كتاب عربي 21

قرويون علموا الأمريكي معنى رمضان والتسامح

1300x600
من الأشياء الجميلة في رمضان الكريم، أن كثيرا من الناس، الذين يكونون عادة عدوانيين باللسان واليد، يسيطرون على أعصابهم، ويكونون أكثر تسامحا، ويحافظ البعض على قواعد حسن السلوك والأدب خلال الأيام الثلاثة الأولى فقط من رمضان، وبعدها يتعلل الواحد منهم كلما عاتبته على انفلات أعصابه، وتلفظه بعبارات جارحة أو بذيئة بعبارة تفيد بأن الصوم يجعله "ضيق الخلق" كما في التعبير العامي.

وكثيرا ما تسمع شخصا ما يهدد آخر: اتركني في حالي.. صايم ومو/ مش طايق روحي!! وتقول له إنه يفترض أن الصيام يعلم الصبر والتحمل، ولا يجوز أن تنسب سوء السلوك أو العبارة إلى الصوم! وقد يهمهم بعبارات تشبه الاعتذار، وقد (يشب في حلقك) ويحولها إلى مشاجرة معك، ولكن نسبة كبيرة من الناس تجتهد خلال شهر الصوم، لمنع الألسن من التلفظ بالكلام البذيء، والأيدي من الامتداد إلى الآخرين بالأذى.

ولكن المصيبة، هي أن بعض هؤلاء لا يرى حرجا في شتم الآخرين وتجريحهم أو الضرب بعد انقضاء رمضان، مع أن المسلم – وغير المسلم - مطالب على امتداد مشوار حياته، بالحرص على عفة وطهارة اللسان، والكف عن إيذاء الآخرين، (تحضرني في كل رمضان حكاية استفتاء الراقصة فيفي عبده، لشيخ أزهري عن جواز الرقص الشرقي في الملاهي في رمضان، فجاء رده الذكي: ما هو حرام في رمضان حرام في غير رمضان!!).

وهناك من يستخدم عبارة "اللهم إني صائم"، المراد بها معاتبة ومحاسبة وضبط النفس، بمعنى: اللهم طولك يا روح. وحتى هذه العبارة صارت تعني أمرا آخر يخالف معناها الأصلي، الذي هو الدعاء لله بأن يلهم القائل ضبط النفس، وهكذا تحاول – مثلا – أن تثبت لشخص ما بلغة مهذبة، أنه على خطأ، فتنطلق من فمه عبارة "اللهم إني صائم" بنبرة أقرب إلى الوعيد، فتخرج كلمة "صائم" من فمه "مصادم".

ومن الأشياء الجميلة في رمضان، أن الناس يدعون بعضهم البعض إلى الإفطار والعشاء (في البيوت غالبا)، فللأكل الجماعي، بل للأكل عموما مذاق خاص في رمضان، لأنه يكون بمثابة مكافأة مستحقة نظير عمل قمت به عن طيب خاطر. ولكن لماذا لا ندعو بعضنا البعض لتناول الطعام في بيوتنا في غير رمضان وبدون "مناسبة": لا زواج ولا ختان ولا خطوبة ولا نجاح في امتحان أو الحصول على ترقية
شخصيا لا أحب الولائم التي تنتج عن "تخطيط استراتيجي"، وتستوجب بروتوكولات وطقوسا، ولكنني أحب أن التقي مع الأهل والأصدقاء على مائدة بدون هيلمان وطيلسان، بمعنى أن نجلس ونأكل ما توفر وتيسر، وقصر مفهوم الكرم على موائد الطعام يضايقني، بل ورغم أنني أجد نفسي في كثير من الأحيان مضطرا إلى تنظيم ولائم "على شرف" شخص أو أشخاص ما، إلا أنني أكون أكثر ارتياحا نفسيا، إذا داهمني ضيف عزيز، في موعد وجبة طعام وأكل معي ما هو متاح لحظتها.

وأجمل ما في السودان في رمضان، أن ما صار يتباهى به بعض الأثرياء العرب مؤخرا، بتوفير "إفطار" للفقراء، بمسمى "موائد الرحمن"، ظل على مر العصور تقليدا ثابتا في كل حي في ربوع السودان، حيث يأتي كل شخص بطعامه، وتجلس المجموعات على قارعة الطرق، ليتسنى لكل عابر سبيل مشاركتهم الإفطار الرمضاني.

ويحضرني هنا ما حدث للقائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في الخرطوم العام الماضي، عندما دخل أطراف مدينة الخرطوم بحري، قادما من" ولاية النيل" قبل الغروب بقليل، وفوجئ برجال يقطعون على موكبه الطريق؟ لا شك أنه قال لنفسه: خلاص، هؤلاء من استضافوا أسامة بن لادن لسنوات، وها هم يختطفوننا ومصيرنا التصفية الجسدية. ثم يأمر سائق سيارته بالانصياع لتوجيهات الخاطفين، بأن يوقف السيارة على جانب الطريق!

ولكن خوفه ينقلب إلى حيرة: أي صنف من الخاطفين هذا الذي يبتسم في وجهك، ويمد يده ليصافحك، ثم يقودك بلطف من يدك، لتجلس على حصير ممتد على الأرض، يقابله صف آخر من الحصير، تتوسطهما موائد عليها صنوف من الطعام؟ هل هذا هو عشائي الأخير؟ فإذا بأحدهم يقول له بإنجليزية مكسرة: ويلكم.. رمضان فود.. إفتار. وفجأة يتذكر الرجل أنه في شهر صوم المسلمين، الذين يفطرون مع الغروب، وأن كل ما في الأمر هو أن قرويين بسطاء مر موكبه بهم يدعونه لتناول الإفطار معهم
وروى الدبلوماسي الأمريكي هذه الواقعة لصحفيين، وأضاف ما معناه: يا إلهي، هؤلاء أروع شعوب الأرض. يعرفون أنني نصراني، ولست صائما، ولكنهم اعتبروني ضيفا على مائدتهم لأنني مررت بهم، وقت إفطار المسلم الصائم.

وكلما تذكرت تلك الواقعة، تخيلت أنني الفرزدق والدبلوماسي الأمريكي جرير، فأهتف:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا "خواجه" المحافل