أرسلت هذا المقال إلى إحدى الجرائد
المصرية المستقلة يوم الأحد الأول من يونيو حزيران 2014 لينشر يوم الثلاثاء التالي، فلم ينشر بسبب ضغوط تمارس على الجرائد الحرة وما أكثرها في بلادنا
العربية. وقد كنت انقطعت عن الكتابة فترة طويلة، متفرغاً للحزن، كأنني إن تفرغت له نفد، فإذا أنا أنفد وهو لا ينفد، فقررت اليوم أن أستأنف الكتابة، والسير، وإن كانت الخطوة ثقيلة وبطئية، حاملاً الحزن كالجني المطبق على رقبتي. وقد قررت أن أستأنف من حيث توقفت، ليتم معنى الاستئناف والاستمرار. إننا لا نضمن، إذا استأنفنا محاولاتنا أننا سنخرج من هذا الظلام، ولكننا نعلم يقيناً أننا إذا يئسنا، ولم نحاول، فإننا لن نخرج منه أبداً. لذلك فأنا أنشر هذا المقال هنا، والآن. وإن هذه السطور، والحرب في اليمن، والحرب في ليبيا والحرب في سيناء، مصداق، في اعتقادي لما جاء فيه، وإن كنت أتمنى ألا يصدق تماماً.
الفائز والخاسر
ترشح في الانتخابات الرئاسية المصرية لعام 2014 شخصان، أستاذ وجنرال، فقضيا على مستقبلهما السياسي.
أما الأستاذ، فخذل أنصاره قبل أن يخذل بقية الناس، سحب مندوبيه حين شك في التزوير فلم يعد له شهود عليه، وبقي هو في السباق فلم يعد بإمكانه أن يستنكر هذا التزوير وقد استمر في العملية لآخرها. ولن أطيل في الكلام عنه لأن مستقبله السياسي صار شأنه الشخصي، ولأنه رغم خسارته الانتخابات، أسعد المرشحَين حالاً كما سأبين أدناه. إنما يعنيني الجنرال الفائز في الانتخابات، فمستقبله السياسي يعني البلد والإقليم.
لقد انتهت أسطورة شعبية الجنرال الكاسحة. فقلة عدد الناخبين وانعدام الإقبال لم يضره بقدر ما أضره إصراره على أن يحصل على نسبة التسعة والتسعين بالمئة الكلاسيكية المعتادة لكل زعيم عربي تقليدي أو ما يقاربها. إنك حين تعطي نفسك هذه النسبة إنما تعترف أن شأنك شأن صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي. إلا أنك في وضع أسوأ من هؤلاء، فقد كان مع بعضهم نفط يرشون به الناس، وكان مع الآخرين زعم بمقاومة الاستعمار، أما أنت فليس عندك هذا ولا ذاك.
ليس لديك نفط ليبيا والعراق، ولا حجة مواجهة الاستعمار الأمريكي أو الإسرائيلي التي طالما استخدمها حزبا البعث في العراق والشام. وحتى موارد مصر، تمنعك تحالفاتك الدولية من استغلالها. فالغاز المصري في شرق المتوسط ستأخذه إسرائيل ولن تعارضها؛ لأنك في حلف عسكري أمني معها ضد غزة وضد أهل سيناء الذي يتاجرون مع غزة في الغذاء والسلاح. ولن تقوم بمراجعة عقود النفط والغاز المبرمة مع الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية لحاجتك الماسة لاعترافهم، وسكوتهم عن انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة في مصر.
إن الجنرال يحكم بلداً ميزانيته مقسمة خمسة أخماس، فخمسان تسيطر عليها المؤسسة العسكرية، وخمس لخدمة الدين وخمس للصرف على البيروقراطية وخمس لدعم خبز الفقراء والطاقة. ولا قبل له بأن يقلل من مال العسكر ولا من مال الأمريكان والأوروبيين الذي يحصلونه خدمة للدَين، ولا يريد أن يقلل من مرتبات البيروقراطية التي يعتمد عليها في إدارة البلد، فينوي أن يأخذ من قوت الناس ويقلل من دعم الطعام والطاقة، وأن يجبر أفقر من في البلد أن ينفق على أغنى من فيها.
وقد يقال إن الجنرال يأخذ المال من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإن هذين البلدين قد يحلان مشكلته، ولكن احتياجات مصر هي من الضخامة بحيث لا يمكن لأية دولة مهما كان ثراؤها أن تفي بها. ثم إن المملكة العربية السعودية تنفق على المعارضة السورية وعلى أنصار لها في العراق وفي اليمن، وتنفق داخلياً لتفادي امتداد التوتر الطائفي في البحرين والعراق والشام واليمن جميعاً إلى أراضيها، فلن تستطيع أن تتحمل العبء المصري فوق هذه الأعباء كلها لمدة طويلة.
ولما كانت هذه حال الجنرال في الاقتصاد، فإن قدرته على رشوة أنصاره ومكافأتهم شبه معدومة. ثم إن الجنرال حين يعجز عن الحكم بالكرم فإنه سيحاول الحكم بالخوف، أي بإدخال البلد في حربٍ ما ورفع شعار أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. سيحاول أن يغطي على صوت البطون الجائعة بالمدافع. وإن الحرب التي اختارها حتى الآن هي الحرب على الإرهاب، ولكن المشكلة في هذا الخيار، هي أن كل خطابه مبني على ادعائه أنه قد أنجز وانتصر في هذه الحرب وتم الأمر. وما أغنية "تسلم الأيادي" إلا أغنية تهنئة له على حرب، المفترض أنه أنهاها لصالحه. وقد ملأ السجون بعشرات آلاف السجناء والمعتقلين، وملأ الأرض من دماء قتلى الاعتصامات التي فضها في هذه الحرب، فإن كانت لم تنته بعد كل هذا القتل وكل هذا الحبس وكل هذا الانتظار، فذلك يعني أنه قد هزم فيها. فتكرار نغمة الحرب على الإرهاب، مع الوقت، تحدث أثراً عكسياً. لذلك لن يستطيع الجنرال أن يستخدم خطاب الحرب على الإرهاب للتغطية على الأزمة الاقتصادية طويلاً، عليه أن يبحث عن حرب أخرى.
وهناك حربان ممكنتان في ظل تحالفاته الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية والتزامه المطلق باتفاقية السلام مع إسرائيل. الأولى في الشرق، ضد الفلسطينيين من أهل غزة ومن يعاونهم من المصريين أهل سيناء. وهذه الحرب تدخله في مواجهة غير مباشرة مع إيران التي لا تريد أن تخسر الورقة الفلسطينية تماماً. وإن الجفوة التي حدثت بين بعض الأطراف الفلسطينية وإيران بسبب الأزمة السورية في طريقها للانفراج. طهران تحتاج مقاومة فلسطينية سنية لكي لا يحاصَر حلفها الإقليمي مذهبياً، ولكي تحاصِر هي إسرائيل من الجنوب والشمال معاً، والمقاومة الفلسطينية لم يعد لها من راع ولا سند في الشرق والغرب يمدها بالسلاح إلا إيران. أما حرب الجنرال الثانية ففي الغرب، أي أن يحارب الليبيين بدعوى تأمين حدوده ومنع "الإرهابيين" من اختراقها. المشكلة أن هذه الحرب تدخله في مواجهة غير مباشرة مع تركيا وقطر. أما تركيا فإن تجربة أخذ العسكر الحكم قسراً من يدي رئيس إسلامي منتخب، تشكل لحكامها تهديداً وجودياً، وأما قطر فإن لها مع الحكومة المصرية حساباً تسويه، لذلك فإن قامت القاهرة بتسليح طرف في ليبيا فستدعم تركيا وقطر خصومه، وإن تدخل الجنرال مباشرة في ليبيا، فستقوم تركيا وقطر باستدراجه في حرب استنزاف هناك.
إن شن الحرب في الشرق أو في الغرب ليس من الحكمة في شيء، لأن كلاً من الحربين ستكون حرب استنزاف، ووضع مصر الاقتصادي أسوأ بكثير من وضع كل من إيران وتركيا وقطر، فهذه الدول تحتمل الاستنزاف في الوقت الراهن أكثر من مصر. كذلك فإن التعويل على دعم أمريكي في ليبيا أو إسرائيلي في سيناء غير مرجح. إن إسرائيل وإن كانت تحب أن ترى المقاومة الفلسطينية تختنق، فإنها لا تحب أن يكثر العديد والعتاد المصري في سيناء بأي ذريعة، وإن الولايات المتحدة وإن كانت تحب أن ترى بعض الجماعات الإسلامية في ليبيا تضعف، إلا أنها لا تحب أن ترى سيطرة مصرية مريحة على جزء من النفط الليبي. وقد كان صدام حسين حليفاً للولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في حربه مع إيران، ولكنهما لم تسامحاه حين حاول أن يسيطر على نفط الكويت. إن حلفاء الجنرال، في الداخل والخارج، غير متمسكين به بالقدر الكافي، بينما حلفاء خصومه متمسكون بهم.
أقول: لا أرى للجنرال مخرجاً، لا مال لديه ينفقه، ولا حرب لديه يكسبها أو يلهي الناس بها. لذلك ربما يأتي يوم قريب يشعر فيه أن قرار خوضه هذه الانتخابات لم يكن من طوالع السعد عليه.