تم وسط هذا الاسبوع التصويت على القانون الانتخابي للمحليات والجهويات بما يوفر احد الشروط الاساسية للانتخابات المحلية او البلدية. واعلن شفيق صرصار رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات مباشرة اثر ذلك ان التحضيرات انطلقت الان لاقامة الانتخابات في الاشهر الاخيرة لسنة 2017. غير ان هذا التصويت يخفي معضلة اساسية حيث تم اقحام تعديل من قبل الاغلبية النيابية ينص على عدم تعليق حق الانتخاب للقوات الحاملة للسلاح في الانتخابات المحلية والجهوية تحديدا بما يفسح لها المجال للتصويت. ومثلما كان متوقعا اثار ذلك موجة انتقادات. فهل اننا بصدد خطوة الى الامام او خطوة اخرى للوراء. هل نحن بصدد تشويه اخر للديمقراطية التونسية الناشئة يضاف الى استغراقها في المال السياسي وضعف شروط التوازن الاعلامي بين مختلف الاطراف وغياب قوانين صارمة لمراقبة التمويل الحزبي؟
يتساءل الداعمون لهذا التعديل عادة بشكل استنكاري: "اليس لهم حق التصويت في الديمقراطيات العريقة مثل فرنسا او امريكا؟" غير ان كان هناك تاريخا في التدرج لمنح حق التصويت لضمان عدم التسييس وهناك عديد الامثلة في امريكا اللاتينية في هذا الاطار.
فلكل دولة تاريخها الخاص الذي يفسر ما آلت اليه في هذه النقطة ولا توجد اداة كمية تبسيطية للحسم في هذا الموضوع ("اغلب الديمقراطيات تدعم هذا الحق"). بالنسبة للديمقراطيات الجديدة التي تشبهنا اي تحديدا (الارجنيتين، البرازيل، السينغال، الاوروغواي..) التي اختارت تعليق هذا الحق سنجد انها تختص بتاريخ مميز من توظيف القوات الحاملة للسلاح في السياسة وتحديدا في ارساء الاستبداد... ولهذا اختارت تعليق هذا الحق. حالة فينيزويلا مثيرة للجدل بسبب الطابع الاوتوقراطي لحكم شافيز وخاصة توظيفه للقوات الحاملة للسلاح (منذ سنة 1999) في ترسيخ حكمه بما في ذلك عبر الانتخابات... بالنسبة لتونس خصوصية الوضع تنطبق خاصة على الجهاز الامني بدرجة اولى الذي تم توظيفه لترسيخ الاستبداد ولهذا تجد ميلا لدى بعض النقابات للمنظومة القديمة. بالنسبة للجيش فقد عبر (من خلال قياداته القديمة والتي يمكن لها التحدث) خاصة في ندوة لقدماء العسكريين على رفض لاقحامهم في هذا المسار.
تسييس القوات الحاملة للسلاح عبر منحهم حق التصويت في الانتخابات المحلية والجهوية هو عامل اضافي لضرب نزاهة المنظومة الديمقراطية ومن ثمة العملية الانتخابية.
هل سيحق لهم الحضور في الحملات الانتخابية مثلا باسلحتهم؟ هل يحق لهم مناقشة لمن سيصوتون في الثكنات؟ هل تعليق هذا الحق بالنسبة للقضاة يجب ان يسقط ايضا ونقوم بعملية تسييس شاملة لكل القطاعات التي تفترض مبدأ الحياد خاصة في مرحلة انتقال ديمقراطي لاتزال هشة؟
احد المذيعين المعروفين ومن المدافعين عن القانون بصيغته الجديدة اصر: "ليس هناك ما يستوجب من الامنيين والعسكريين حضور اجتماعات انتخابية.. ستفرجو في التلفزيون". فهل ستبث التلفزة اجتماعات انتخاببة وبرامج مئات القائمات المترشحة؟!
وأضاف ذات المذيع: "ما ضر لو تم وضع قائمات الامنيين والعسكريين المعتمد والمواطنين يعرفونهم" بما في ذلك تعليق اسمائهم وارقام بطاقات تعريفهم الوطنية في كل دائرة بلدية في حين ان هناك اسباب امنية بديهية تمنع ذلك اذ سيكونون مكشوفين للارهابيين الذين سيعلمون اماكن سكنهم واخر دليل على خطورة ذلك ما تم تناقله في حي السيجومي الشعبي قرب العاصمة تونس قبل ايام من وضع علامة "طاغوت" على منازل امنيين مثلما كان يحدث في العشرية السوداء في الجزائر في صياق تصفية الامنيين والعسكريين.
العميد المتقاعد مختار بن نصر اشار مؤخرا لاسئلة معقولة اذ اكد على وجود صعوبات في تنفيذ العملية منها ما إذا كان سيتم ادراج اسماء الامنيين والعسكريين في قائمات المنتخبين؟ وكيف سيتم تشريك كل الامنيين والعسكريين في الانتخاب والحال أنهم يعملون في مناطق خارج بلداتهم أو مكان سكناهم الأصلي؟ وهل سيتم تمكين كل الامنيين والعسكريين من اجازة للعودة الى اماكن سكناهم لممارسة عملية التصويت؟
وسبق ان حذر أمير اللواء المتقاعد، محمد المؤدب، والذي يمثل عموما رأي العسكريين المتقاعدين مرارا من خطورة إقحام المؤسستين الأمنية والعسكرية في الصراع السياسي كما اوردت ذلك "عربي 21" في تقرير سابق واوردت تقارير اعلامية اخرى في الاسبوع الاخير حيث عاود التأكيد على ذات الموقف.
وأشار المؤدب إلى أن الدستور التونسي نص في فصليه 18 و19 على ضرورة أن تؤدي كل من المؤسستين العسكرية والأمنية "مهامها في حياد تام"، مؤكدا أن "ممارسة عملية الانتخاب تفترض من الناخب، العسكري والأمني في هذه الحالة، أن يولي اهتماما بالشأن السياسي؛ من أحزاب ومترشحين وبرامج وخيارات سياسية، حتى تتبلور لديه مواقف وقناعات شخصية يصوت من خلالها للجهات السياسية التي تتبناها".
وأضاف في رسالة مفتوحة منذ اشهر قليلة: "لا بد من الإشارة إلى أن الموضوع لا يتعلق -كما يروج له البعض- بإقصاء فئة من المواطنين من حقوق جاء بها الدستور، بل هو تعليق ظرفي لعدد من الحقوق والحريات لمن يحمل السلاح، ويبقى حمل السلاح وما له من مقتضيات؛ المبررات الرئيسة لعملية التعليق تلك، حيث إن مفعول ذلك الإجراء (تعليق الحقوق) ينتهي بصفة آلية وبدون أي إجراءات، حال مغادرة المعني المؤسسة المسلحة، ويسترجع كامل حقوقه تماما كغيره من سائر المواطنين".
وأكد أن أي شخص بممارسته التصويت "يعبر عن قناعات سياسية؛ يمكن أن تتطور إلى ميولات، ومن ثم إلى ولاءات، ومن المستحيل ضمان عدم تأثيرها على كيفية أداء أصحابها لمهامهم، وعلى التزامهم بالحياد التام".
وأمام هذا الوعي الذاتي بهشاشة التجربة وخطورة اقحام القوات الحاملة للسلاح تقوم بعض النقابات التابعة للاجهزة الامنية بالوقوع احيانا في فخ التجاذبات السياسية. وهو ما يجعل خبراء دوليين يصرون على ضرورة ان تبقى هذه الاجهزة بعيدة على الشان الانتخابي وتجاذباته حتى يتم اصلاحها.
وسبق لـ"مجموعة الازمات الدولية" أن اقترحت مشروعا اصلاحيا للمنظومة الامنية في تقرير صدر في يوليو/ جويلية 2015 اشارت فيه الى "ضعف الجهاز الأمني"، وان النظام السابق اقام وضعا "كان الخوف من الأمن فيه يخفي وهن وضعف وعدم فاعلية قوات الأمن". وأشار التقرير إلى "أنه على الرغم من ارتفاع ميزانية وزارة الداخلية بنسبة 60 بالمئة بعد الثورة وانتداب 25 ألف عون جديد فإن الجهاز الأمني يشهد توترات داخلية"، إضافة إلى وجود رفض لكل إصلاح الذي ينظر له على أنه يهدد استقرار الجهاز.
ورغما من كل ذلك اختارت الاغلبية النيابية المخاطرة ودفع القوات الحاملة للسياسة في تخوم العمل السياسي المعلن والمفتوح.