"ليس شريرا بطبعه. بل على العكس من ذلك، ساذج مثل أي رجل في أي وقت مضى. بساطته الكبيرة، وبالإضافة إلى جبنه، جعلا منه عبدا لأصحابه. كان من خلالهم إضافة إلى الجهل، يقود حياته إلى عادات الشهوانية والقسوة، التي سرعان ما أصبحت طبيعته الثانية".
كانت تلك شهادة السيناتور الروماني ديو كاسيوس عن شخصية الامبراطور كومودوس (حكم بين 177 و192 ميلادية) الذي يُنظر إليه كأول أباطرة انحطاط الامبراطورية الرومانية.
كومودوس الذي مرغ أنف وسمعة الامبراطور الروماني، الذي كانت عبادته الديانة الرسمية للامبراطورية، في وحل الرعاع. كان هوسه بجلب الانتباه والإثارة يصل إلى حد مشاركته المصارعين في حلبات الكولوسيوم، في منازلات كانت منظمة مسبقا، فقط ليستمع بتلذذ إلى تصفيق الجمهور مع كل مصارع-عبد ينحره. كان كومودوس واحدا من سلسلة من الأباطرة الذين سجلوا بأحرف سوداء اندحار الامبراطورية.
ليس ترامب هو كومودوس وليس كومودوس بترامب. لكن هناك تقاطعا ما أريد أن أستكشفه هنا، في شخصيتهما وكيف لذلك علاقة ما بانحطاط الامبراطوريات.
في ظرف أسبوع منذ تنصيبه في البيت الأبيض تصرف دونالد ترامب كثور هائج. أصدر "الأمر التنفيذي" تلو الآخر. بدى مثل انفلات دابة كبيرة رعناء، ضربات متتالية تنشر الرهبة والذعر. الرسالة واضحة: قلت لكم إنني لست من "نخبة واشنطن" أتكلم كثيرا دون أن أفعل، فأنا من طينة أخرى: تفعل وتنفذ فحسب. سرعة التنفيذ هذه مغرية، وتتصادم فعلا مع السلوك المخاتل والمماطل السائد في واشنطن. لا يمكن للمواطن المحشور في سكون ولايات الداخل من ويسكونسون إلى أوهايو إلى التكساس أن يقاوم هذه الصورة الجذابة. غير أن خلف هذه الشهوة المتمادية لدى ترامب للظهور بمنظر "المنفذ"، تكمن هشاشة عميقة ومخيفة، تكمن شروط الفوضى، ومن ثَمّ الانحطاط.
لنتمعن في بعض "الأوامر التنفيذية". مثلا ذلك الخاص ببناء "جدار" على طول الحدود مع المكسيك، كان يردد أن حكومة هذا البلد ستدفع تكاليفه. وبعد أن تأكد أن الرئيس المكسيكي سيرفض رفضا قاطعا الأمر مع إلغائه زيارته لواشطن في أول صدام ديبلوماسي مع جارة أساسية، اختلق صيغة مثيرة للسخرية، حيث سيدفع في اتجاه فرض ضريبة تصل إلى 20% على الواردات القادمة من المكسيك. هنا طبعا من سيدفع تكاليف الجدار ليست حكومة المكسيك بل المستهلكين الأمريكيين للبضائع المكسيكية، وأيضا المصانع الأمريكية المقيمة في الجانب الآخر للحدود. وعليه أيضا أن يمرر هذا التشريع عبر الكونغرس إذ لا يستطيع أن يصدره في أمر تنفيذي. وهنا سيصطدم بشبكة مصالح معقدة يمكن أن تعطل القانون.
في الأمر التنفيذي ذاته حد من تدفق اللاجئين وأعلن في حوار تلفزي أنه سيوفر "مناطق آمنة" للسوريين. وهنا اقترف أول خلاف مع روسيا بوتين التي يقوم بكل شيء حتى يقترب منها. إذ أعلن الكرملين أن إدارة ترامب لم تتشاور معه في هذا القرار وأنه عليها أن تفكر في عواقبه.
قبل ذلك بيوم ألغى في "أمر تنفيذي" آخر اتفاق الشراكة للمحيط الهادئ TPP. المشكل أن هذا القرار سيعني آليا ومثلما أجمع المحللون فتح الباب واسعا لكي تنفرد الصين بدول شرقي آسيا، وتعقد اتفاقيات تجارية ثنائية معها، وهو ما بدأت فيه أصلا، تعزز به ميزانها التجاري وتحد أكثر فأكثر من النفاذ الأمريكي للمنطقة.
بحلول الصباح الأول لترامب في البيت الأبيض ألغى حزمة إصلاحات أوباما في التأمين الصحي، دون أن يهيئ بعد التشريعات البديلة التي يمكن لها أن توفر الرعاية الصحية للملايين، وهو ما أدى بالأعضاء الجمهوريين في الكونغرس للارتباك، وتقديم آجال متضاربة للتفكيك التشريعي لبرنامج أوباما التأميني والبرنامج الذي سيعوضه.
نحن هنا بصدد ثور هائج يقوم بالصراخ وإثارة الغبار قبل أن يفكر في العواقب.
حتى نتيقن من أننا بصدد جسم ضخم يصطحب عقل مراهق متعود على الدلال وتنفيذ شهواته، يكفي أن ندقق فيما فعله بالأمس مع الوكالة الفديرالية للحدائق والمنتزهات. إذ قضى ترامب صباحه وركز كل جهوده في محور واحد. سلط ضغوطا رهيبة على مديري الوكالة حتى يساهموا بأي شكل كان في دعم روايته حول أن الحشود التي أتت إلى حفل التنصيب أكثر مما ظهر في الصور، وأنها "الأكبر" في تاريخ الولايات المتحدة، مثلما أعلن سكرتيره الصحفي متهما الإعلام بالكذب ومطالبا بتبني "الحقائق البديلة".
معركته المفتوحة مع عدد من الوكالات الفيدرالية أدت إلى نشوء ما سمي بالـ"مقاومة" في عدد منها بما فيها وكالة الفضاء النازا على ضوء نواياه التقليص من التمويل الفيدرالي، وأيضا إرغام عدد منها بتغيير حقائق أساسية مثل الانحباس الحراري بالنسبة لوكالة حماية البيئة، وظهر ذلك في إنشاء عدد من الحسابات على تويتر لموظفين مجهولي الهوية أعلنوا فيها أنهم سيمارسون "حقهم في التعبير"، وأنهم "سيقاومون" أي تعد على حريتهم من قبل إدارة ترامب.
في اليوم ذاته ضغط من أجل إقالة طاقم كامل من الموظفين الساميين في الخارجية الأمريكية، وانتهى الوضع إلى تقديم سلسلة طويلة من الاستقالات في مناصب حساسة، ومغادرة الموظفين لمكاتبهم بما جعل خارجية القوة الأكبر في العالم بلا قيادات أساسية.
في الأيام ذاتها أعلن نيته مراجعة منع التعذيب. المشكل أن وزير دفاعه أعلن بشكل فوري أنه سيكون ضد ذلك.
علقت أحد مقالات الرأي في "الواشنطن بوست" أن الولايات المتحدة تحصلت أخيرا على "أول رئيس أمريكي لاتيني"، مشيرة إلى نموذج الرؤساء الديمغاجويين شبه العسكريين المهووسين بصورتهم الشخصية. أضاف الكاتب أن ذلك يحصل في الوقت ذاته الذي يندثر فيه هذا النوع من الرؤساء في أمريكا اللاتينية. والحقيقة نحن لسنا بعيدين عن أحد الشخصيات الكلاسيكية في روايات غابريال غارثيا ماركيز الكوميدية السوداء حول الاستبداديين المخرفين. فنحن بلا أدنى مبالغة أو حتى تشويه كاريكاتوري إزاء مخزن ضخم للمحروقات والألعاب النارية، اقتحمه شخص ضخم الجثة مهووس باللعب بأعواد الكبريت.
ما يحدث أقرب للمهزلة منه للنجاعة. نحن نشهد ببساطة انحطاطا غير مسبوق، سيحيل إلى معركة كبيرة في عمق التركيبة الأمريكية، لن يكون مداها معروفا، وستكون آثارها عميقة، ليس على أمريكا فحسب، بل على جل المعمورة. فأمريكا، بما هي شبكة اقتصادية ومالية، هي العالم، لا أكثر أو أقل. وهنا ربما الفارق الوحيد بين ما فعله كومودوس في روما وما يمكن أن يفعله ترامب في أمريكا.