كتاب عربي 21

الصراع في الدراما التركية.. "أرطغرل" يهزم "حريم السلطان"

1300x600
نتيجة لسيطرة العلمانية على تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية، كانت الدراما التركية متماشية مع ذلك التوجه العلماني وإحدى أبرز أدواته، ومن ثم كان المُنتج الدرامي قائما على التَّفَسُّخ والإثارة في قوالب اجتماعية من ناحية، ومن ناحية أخرى اعتمد من أجل إقرار العلمانية على تشويه التاريخ العثماني، وإبراز فصوله المختلفة على أنها مراحل من التخلف والرجعية.

نبذ العلمانيون التاريخ العثماني، لأنه قام على الفكرة الإسلامية، ورفْع راية الجهاد وإعلاء الدين، وحتى في فترات ضعف الإمبراطورية العثمانية كانت خلافة إسلامية جامعة يتزعمها السلطان عبد الحميد.

أراد علمانيو تركيا قطع الصلة بين الأتراك وبين تاريخهم لكي يتسنى لهم فصل الدين عن الحياة في تركيا.

وبعد بزوغ "العدالة والتنمية" المحافظ ذي الجذور الإسلامية، اتجهت قياداته لإعادة ربط الأتراك بتراثهم العثماني، الذي لن يثير سخط القوميين من جهة، وفي نفس الوقت يضعف الهيمنة العلمانية، ويعزز الروح الإسلامية المرتبطة بالتراث.

ودخلت القيادة التركية الجديدة في معارك فكرية ومنهجية عدة مع الأتاتوركيين، كان منها معركة الحجاب، وإقرار حق المرأة في ارتدائه باعتباره مظهرا من مظاهر الحرية الشخصية التي تكفلها الدولة المدنية.

ومن أبرز تلك الميادين التي شهدت صراعا بين التيار المحافظ والتيار العلماني، الدراما التركية، حيث ظهر تيار محافظ مضاد للتيار العلماني المسيطر، وأصبحت الأعمال الدرامية التي تُبرز التاريخ المشرق للدولة العثمانية تناطح المُنتج العلماني.

السلسلة المعروفة بـ"حريم السلطان"، التي كان آخرها مسلسل "السلطانة كوسيم"، كانت أنموذجا للدراما ذات التوجه العلماني التي أساءت لتاريخ الدولة العثمانية، فأظهرت السلاطين العظام أمثال سليمان القانوني في صورة قبيحة، حيث القصر الذي يعجُّ بالبطولات الغرامية والمؤامرات النسائية، وصراع الجواري، فلا هَمَّ للسلطان سوى حريم القصر، وسلّطت هذه الأعمال الفنية الأضواءَ على كل سقطة وعورة في التاريخ العثماني، دون التركيز على الفتوحات وأعمال النهضة.

ومنذ تولي العدالة والتنمية زمام الأمور في تركيا، شهدنا آثار ذلك التيار المحافظ المضاد، فخرجت الدراما التركية علينا بذلك العمل الضخم (فاتح 1453)، الذي يجسد سيرة السلطان محمد الفاتح، وإنجازاته العسكرية والتوسعية خاصة فتح القسطنطينية الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقدمت الدراما التركية المحافظة مؤخرا مسلسل "فلينتا"، الذي يتناول الدسائس والمؤامرات على الدولة العثمانية قبيل سقوط الخلافة.

أما آخر وأبرز هذه الأعمال الدرامية التي غزت البيوت العربية والتركية معا، فهو مسلسل "قيامة أرطغرل"، الذي يتناول قصة أرطغرل بن سليمان شاه، الذي وضع أسس بناء الدولة العثمانية، ليأتي ابنه عثمان من بعده ويؤسسها فعليا.

المسلسل بجزئيه كانت حلقاته محل اهتمام بالغ للمتابعين الأتراك والعرب على السواء، ولاقى نجاحا كبيرا على الصعيدين المحلي والإقليمي، ونستطيع القول إنه مسلسل هادف بامتياز، يعرض القيم العثمانية الأصيلة، ويُركّز على البعد الديني بقوة، وكثيرا ما ترددت عبارات الغزو في سبيل الله، والسير على خطى الرسول، ومرويات عن سيرة النبي وأصحابه.

وعرض المسلسل أمراضَ الأمة الإسلامية من التشرذم والخيانة والعمالة التي تنتابها من آن لآخر، وكأنها إسقاط على واقعنا المعاصر، إضافة إلى تناول قضية الوحدة الإسلامية.

سنتجاوز التكهنات حول تمويل حزب العدالة والتنمية لهذا المسلسل، لكننا لا نستطيع تجاهل الاهتمام البالغ من القيادات التركية بهذا المسلسل.

فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، زار بصحبة قرينته وعدد من المقربين إليه مواقع تصوير المسلسل، وتم التقاط الصور التذكارية مع أبطاله.

الشيء ذاته، فعله رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، وانتشرت مقاطع متلفزة على التواصل الاجتماعي، تعرض زيارته وهو يقوم بالطرْق على السيوف وهي المهنة التي كان يقوم بها الحداد صانع السيوف في المسلسل.

ما لفت الانتباه أيضا، أن الوفد السعودي الذي زار تركيا فترة انعقاد مؤتمر القمة الإسلامية الأخير في إسطنبول، قد زار كذلك مواقع تصوير المسلسل، وهذا أمر له دلالته.

فالسعودية هي الحليف الأقوى لتركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية، وقيام الوفد السعودي بزيارة مواقع تصوير هذا المسلسل دون غيره، يبعدها عن كونها زيارة عادية للوسط الفني، بل هي إبراز للتوافق وانسجام الرؤى والتوجهات السياسية بين السعودية وبين الحزب التركي الحاكم، ودعم من الحكومة السعودية لتوجهات الحزب.

هذا التيار المحافظ في الدراما التركية الذي ترعاه وتدعمه القيادة التركية يمثل زحفا ناعما لأسلمة الحياة في تركيا ببراعة وذكاء، وتقليم أظافر العلمانية ورفع يدها عن مجالات الحياة التركية بغير صِدام.

أردوغان ورجال الحزب لم يهتموا بإطلاق شعارات إعادة الهوية الإسلامية للشعب التركي، بل عملوا على استرداد تراثه المبني على الفكرة الإسلامية، ولم يدخلوا مع العلمانيين في معارك المصطلحات والعبارات والشعارات، وإنما استغلوا كل المساحات التي تكفلها الدولة المدنية بدستورها العلماني، في تغيير ثقافة الشعب التركي، وربطه بتراثه وتاريخه، وناجزوا العلمانية في عقر دارها ومؤسساتها وبطريقتها الناعمة، دون الدخول في صدام مباشر.

لقد أدركت القيادة التركية مدى تأثير الدراما في تغيير ثقافة الأتراك وتعزيز هويتهم الإسلامية العثمانية، وهو أمر جديرٌ باستنساخه في الوطن العربي، فحتى الآن لا نجد للدراما الهادفة مكانا بين هذا الطوفان الهائل من المنتجات الدرامية العلمانية التي ربت أجيالا بكاملها على الانحلال والخلاعة والخروج على النصوص الشرعية، وعن جوهر الدين الإسلامي.