قضايا وآراء

إصلاح بلا دماء.. انظر غربا

1300x600
التجربة التي تخوضها المملكة المغربية لتحقيق الإصلاح السياسي جديرة بالتأمل، وهي بالمناسبة لم تأخذ حظّها من الاهتمام الإعلامي -على الأقل- لتشجيع الدول التي ترنو شعوبها للإصلاح على الاحتذاء بها، والبناء عليه وتحسينه؛ دون إراقة دماء، ودون خلْع حكام أو قتلهم أو تشريدهم خارج البلاد، ودون ثورات مضادة تحرق الأخضر واليابس، وذلك يوفر على الدولة مقوّماتها دون تدمير ودون تقتيل لشعبها، وشلِّ الحياة فيها.

فعندما تفجَّرت المظاهرات في شوارع المغرب عام 2011م -تماشيا مع الثورات العربية- مطالبة بإصلاحات سياسية، ومقاومة الفساد، وإقامة دولة العدل.. التقط النظام المغربي الخيط وتجاوب مع مطالب الجماهير الثائرة في الشارع، وأقر عددا من التعديلات الدستورية التي لم ترق إلى كل مطالب الجماهير، ولكنها كانت خطوة على طريق الإصلاح، ثم أجرى «النظام» انتخابات برلمانية مبكرة (25–11-2011 م) دعت قوى مغربية عديدة لمقاطعتها، لكن غالبية الأحزاب شاركت فيها، وقدم النظام المغربي يومها صورة جيدة من الشفافية والنزاهة، إذ أفرزت تلك الانتخابات القوى الحقيقية التي يريدها الشعب المغربي، وفي مقدمتها حزب «العدالة والتنمية» ذو التوجه الإسلامي، ثم زاد الملك المغربي الأمر مصداقية بتكليف السيد «عبدالإله بنكيران»، الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية»، بتشكيل الحكومة وهي  أول حكومة في تاريخ المغرب يشكِّلها إسلاميون.

ثم جاءت انتخابات الـ4 من أيلول/ سبتمبر المحلية والجهوية (البلدية) لتضيف رصيدا جديدا لمصداقية النظام المغربي وجديته في السير في طريق الإصلاح والتمكين للشعب في اختيار ممثليه. وبصرف النظر عن نتائج تلك الانتخابات وحصول حزب العدالة الحاكم علي نسب مرتفعة تبرز رضا قطاع كبير من الشعب المغربي عن أداء حكومته فإن الأهم هو رسوخ التجربة الديمقراطية وتزايد قناعة الشعب المغربي بها ولذا كان إقباله عليها كبير (53%).

ولاشك أن تلك الإجراءات والتوجهات من النظام المغربي اقتلعت -بقدر كبير- بذور الشك التي نثرتها الممارسات الانتخابية والسياسية السابقة، وأحلَّت محلَّها بذور الثقة، وإن لم تكن مكتملة، فهي -كما قلنا آنفا- خطوة كبيرة على طريق الإصلاح وعلى طريق احترام مطالب الشعب والتجاوب معها بجدية، ويبقى على النظام المغربي المضي قدما وبسرعة في هذا الطريق السلمي الحضاري نحو تحقيق الإصلاح الشامل.. وستظل تلك التجربة فريدة في قاموس الإصلاح السياسي.

وبهذا التقدم على طريق الإصلاح يمكن لحكومة «العدالة والتنمية» قطع شوط بعيد في معالجة الملفات الصعبة التي يعاني منها الشعب المغربي؛ كمقاومة الفساد، وحل مشكلة البطالة، وتوفير مناخ أكثر سلامة للممارسة السياسية.. وأعتقد أن هذه الحكومة بقيادة «عبدالإله بنكيران»، قادرة على الانطلاق بنجاح نحو تحقيق هذه الأهداف، بل ووضع المغرب على طريق الإصلاح الشامل الذي يحقق للشعب المغرب نهضته المرجوة، وذلك راجع في رأيي إلى:

1- شخصية السيد «عبدالإله بنكيران» المنفتحة على الجميع، والتي تميل إلى البساطة في الحياة، وفي التعامل مع عامة الناس دون تعقيد أو سدود، إضافة إلى تجربته الثرية في الحياة السياسية، وتجربته الغنية بالدروس في العمل الإسلامي، فهو واحد من قيادات تأسيس العمل الإسلامي الحديث (منذ فترة السبعينيات من القرن الماضي)، وقد ساعدته شخصيته المنفتحة وتجربته الثرية في إنجاز تحالف تاريخي مع القوى السياسية المغربية الرئيسة المخالِفة للإسلاميين في التوجُّه والفكر، وأصبحت الحكومة المغربية ممثِّلة لمعظم أطياف الشعب المغربي.

على المستوى الشخصي أعرف الأستاذ «عبدالإله بنكيران» جيدا، وقد التقيت معه في بيروت والخرطوم والدار البيضاء ونواكشوط، في إطار اجتماعات «رابطة الصحافة الإسلامية» عندما كان رئيساً لتحرير صحيفة «التجديد» المغربية، وبعد أن أصبح أميناً عاماً لحزب «العدالة والتنمية»، ثم التقيته رئيسا للوزرا خلال جولة واسعة مع وفد صحفي عربي وتناقشنا كثيرا في أمور عامة عدة، وما أستطيع قوله هنا: إنك لا تملك إلا احترام هذا الرجل؛ لما يتمتع به من رحابة صدر، وعُمق التفكير، ومصداقية الكلمة، في إطار من روح المرح والفكاهة العفوية، ومازال «بنكيران» يحافظ على تلك المقومات التي حباه الله إياها وهو ما ساعد كثيرا في نجاح ائتلافه الحكومي من أحزاب ذات مشارب فكرية مختلفة.

2- دعم الملك «محمد السادس» لتلك الحكومة بكل الإمكانات المطلوبة، وما يبدو حتى الآن أن هناك دعما وتأييدا لتلك الحكومة، ولو استمر ذلك الدعم فسوف تمضي المملكة المغربية في تجربتها إلى تحقيق الأهداف المرجوة.

3- استمرار جدية الأحزاب المشاركة في الحكومة في المضي قدما بالتجربة نحو النجاح، ونسيان الجميع حزبيتهم، والعمل بروح الوطنية نحو تحقيق الأهداف الكبرى للشعب المغربي وحل مشكلاته المستعصية، والتي تعد صورة طبق الأصل من مشكلات معظم الشعوب العربية.

إن ما يشهده المغرب في هذا الصدد يمثل فرصة نادرة للجميع -في المغرب- نظاما وشعبا وقوى سياسية، فهي فرصة للنظام لكي يواصل طريقه في التجاوب مع المطالب الشعبية عبر بوابة المؤسسات المنتخبة، ودون الوصول إلى نقطة الضغط الشعبي والرد الرسمي الخشن الذي أوقع كثيرا من البلاد في صدامات دامية.. وهي فرصة لحزب «العدالة والتنمية» لكي ينفِّذ برامجه كاملة وبكل ثقة.. وفرصة للقوى السياسية الأخرى لكي تصطفَّ حول مشتركات واحدة لتحقيقها، بصرف النظر عن الأهداف الحزبية.. ولا شك أن انتهاز الجميع لتلك الفرصة النادرة ستعيد للشارع ثقته في نظامه، وتعيد إليه هدوءه، وتدفعه نحو الالتفاف حول مَنْ يحققون له مطالبه بجدية ومصداقية؛ وبالتالي تجنيب البلاد ما يجري في بلاد الثورات العربية.

نحن إذا في العالم العربي نعيش تجربتين.. تجربة تنتزع الشعوب فيها حقوقها باقتلاع نظام الحكم الجائر والمستبد، بعد تقديم عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى ثم تخفق علي يد الثورات المضادة لتعيد الجماهير انتاج ثوراتها مقدمة المزيد من التضحيات.. وتجربة تجاوب نظام الحكم في المغرب مع مطالب الجماهير، وهي تجربة يمكن أن تمثِّل إضاءة مهمة لكل مَنْ يريد أن يستبق تفجّر ثورة شعبية تطالبه بالرحيل، ولكل مَنْ لا يريد أن تنغمس يداه في دماء شعبه، ولكل مَنْ يريد أن يحافظ على استقرار بلاده، وينطلق نحو تحقيق التنمية وبناء دولة الرفاهية والحرية.