غبت عن
مصر فترة وعدت لأجد علما ضخما على سارية طويلة منصوبا وسط ميدان التحرير. وإذا كان البعض سيعجب من السطر التالي، فإنني لا أرى سببا للعجب؛ بدا لي العلم رمزا دالا لا على البلد، بل على هزيمة البلد، لا على الثورة بل على الثورة المضادة، لا على الناس بل على السلطة؛ أضفى عليه مكانه ثقل ظل، كضابط بين شعراء محتفلين، وألقى عليه حجمه المبالغ فيه مسحة من انعدام الثقة بالنفس، كضابط بين شعراء يترك مسدسه مكشوفا لأعينهم طوال الوقت.
لا يمكنك الهرب من المقارنة بين ميدانين: ميدان مليء بالناس يرفع كل منهم علمه الخاص، سواء كان العلم الرسمي أو ورقة كتب عليها اسمه ومطالبه أو رغيف خبز أو قطعة من أواني الطعام، وبين ميدان خال من الناس، يتوسطه علم مفرد ضخم على سارية ذات قاعدة بيضاء، محاط بالدبابات والأسلاك الشائكة والمخبرين.
إن الثورة كانت خروجا على الدولة لا على نظام حكمها فحسب. كانت الثورة في مصر محاولة لاقتراح وسيلة ينظم بها البشر أنفسهم سياسيا غير الدولة الرسمية المعتادة. إن الدولة الرسمية كيان قائم على الإجبار والطاعة، والثورة كادت تنشئ كيانا بديلا، قائما على القناعة.
الدولة الحديثة الرسمية ليست إلا مجموعة من الألقاب، يحصل المرء على اللقب فيطاع بمقتضاه، فالموظف حين يطيع المدير إنما يطيع لقبه، وإن حل مدير ثان محل الأول أطاع الموظف مديره الجديد.
فهي كلها كيان قائم على طاعة صاحب اللقب الأدنى لصاحب اللقب الأعلى. ومثل هذا الترتيب لا يقتضي أي نوع من أنواع الاقتناع. هو هرم من الإجبار، وقد حاول المفكرون تخفيف هذا الطابع الاستعبادي الاستبدادي للدولة الحديثة بالدعوة إلى
الديمقراطية، أي إلى إتاحة الفرصة للناس، مرة كل أربع سنوات أو خمس، أن يختاروا مستعبدهم الأعلى، ولم يجدوا من سبيل لكبح استبداده إلا بأن يختاروا معه مجلسا يراقبه، على أن ذلك المجلس أيضا لا تكون عليه رقابة من الناس في مدة ولايته. فالفكرة في الديمقراطية هي ان يختار الناس عددا من الحكام يستبدون بهم، ولا يكف أذاهم عن الاستفحال إلا دفع استبداد بعضهم باستبداد البعض الآخر.
وهذا في الدول الطبيعية، فما بالك بالدول المصطنعة التي رسم حدودها وخلق فكرتها الاستعمار ثم أطاح حكامها بفكرة الديمقراطية تماما.
إن فكرة الولاء للوطن، بدلا من الدين أو العصبية القبلية تطورت تطورا طبيعيا في أوروبا، لكنها عندنا أتت على سفن الحملة الفرنسية وأقلام موظفي وزارة المستعمرات البريطانية حيث رسموا لنا بلادنا رسما. وإن أول من استخدم تعبير "الأمة المصرية" بالمعنى الحديث كان نابليون بونابارت في منشور وزعه عند غزوه الإسكندرية. كان نابليون، ككل غاز، يريد إعادة إنتاج نظام حكم بلده الأم في البلاد التي يغزوها.
لكن، ورغم التشابه، أو ربما بسبب التشابه، بين مفهوم "الأمة المصرية" ومفهوم "الأمة الفرنسية" فإن أثر الأول عكس أثر الثاني؛ مفهوم الأمة الفرنسية كبّر الفرنسيين ووحّدهم وجعلهم قوة عظمى في محيطهم، ومفهوم الأمة المصرية فصل مصر عن محيطها، صغّر حجمها الجغرافي ونفوذها الإقليمي، وحول المماليك والأتراك الذين كانوا قد أصبحوا من أهل مصر لقرون إلى أجانب أتى نابليون الطيب ليحرر مصر منهم.
إن مفهوم الأمة المصرية ذاته كان أداة من أدوات الاحتلال، يجعل أهل البلاد أجانب ويجعل الأجانب الغازين منقذين محررين. والتعبير المؤسسي عن هذا المفهوم، أي الدولة الحديثة، هو استمرار للاستعمار. فقد أنشئت الدولة لفائدة المستعمر قبل فائدة سكانها، ورسمت حدودها وبنيت بيروقراطيتها بحيث تكون فاقدة للشرعية في الداخل ومنكشفة عسكريا وتابعة اقتصاديا للخارج.
هنا تصبح البنية الهرمية القائمة على الطاعة أخطر. لأن المستبد الأعلى، صاحب السيادة، لا يكون حر نفسه، بل هو بدوره تابع للاستعمار الأجنبي. فأنت يا عزيزي المواطن العربي يستبد بك حاكمك وحاكم حاكمك وراء البحر.
أما
الثورات العربية، والنموذج المصري من أبرزها، فإنها قامت على حلول القناعة محل الطاعة؛ لم يكن للناس حزب واحد أو قائد واحد يصدر الأوامر فيطيعه من تحته. بل كانت القيادة للفكرة والمطالب، كل من كان مؤمنا بالفكرة ارتجل طريقة إسهامه في تحقيقها، ومن مجموع هذه الارتجالات تولّد العمل الجماعي المهيب، الميدان ذو الرايات وأواني الطبخ وأرغفة الخبز والشعارات بل وحتى الأحذية، كلها مرفوعة تؤدي غرضا واحدا بدون أن يكون لها قائد أو لجنة مركزية، كلها أعلام، ولا تحتاج لأسلاك شائكة لأنها لا يمكن، في مجموعها، أن تُكسر.
لذلك فإن في استباب ذلك العلم الواحد الضخم العسكري الحضور المحاط بالأسلاك الشائكة والدبابات، رمزية تشير إلى استعادة سيطرة الاستعمار، وأداته الدولة الحديثة، على المقر الرمزي للثورة، هو احتلال لميدان التحرير، احتلال للتحرير على ما في ذلك من مفارقة.
إن الدول تقام في الخيال قبل أن تقام على الأرض، وكذلك هي تسقط في خيال الناس أولا، وإن ما حدث عام 2011 حتى وإن انتكس ونُكب، هو دليل على أن هذه الدول سقطت في خيال الناس، وهو دليل على أن مثله ممكن وعلى أن نقيضه غير قابل للاستمرار.
لن تعوض ضخامة العلم عن اضمحلال فكرة النظام السياسي القائم على الإجبار. إن الأعلام حين ترفع في الميادين لتدل على
الحرية فإنها لا تحتاج إلى دبابات وأسلاك شائكة تحميها.