سخرية التاريخ ومكره يضعاننا في منعطف لافت ومدهش. حيث تتوجه وبكل تهور الولايات المتحدة "قلب الليبرالية الدولية" او بعضها على الاقل بقيادة دونالد ترامب لى ضفة السياسة الحمائية المشددة ونحو الانكماش في السوق الداخلية وتسليم التعهدات الاستراتيجية الى حلفاء اقليميين. في المقابل تقف الصين "الشيوعية" على ضفة كسر الحواجز الجمركية واقتحام الاسواق و"دعه يعمل دعه يمر" وتشق طريقها نحو. فهل نحن نحن ازاء صدام ضخم ستكون ذريعته الصراع على النفوذ في بحر الصين الجنوبي وحقيقته منطق الاسواق؟ أم أن "الليبرالية" ستكون مظفرة مجددا؟ لكن ماذا سيكون معنى "الليبرالية" عندما تقودها صين الحزب الواحد ومجتمع الكانتونات والفقر الشائع في اريافها؟
منذ اسابيع قليلة وتحديدا يوم 18 جانفي الفارط وصل قطار صيني لنقل البضائع حاملا 44 حاوية من شرقي الصين الى لندن قاطعا في ظرف خمسة عشر يوما مسافة تتجاوز 12 الف كيلومتر. كان حدثا نوعيا يصل الى مستوى رحلة الطيار البريطاني جورج هيربت سكوت سنة 1919 من أحد مطارات سكتلندا قبل ان يحط في نيويورك قاطعا اكثر من اربعة الاف كيلومتر في رحلة استغرقت اربعة ايام. وقبل ذلك رحلة كريستوفر كولومبس لتصل لاول مرة في التاريخ عبر النقل البحري بين الساحل الاطلسي للعالمين القديم والجديد.
ليس هذا الا مشهدا من مشاهد متراكمة ومتلاحقة من التصدر الصيني البطيئ ولكن المؤكد للمنظومة الاقتصادية والتجارية العالمية. القطار الصيني لم يقطع فقط لاول مرة على السكك الحديدية مسافات غير مسبوقة، ولم يكن ايضا فقط اقل تكلفة من اي وسيلة نقل اخرى، بل الاهم من ذلك يمثل دلائل اضافية على مستقبل حتمي، التصدر الصيني للمنظومة العالمية في سياق العشرين سنة القادمة.
قبل وصول القطار الصيني الى لندن بيوم واحد قال الرئيس الصيني شي جين بينغ أمام حوالي ثلاثة آلاف من قادة العالم الاقتصاديين والسياسيين المجتمعين في منتجع التزلج "دافوس" والذي اضحى اهم "قمة ليبرالية" في العالم، "يجب أن نبقى متمسكين بتطوير التبادل الحر والاستثمارات" خارج الحدود الوطنية وأن "نقول لا للحمائية". وأضاف "لا احد سيخرج منتصرا من حرب تجارية"، وكذلك "لا يفيد أحدا إلقاء المسؤولية على العولمة" في كل مشاكل العالم. بمعنى اخر كان الرئيس الصيني الناطق الفعلي، وبفعل موازين القوى، لليبرالية العالمية في مواجهة التهديدات الحمائية لترامب.
كنتُ اشرت في مقال سبق الانتخابات الى تصريح ترامب المشهور: "مكن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية أعظم سرقة وظائف في التاريخ". وقد هاجم ترامب الصين باستمرار منذ كلمته الافتتاحية كمرشح، واصفا إياها بأنها واحدة من أكبر خصوم الولايات المتحدة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية. وقال إنه أيضا مع توسيع الوجود العسكري للولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي بمثابة رادع لطلبات الصين الإقليمية على الجزر هناك. لكن هذه الرغبات الحمائية لدى ترامب تعترض تشابكا في المصالح الصينية الامريكية من الصعب تجاهله.
من الصعب المبالغة في مدى تشابك الشراكة بين الصين والولايات المتحدة. وكان المؤرخ والاستاذ في جامعة هارفارد نيال فيرغسون كتب أنه ينبغي النظر إليهما كمخلوق واحد، وابتدع له تسمية خاصة "صيامريكا" (Chimerica).
اذ تمتلك الصين 1.1 تريليون دولار من ديون الحكومة الأمريكية، لتحتل المرتبة الثانية خلف اليابان كأكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة. والصين هي أكبر شريك تجاري لأمريكا، وتبلغ قيمة التجارة السنوية في السلع والخدمات 663 مليار دولار، وهي ثالث أكبر سوق لصادراتها. وحسب بعض التقديرات، لو تم أخذ مبيعات الشركات الأجنبية التابعة الولايات المتحدة في الصين وإعادة تصدير المنتجات الأمريكية من خلال هونغ كونغ إلى الصين تصل صادرات الولايات المتحدة إلى الصين مجموع 400 مليار دولار.
وقد باعت شركة "جنرال موتورز" العام الماضي 3.9 مليون سيارة في الصين، وهو ما يفوق بقيمة 25 في المئة ما باعته الشركة في الولايات المتحدة ولدى شركة "ابل" الآن أكثر من 130 مليون مستخدم "اي فون" في الصين، مما يجعلها أكبر سوق للشركة بما في ذلك اكبر من الولايات المتحدة.
ورغم ذلك من الصعب الا تترك اي "حرب تجارية" سيعلنها وينخرط فيها ترامب اثارا غير متوقعة في الاغلب على هذا التشابك، والتوازن ايضا، الدقيق بينهما. يقدر بعض الاقتصاديين ان سيناريو هذه الحرب سيكون كالتالي: من الناحية النظرية، يمكن أن يوجه ترامب صفعة قوية للصين عبر الرفع في قيمة الضرائب على الواردات الصينية. وفي المقابل يمكن ان ترد الصين بضربة قوية لشركة "بوينغ" والتي تعول على السوق الصينية للعشرين سنة القادمة بصفقات تبلغ 1 تريليون دولار. كما يمكن لبكين تسليط الضغط على مجموعة من الشركات الأمريكية الأخرى لديها مصالح كبيرة في السوق الصينية بما في ذلك شركات "فورد"، و"كوالكوم"، و"وول مارت"، و"ستاربكس".
في ذات الوقت نحن ازاء عدم توازن عسكري بين الطرفين حيث تتفوق الولايات المتحدة بشكل كبير على الصين كما ونوعا على الاقل في المدى المنظور لعشرة سنوات. ومن غير الواضح كيف ستحافظ الصين على نموها الحالي ازاء دينامكيتها الاجتماعية الخاصة، حيث هناك تفاوتا كبيرا بين اقليمها المختلفة وايضا بين فئاتها الاجتماعية، ومن المتوقع ان نظام الحزب الواحد سيتعرض لهزات جدية امام دينامكية من هذا النوع.
أحيانا يبدو مسار التاريخ سهل التوقع ويبدو كأنه يسير في خط مستقيم. غير ان مسار التاريخ كان دائما في الواقع معقد وليس مستقيما. فمرحلة "نهاية التاريخ" او استقراره في الثلاثين سنة الاخيرة هو الاستثناء وليس القاعدة. ظواهر مثل ترامب وحمائيته القادمة من هوامش الولايات المتحدة وامام الصين التي تعيش مفارقة الدفاع عن الليبرالية الاقتصادية ونفي الليبرالية السياسيةن هذه الظواهر ليست شاذة عن الديناميكية المعقدة للمنظومة الراسمالية المليئة بالتناقض والمفارقة. المعضلة هل سينجح منطق الردع النووي في منع انفلات الحروب التجارية والايديولوجية وتحولها الى حروب دموية. ذلك هو السؤال الاكبر في العصر الذي نستعد الدخول اليه.
في المقابل ليس هناك مايؤشر ان يرتقي العرب الى اكثر من مرتبة المتفرجين او الحطب المحترق في هذا الاستعراض الضخم.