كشف تقرير حصري لصحيفة "عربي21" بالأمس عن "محضر اجتماع جرى داخل السفارة الإماراتية في تونس بين دبلوماسي إماراتي كبير ورضا بلحاج أحد مؤسسي جبهة الإنقاذ والقيادي السابق في حزب نداء تونس عن طلب الأخير دعما ماليا لمواجهة حركة النهضة". هذا التذيل المحتمل لدولة أجنبية ضد المصالح الوطنية لا يجب أن يكون مفاجئا حتى لو لم يتم تأكيده من الأطراف المعنية، ولن يتم. الحقيقة نحن أمام سيناريو محتمل في المنطقة ستكون آثاره على الأغلب سلبية على تونس. سأستعرض في هذا المقال الأسس والقرائن التي يمكن أن يرتكز عليها سيناريو من هذا النوع.
تعتبر هذه الأطراف الثلاثة أن الشعوب العربية لا تستحق أن تحكم بشكل ديمقراطي، وتؤمن بنموذج "الرجل القوي" الحاكم بالحديد والنار الذي حكم المنطقة العربية لأكثر من ستين سنة كضمان أنجع لمصالحها حتى لو كان معاديا لها في بعض الأحيان وهنا يأتي مديح ترامب لصدام حسين والقذافي وبشار الأسد بوصفهم جميعا "أنظمة أفضل من الوضع الحالي". وفي ذات الوقت تعتبر أن الاستئصال التام للإسلام السياسي بكل أشكاله مسألة ضرورية لفرض وضع "الرجل القوي". بمعنى آخر في الوقت الذي نريد فيه تعميق مكاسب الثورة التونسية لنضمن ديمقراطية مستديمة مسنودة بإصلاحات اقتصادية واجتماعية تضمن عدالة اجتماعية وجهوية حقيقية، سيعمل بعض التونسيين مسنودين ربما بتحالف إقليمي ودولي لإعادتنا لمربع الاستقطاب "إسلامي-علماني"، وهو مدخلهم لتقويض التجربة الديمقراطية ذاتها.
الالتقاء حول مسالة "تحريم" أو "تجريم" تنظيم "الإخوان المسلمين" هي إحد النقاط العملية التي يلتقي حولها بوضوح الثلاثي ترامب-تل أبيب-أبو ظبي. إضافة للموقف الإسرائيلي التقليدي المعادي لـ"الإخوان" بما في ذلك في علاقة بحركة حماس، فإن دولة الإمارات أصبحت تلعب دورا رياديا في هذا المجال من خلال الجهد الذي يقوم به منذ سنوات "اللوبي الإماراتي" في واشنطن والذي أصبح أحد أكبر اللوبيات المؤثرة في الكونغرس في سرعة قياسية. ومن المعروف أن الإمارات تلعب دورا إقليميا ودوليا واضحا في اتجاه تجريم تنظيم "الإخوان". ويلتقي هذا المجهود مع عناصر أساسية في ادارة ترامب، ومنها مثلا اختيار عضو الكونغرس بومبيو كرئيس جديد لوكالة الاستخابارات المركزية والذي سبق له في المبادرة بمشروع قانون يجرم الإخوان. وفي جلسات الاستماع الاخيرة في الكونغرس بدا واضحا ان مواقف وزيري العدل والخارجية الجديدة داعمين لهذا التوجه كما هو الحال مع رئيس اللجنة القضائية في الكونغرس. وأيضا هو الحال مع مقربين من ترامب مثل مستشاره للشرق الأوسط خلال الحملة الانتخابية وليد فارس. وفي الحقيقة هناك اساسا عقائديا في هذا التوجه الأمريكي يعتبر أن المشكل مع المسلمين ليس مع تيارات سياسية تستمد خلفيتها من الإسلام فحسب بل هو مع الإسلام ذاته، ومن هنا تأتي تصريحات مستشار الأمن القومي القادم الجنرال فلين الذي هاجم الإسلام كعقيدة أكثر من مرة واعتبره في إحدى المناسبات "سرطانا".
هذا التوجه الدولي والإقليمي لا يقصد تحديدا تنظيم "الإخوان" المصري بل كل الطيف الإسلامي القريب منه. ولهذا فإن الإمارات تستهدف واستهدفت كل الأطراف الإسلامية القريبة من الاخوان وليس "الإخوانية" فقط، وينطبق ذلك على تونس حيث انبنت المواقف الإماراتية من كل الأطراف السياسية في تونس على قاعدة مدى قربها أو بعدها عن النهضة. ولهذا دعمت بقوة حزب "نداء تونس" حتى الانتخابات حيث كان لهذا الحزب شعار أساسي واحد أنه "خصم النهضة" ثم تراجعت أبو ظبي فجأة عن هذا الدعم عندما قرر السبسي الحكم بمعية الحزب الإسلامي. قام الأخير في المقابل بدعم لامشروط للسبسي في كل سياساته. ولهذا من الطبيعي أن يقوم منشقون عن السبسي سواء حزب محسن مرزوق الذي كان أقرب مساعدي السبسي حتى بعد تحالفه مع النهضة او مجموعة رضا بلحاج، المدير قبل الأخير لديوان الرئاسة، العودة إلى الخطاب الذي يلخص الوضع في تونس في "خطورة النهضة" و"ضرورة التصدي لها" وليس لسياسات الحكومة التي دعموها عندما كانوا في الحكومة السابقة ويدعمونها إلى الآن خاصة تجاهل محاربة الفساد وتجاهل تفعيل اللامركزية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المضرة بمصالح غالبية التونسيين.
هذا الخط المتمثل يمكن أن يتشكل بين سياسات ترامب وأبو ظبي والتيار الاستئصالي الانتهازي في تونس هو في نهاية التحليل يستهدف التجربة الديمقراطية ذاتها. وليست تل أبيب بمنأى عن هذا التوجه إذ كانت أول طرف في المنطقة أعلن عداءه لـ"الربيع العربي" ورؤوا في الشعارات التي انتشرت في المسيرات الجماهيري المعادية للنظام العربي والتي رفعت شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين" تهديد مباشرا لأمنها الإقليمي. ينسجم ذلك مع الرؤية الإسرائيلية القديمة والتي تحتقر "العربي" وترى فيه شخصا قابلا للخضوع لا يستحق العيش في سياق ديمقراطي. وكان ذلك أساسا طبيعيا لتقارب إسرائيلي علني وسري مع انظمة عربية استبدادية وثيوقراطية. واخر مشاهد الاستهداف الاسرائيلي للتجربة الديمقراطية التونسية هو استهدافها لمحمد الزواري بشكل استعراضي يستهدف اهانة الدولة التونسية بشكل غير مسبوق من خلال ارسال مراسل احد قنواتها للبث المباشر من امام وزارة الداخلية التونسية بعد يوم واحد من الاغتيال. في المقابل اصبح فان علاقة ترامب بتل ابيب لن تنقلها فقط من حالة البرود التي كانت عليها مع اوباما الى حالة دفئ جديدة بل انها ستخترق حتى الخطوط التقليدية الامريكية في الدعم بعزمها نقل السفارة الامريكية في القدس وارسال سفير امريكي لا يؤمن ان الاستيطان غير قانوني.
التقارب الامارتي مع ترامب ستكون له اسس مصلحية مباشرة في قطاع الاعمال كما هو الحال مع امثلة اخرى عبر العالم. مثل العرض الذي قدمته امارة دبي باستثمارات تصل الى ملياري دولار امريكي.
اذا قرر ترامب المضي في هذا التوجه اي الدفاع عن مسار اعادة الاستبداد واستهداف اي تجربة ديمقراطية بوصفها اساسا "للارهاب"، فإن ذلك لن يكون سهلا. وسيتعرض خاصة في الملف التونسي معارضة اعضاء في الكونغرس اقويا جمهوريين وديمقراطيين على السواء على رأسهم السيناتور جون ماكاين الذي كان من ابرز المدافعين عن التجربة الديمقراطية التونسية بما في ذلك مشاركة الاسلام السياسي القريب من الاخوان فيها. وسيظهر فعليا وعمليا مدى عزم ترامب على تقويض التجربة وقدرة ماكاين على معارضته في ذلك عندما يأتي الاوان لتجديد القرض الائتماني الامريكي بـ500 مليون دولار وهو عامل اساسي في وضع المالي في تونس خاصة عندما يتعلق الامر بالقدرة على الخروج للاسواق المالية الخارجية.
في كل الحالات لن يكون خلاص التجربة الديمقراطية في تونس التعويل على اي طرف خارجي. اذ فقط عزيمة الشعب التونسي وشهدائه هي التي فرضت التغيير الديمقراطي رغم مؤامرات او مماطلة الداخل والخارج لوقفه. الطرف الوحيد الذي سيوقف اي محاولة للتراجع عن المكسب الديمقراطي باي شكل كان، بما في ذلك عبر "انقلاب ناعم" يتلقي فيه بعض حاملي السلاح مع "المدنيين" الاستئصاليين وعبر تعليق الدستور واعلان الاحكام العرفية، سيكون الشارع وجبهة ديمقراطية ممن تبقى من المناهضين للاستبداد. والمؤشرات الحالية تدعو للـ"تشاؤل" في تحقيق ذلك.