قضايا وآراء

التشيع الروحي والتشيع السياسي

1300x600
يخبرنا قانون التاريخ أن الدعوات والمبادئ الأخلاقية تبدأ الانتشار بقوتها الذاتية، فلا يسبق إلى الإيمان بها إلا المخلصون الصادقون لا يريدون جزاءً ولا شكورا، وتعبر مرحلة الروح الخالصة عن نفسها بمقولة الأنبياء التي يكررها القرآن: "وما أسألكم عليه من أجر"، ثم بعد أن تتجاوز الدعوات مراحل التكون الجنيني وتدافع المجتمع وتثبت جدارتها بتحمل التكذيب والسخرية والإيذاء تنجح أخيراً في خلق تحول اجتماعي يتكيف مع مبادئها.

في مرحلة ظهور الدعوات وتمكينها تشهد المجتمعات ظاهرة تبدل الولاءات، وهو ما يحسنه أكثر الناس الذين تهمهم مصالحهم ومعيشتهم أكثر من اهتمامهم بالحق المجرد، فهم لا يملكون من القوة الروحية ما يدفعهم للإيمان بدين يستضعف أتباعه فإذا قويت شوكة هؤلاء الأتباع أعلنوا ولاءهم للقوة الجديدة الناشئة: "ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا".

في المرحلة الجديدة لا يظل الدين دعوةً روحيةً مجردةً بل يتحول إلى سلطة سياسية، وتتصف هذه المرحلة بغلبة الكم على الكيف لأن الانضمام إلى الدين لم يعد مؤشرا دقيقا على صدق الإنسان في الانحياز إلى الحق بل تتداخل عوامل عديدة مثل البحث عن منصب أو نفوذ أو مال أو قضاء مصلحة أو تجنب أذى فتنشأ في هذه الحالة نسخة سياسية من المبادئ الروحية الأصيلة.

هنا كان منزلق أكثر الأمم عبر التاريخ، فصورة الدين تظل قائمةً، والسابقون الأولون الذين غرسوا البذور تظل مكانتهم مصانةً، وتسمى المؤسسات والشوارع بأسمائهم وتعلق صورهم في المهرجانات والمناسبات، مرجع الاهتمام بالجيل المؤسس هو أنهم يمثلون الرابطة العصبية التي تجمع الأتباع وتقوي شعور الانتماء فيهم وتعطي الشرعية لنظام الحكم القائم، فهنا لا تقدر السلطات الرموز بدافع الاعتراف بفضلهم وحسب بل بدافع مصلحي أيضاً وهو أن الانتساب لهذه الأسماء يعطي المبرر الشرعي لمشروع الهيمنة والنفوذ القائم ويحول دون قدرة الناس على مراقبة الحيد عن المبادئ التأسيسية، وربما تتورط السلطة الجديدة في نفس المظالم والمفاسد التي ثار الناس بسببها على السلطة القديمة، لكن ما يؤخر ثورة الناس هو أن السلطة الجديدة تقدم نفسها بأنها امتداد لأبطال الجيل المؤسس، وبذلك تتحول المبادئ من دورها الإصلاحي الثوري إلى دور التغطية على الفساد وصرف الناس عن الثورة.

هذه مشكلة دقيقة تتورط فيها أكثر الأمم، خطورتها في خفائها، إذ سيغتر عموم الناس بمظاهر البطولة والانتماء التي ترعاها السلطة القائمة، حتى وإن ضعف الالتزام الأخلاقي بمنهج المصلحين الأوائل.

لذلك فإن مشكلتنا ليست مع المرجعيات الروحية والمبادئ الأخلاقية التي تزعم كل الأمم الانتساب إليها، بل في خيانة الأتباع لهذه المبادئ، ولو قدر الله تعالى أن يبعث الأنبياء والمصلحون من قبورهم مثل محمد وموسى وعيسى وبوذا وكونفوشيوس في عالم اليوم ثم يوجهون كلمةً إلى أتباعهم لبطلت كل المزاعم والتبريرات الدينية والأخلاقية للصراعات المتأججة في العالم، لأن هؤلاء الأنبياء والمصلحين متفقون جميعاً في مبادئهم الأخلاقية، والصراعات الناشبة في العالم في حقيقتها صراعات بين مشاريع هيمنة ونفوذ وسلطة لا بين مبادئ ورسالات روحية.

يشير القرآن إلى هذه السنة التاريخية وكيف تتحول رسالات العدل والرحمة والسلام إلى مادة لإشعال الحروب وتأجيج الكراهيات، تقول آية سورة البقرة: " ولَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ".. إذاً الاقتتال هو طريقة أتباع الرسل وليس طريق الرسل الذين هم أمة واحدة، ولو كان الأتباع صادقين في التأسي بأخلاق أئمتهم لكانوا هداةً ودعاة رحمة للعالمين.

هذه حقيقة مطردة عبر التاريخ، إذا ما انتصرت دعوة نبي أو مصلح ورفع ذكره بين الناس حوله أتباعه إلى صنم يقدسون اسمه وصورته بينما يميتون روح دعوته.. 

إن العصبيات القومية و مشاريع الهيمنة السياسية تحمي نفسها بزعم الانتساب إلى العظماء، لكنها في حقيقة الأمر ليست أكثر من مشاريع هيمنة وعلو، فلا فرق جوهري بين مشروع هيمنة يرفع صليب المسيح أو يرفع راية محمد أو يحمل لواء علي، فالفساد والظلم والعلو ملة واحدة متجاوزة للمذاهب والطوائف ومنطق السلطة واحد سواءً سميتها سلطةً إسلاميةً أم سلطةً اشتراكيةً أم سلطةً بوذيةً، وما يحكم مشروعاً سلطوياً في الانتساب إلى دين دون غيره هو موازين القوى القائمة في المجتمع وأي دعوى ستجلب له مصلحةً أكثر وليس اليقين الروحي، والدين في نسخته النقية الخالصة لا يحمل تطلعات في الهيمنة: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا".

يضع المفكر الإيراني علي شريعتي رحمه الله يده على أصل المشكلة فيفرق بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وبين التسنن المحمدي والتسنن الأموي، فكل من التشيع العلوي والتسنن المحمدي هي مبادئ روحية خالصة منبع الأولى حب علي عليه السلام، ومنبع الثانية التسنن بأخلاق وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان النمطان من التشيع والتسنن الروحي يمكن أن يتعايش أتباعهما بكل حب ووئام كما يقول علي شريعتي: " وهكذا نرى أن وراء هذا السور المطبق الأسود الذي بناه حولنا التشيع الصفوي وبناه حولهم التسنن الأموي فضاءً رحباً له آفاق واسعة وهواء طلق وسماء صافية يعيش في ظلها الشيعي العلوي مع أخيه السني المحمدي ويرى كل منهما نفسه بمرآة الأخر".

يرصد شريعتي تاريخ المذهب الشيعي فيبين أن المشكلة بدأت بتحوله من حركة روحية إلى نظام اجتماعي وسياسي تدعمه السلطة: 

"كان الشيعة الأوائل أقليةً محكومةً و مضطهدةً لا تقدر على ممارسة طقوسها بحرية وعلانية، وكان التشيع معبرا عن الإسلام الحركي في مقابل الإسلام الرسمي والحكومي الذي كان يتمثل في المذهب السني، أما بعد قيام الدولة الصفوية فقد تحول الوجود الشيعي إلى قوة كبرى تحكم البلاد وتقع تحت إمرتها أقوى الأجهزة الرسمية ، والحاكم الذي كان يقمع الشيعة بشدة ويعتقل كل من يشك بولائه وحبه لعلي بات الآن من أكبر المدافعين عن التشيع وأكبر المتظاهرين بالولاء لأهل البيت.. يا له من انتصار".

"وهنا يتجسد قانون تبدل الحركة إلى نظام، القانون الذي بوسعه تحويل عقيدة نابضة قادرة في يوم من الأيام على تحريك أمة بكاملها إلى مجرد نظام ونسق اجتماعي رسمي، من هذا الموقع الحافل بالانتصارات بدأت هزيمة التشيع إذ توقف الشيعي عن الحركة ليتحول إلى وجود اجتماعي غالب وحاكم وجامد راكد!". 

لستُ متأكدا إن كان علي شريعتي وهو ينحت هذه المفاهيم العميقة قادرا باستشرافه التاريخي على استبصار مآل الثورة الإيرانية التي لم تسلم بدورها من قانون الحركة والنظام فوقعت في مطب أخلاقي فادح بتحولها من ثورة منادية بالحرية إلى مشروع نفوذ وهيمنة لا يتورع في دعم نظام بحجم إجرام نظام بشار الأسد في سبيل توطيد دعائم سلطانه دون اعتبار لعلي ولا لمحمد.

علينا أن نحرر موضع الخلاف بدقة، مشكلتنا لن تكون يوما مع التشيع الروحي ولا مع أي مذهب أو شريعة في العالم، مشكلتنا فقط في تحول الدين إلى عصبية قومية وإلى وقود مشروع علو و إفساد في الأرض يتخذ  المبادئ والأديان جُنةً لتوطيد أركان السلطان وتوسيع المكاسب والامتيازات على حساب الشعوب المستضعفة.