قدمت رؤية للمجتمع أقل اختزالية في عرقيتها، ولكنها ليست بالضرورة أقل إقصائية. 

يقول: "قامت فكرة الغرب على أكثر من مجرد إزالة الحرج العرقي، حيث استطاعت تحديدا إثارة مجموعة من المبادىء والقيم السياسية التي تقدر أن تكون كوزموبوليتية ومتمركزة عرقيا بمهارة، كما يكمن فيها الانفتاح على الكل، سوى ما هو منغرس في تجارب وتوقعات شرائح اجتماعية ضيقة".

في الفصل الثاني من الكتاب يركز بونيت على كيفية توظيف فكرة "الغرب" من قبل السياسيين السوفييت في سياق تحديد معنى أوضح للشيوعية. لقد ساهم البلاشفة في تأسيس "الغرب" باعتباره هوية مميزة وواعية لذاتها سياسيا: إنه مكان يعرّف بكونه غير شيوعي ومعاديا للسوفييت، بحسب ما يقول بونيت، الذي يوضح أن تحولا حدث في السياسات السوفييتية من تخيل للـ"الغرب" كمكان لثورة وحداثة اشتراكية إلى معاينته كموطن للرجعية البرجوازية، تبعه انتقال من الثورة الماركسية بوصفها شكلا لـ"الغربنة" إلى فهمها كصورة نقيضة للقيم "الغربية". يضيف بونيت أن التحول من تبني النزعة الغربية إلى معاداتها في الاتحاد السوفييتي لم "ينبىء بأفول المركزية الإثنية، لكن أدى إلى تحولها فحسب؛ إذ أن نزعتي المعاداة للغربنة والاستعمارية السوفييتية تطورتا معا". كما أن حداثة الإتحاد السوفييتي جمعت بين "التسييس" و"الإثنية" المتمحورة كليا حول فكرة أن العمال "الروس" المدينيين هم الحامل الطبيعي للشيوعية.

بين الغربنة والمقاومة

في النقاش حول العلاقة بين "الغرب" وآسيا يرفض بونيت الصورة النمطية السلبية عن المغربِنين، ويقدم وصفا لهم باعتبارهم "أشخاصا يعلنون رؤيتهم الخاصة عن "الغرب" ويوظفونها، ليس بهدف الخضوع لسلطة الغرب بل للحفاظ على استقلالهم القومي". يستكشف هنا موقف دعاة "الغربنة" في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عبر تناول أعمال مفكرين أساسيين هما الياباني "فوكوزاوا يوكيتشي" والتركي "ضياء غوكالب". يقول: "أصر كلا الرجلين على امتلاك بلده موقعا مميزا ومتفوقا بالنسبة إلى آسيا ومنفتحا على الغرب. وتطلبت عملية الانقطاع والارتباط الثقافي تلك، رسم صورة نمطية سلبية عن آسيا بالترافق مع أجندة قومية غربية في أسلوبها؛ إذ رأى (كل منهما) "الغربنة" باعتبارها تقدم أدوات فكرية وعسكرية واقتصادية تستطيع مساندة الاستقلال. لذا لم تكن الغربنة ببساطة تتصل بالالتحاق بـ"الغرب" بل بصورة أكثر أسّية تتعلق بامتلاك مستقبل قومي مستقل".

 لكن لم تكن هذه هي الحال دائما فهناك من سعى لرفض "الغرب" كليا فسلك مسارا، كما يقول بونيت، "مبهما" بين الغربنة والمقاومة الشاملة. مسار زعم أصحابه أنهم يسعون وراء توليفة من الشرق والغرب. تصدر هذا "الحراك" الشاعر البنغالي رابندرانات طاغور. ينظر إلى طاغور من قبل بعض الباحثين بوصفه بادىء عصر ما بعد الحداثة، لكن الأهم من ذلك بالنسبة لبونيت أنه كان "مبشرا" بالوحدة الآسيوية. 

لقد كانت له رسالة عن آسيا ومهمة تبشير بها عالميا. تقوم هذه الرسالة على "مزاعم مثيرة للجدل" عن معنى آسيا. ولا تنفصل هذه الرسالة عن رسالته بشأن "الغرب". لقد عرفت الرسالتان إحداهما الأخرى، عندما وجد طاغور في "الغرب" و"الغربنة" نسخة غير مقبولة عن الحداثة. وحاجج بأن حداثة الغرب نوع مضلل من الحداثة، لأنها مثلت إفساد الشخصية والفردية على يد نظام قيم اجتماعي غارق في المعيارية والتصنيع، بحسب ما يقول بونيت. مع ذلك فإن طاغور لم يكن معاديا لـ"المتغربنين" إذ لفت في كتاباته إلى أهمية العلوم والتكنولوجيا في تخفيف الفقر والظلم، حتى أن "مقاربته" الإصلاحية أو التصالحية هذه  جلبت عليه تهمة "التغربن"، لكن محاولاته هذه وحديثه عن "الوحدة الخلاقة" بين الشرق و"الغرب" كانت تصطدم دوما بالصورة النمطية التي صنعها هو لـ"الغرب". لقد ظل الغرب في نظره مكانا لـ"الذرائعية" و"الفراغ الروحي"، وحضارة عازفة عن الاتصال الحقيقي بالآخرين، وهي في صلب تكوينها "مدمّرة".

الانتقال من أنظمة يهيمن عليها الاستعمار إلى نظم ما بعد الاستعمار في آسيا منذ أربعينيات القرن الماضي أدى إلى صعود أيديولوجيات جديدة وضعت رؤية طاغور عن روحانية آسيا في موضع متأخر جدا، لتتقدم عليها رؤى تتطلع إلى تطور قومي وحداثة قومية، ومستقبل يضمن التغلب على إذلالات الماضي. رافق ذلك تحول في طريقة تخيل "الغرب". "صار مستطاعا تحدي الارتباط بين القوة وصناعة القرار السياسي والاقتصادي و"الغرب"، ليس من اليابان والصين وحدهما، بل من مجموعة دول في القارة.. صار في مقدور أمم جديدة صوغ مسارات جديدة..، ومهما استعارت من "الغرب" أو قلدته، فإنها تفعل ذلك باختيارها وفق معطياتها الخاصة".

يرى بونيت أن التصورات المعاصرة عن "الغرب" تتسم بـ"الضيق الأيديولوجي"، وهي أكثر ضيقا من كل صور "الغرب" الماضية، موضحا أن "للغرب" المعاصر ثقة قوية بنفسه، سيما في ما يتعلق بمفهوم أن مشروع "الديمقراطية الليبرالية" "الغربي" يمثل للإنسانية الخيار الوحيد القابل للتطبيق. ويستنتج من ذلك، سياسيا، أن "ضرر الرؤى النيوليبرالية للغرب، عندما توضع في الميزان، أكبر من فائدتها بالنسبة إلى الديمقراطية". ويصف التأكيد المستمر لانتصار "الغرب" عبر الرأسمالية النيوليبرالية بأنه "خطاب سياسي طوباوي"، ويأمل أن يؤدي مثل هذا النقد إلى إنهاء "حالة التعود والألفة" على المنطق الذي يفترض حضورا كليا للعولمة النيوليبرالية، ويظهر "مدى الغرائبية" في ما يقدم بوصفه براغماتيا وحتميا.