مقالات مختارة

ما الذي دار بين داود أوغلو وأردوغان؟

1300x600
كان ذلك قبل عيد "النوروز" بيوم واحد، خرجنا من "ديار بكر" باتجاه مدينة "ماردين"، كان الطريق مزدحماً نوعاً ما، حتى غدونا في بلدة "جنار" في طريقنا، وكان نصف الطريق قد تم إغلاقه من السلطات. شاهدنا بعض الفتيان يرقصون بأهازيج محلية شعبية، ومرتدين الملابس التقليدية الغنية بالألوان.

تم إعلامنا لاحقاً أنهم شبان ينتمون إلى "حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي، وقد خرجوا مشياً على الأقدام من مدينة "جيزرة" (في الجنوب الشرقي" للاحتفال بعيد "النوروز". تذكرت حينها أيام التسيعنيات من القرن الماضي؛ حيث كان الجميع في "ديار بكر" لا يستطيع الخروج للاحتفال بعيد "النوروز" إلا ومعهم حشد كبير من الجيش، وفي ساحة الاحتفال بدل سيارات الإسعاف كانت تنتظرهم الدبابات وعربات الشرطة.

عندما حان وقت صلاة الجمعة ذهبنا إلى المسجد، وأدينا الصلاة في إحدى القرى، وعند الانتهاء من الصلاة خرجنا من المسجد، ورأيت بعض سكان القرية مجتمعين مع بعض الجنود الأتراك، يتبادلون أطراف الحديث. ركبنا عرباتنا مكملين طريقنا إلى "ماردين"، وإذ بسيارة قديمة بيضاء اللون من نوع "Toros" -وهي سيارة معروفة في تركيا بقدم نوعها- واقفة أمام لوحة ترشدنا إلى طريق "ماردين"، وتعليقاً على تلك السيارة يقول الصحفي "جتينار جتين": "إن الأكراد في المنطقة لم يعودوا يرتعبون من هذه السيارة البيضاء، لاسيما أن كل من خرج من منزله واستقل تلك السيارة، لم يعد إليها مرة أخرى".

يحتفل أهل "ماردين" بعيد "النوروز" قبل قدومه بيوم واحد، وكما في "قونية" خرجت أيضاً إلى منصة الاحتفال، وتصافحت مع "أحمد تورك" الزعيم الأسبق لـ"حزب الشعوب الديمقراطي" وأعضاء الحزب. شاهدت الشباب في ساحة الاحتفال وقتها؛ كانوا إما يرقصون، وإما يصرخون بهتافات "القائد عبدالله أوجلان" أو يأخذون صور "سيلفي" المنتشرة في هذه الأيام، لم أشاهد أي توتر يطغى على أجواء الاحتفال. 

بعد موقفنا في "ماردين" أخذنا طريق مدينة "جيزرة"، مررنا بسلسلة "جبال كابر" و "جبل جودي"... كلما تذكرت الماضي، تذكرت المعارك التي دارت بين الجيش التركي وعناصر الـ "بي كي كي" في هذه الجبال الشاهقة.  لم يبقَ من منظر العمليات العسكرية للجيش ليومنا هذا سوى السكون، وأغنام يطوف بها راعيها بحثاً عن كلأ لهم.

استثمرنا قدومنا إلى "جيزرة" بزيارة قمنا بها إلى "دير غابرييل"، تقابلنا مع 4 نساء في الدير، قلن إنهن أتين من اسطنبول، وأنهن يقمن بجولة في المنطقة من دون أي حادثة تعكر لهن صفو رحلتهن، وقلن بالحرف الواحد "إن إحقاق السلام بالنسبة لنا هذا هو".

يذكر أن الحكومة التركية بعد طرحها لحزمة الإصلاحات، قامت بنقل إدارة الدير إلى أصحابها الآشوريين.
أخيراً وصلنا إلى مدينة "جيزرة"، حيث استقبلنا أهلها، ورحبوا بنا أحسن ترحيب. أتذكر أزقة هذه المدينة سابقاً؛ حيث الخنادق المحفورة للجيش، كانوا لا يخروجون من منازلهم إلا تحت رشقات الرصاص جراء المعارك بين الجيش ومنظمة الـ" بي كي كي". اليوم بعد تلك الحقبة المظلمة، نرى الخنادق قد ردمت، لكن ما زال بعضهم يترك خندق قلبه مفتوحاً لجراحات الماضي... 

في تسعينيات القرن الماضي كنا نشكل طاقماً في أنقرة وطاقماً في اسطنبول، وكنا نقسم فرق الأخبار في "ديار بكر" و"شرناق" و"جيزرة" و"يوكسك أوفا"؛ ذلك كان في عهد رئيسة الوزراء "تانسو جيللر"، وحينها أتانا خبر من فرقنا هناك أقلقنا كثيراً، قالوا: سقطت مدينتا "جيزرة" و"شرناق" بأيدي عناصر الـ "بي كي كي" و"جيزرة". 

وهنا أقول إن كان أحد سيتحدث عن مسيرة السلام في تركيا، فإن خير من يتحمل تلك المسؤولية هو "رجب طيب أردوغان"؛ لأنه هو الذي أسس قواعد السلام في تركيا، حيث قال في عام 2005 في ميدان "ديار بكر": "إن المسألة الكردية في بلادنا ليست مسؤولية ومشكلة الأكراد فقط، بل هي مسؤولية ومشكلة جميع أبناء الوطن، كما هي مسؤوليتي ومشكلتي أيضاً"، بهذه الكلمات بدأت عملية السلام في تركيا، ووصلت ها هنا حتى تركت منظمة الـ "بي كي كي" السلاح.

لا أنكر أن قادة قبل "أردوغان" تحدثوا عن القضية الكردية؛ في التسعينيات بعدما قالت رئيسة الوزراء "تانسو جيللر" من الممكن تطبيق "نموذج باسك"،  أتى إلينا خطاب الرئيس "سليمان دميريل"؛ حيث قال: " نحن على علم بواقع الأكراد". بعد هذه التصريحات، كثرت جرائم وجهت نحو مجهولين، وسادت عقلية حالة الطوارئ، وانقلبت المنطقة إلى جحيم، وأطلق قادة الجيش والقوات المسلحة في تلك الفترة معارك صغيرة ".

في تلك الحقبة أيضاً قال رئيس الوزراء الأسبق "مسعود يلماز": " طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يمر من مدينة "دياربكر" "، لكن الأقاويل وحدها لم تكن تكفي. "أردوغان" هو الوحيد الذي صرف كل طاقاته لهذه القضية، وقال: "أنا مستعد لتناول السم مقابل أن يحل السلام في بلدنا"، وأثرت تلك المقولة في نفوس الشعب، وكان لها تأثير كبير، كانت بداية مرحلة جديدة تحدى بها "أردوغان" الموت في سبيل إحقاق السلام في تركيا.

لم يكن إقناع أكراد تركيا كافياً لبدء مرحلة السلام، كان لزاماً على الحكومة إقناع الأتراك أيضاً أن الحكومة لن تتنازل عن أي شيء  لمنظمة الـ"بي كي كي". بطبيعة "أردوغان" وشخصيته الفذة استطاع إقناع الأتراك بمسيرة السلام، وضرورة بدئها؛ لإحقاق السلام في تركيا. 

شكلت الحكومة لجنة تتابع عملية السلام في تركيا، وفي هذه المرحلة انتقدت اللجنة كما انتقد رئيس الجمهورية "أردوغان" الذين نقضوا بعهودهم، وكانوا سبباً في عرقلة أو تعثر عملية السلام، وقال: "عندما نرى نقض العهود من البعض، لا نستطيع المسير في طريق مجهولة النهاية". ونبه وقتها "أردوغان" إلى هؤلاء الذين يحاولون عرقلة السلام في المنطقة، وأضاف أيضاً "في كل مرة يحاول المحسوبون على الأكراد التراجع، أو عرقلة العملية"، ولكن رغم كل ذلك، قال بنّاء عملية السلام "أردوغان": "عبر عملية السلام، وحتى آخر ذرة هواء ستدخل إلى رئتينا سنحاول تأسيس الأخوة بين الأتراك والأكراد". كان ذلك جواباً لكل  من قال إن "أردوغان" لا يملك المصداقية في أقواله.

في هذه الأثناء فإن التوتر الذي حصل جراء محادثات عملية السلام في تركيا ذهب بمجرد لقاء رئيس الوزراء "أحمد داود أوغلو" مع رئيس الجمهورية "أردوغان". وأكد كل من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية على أن النقاش الحاد والتوتر الذي حصل في تركيا كان جراء بدء محادثات عملية السلام، وقال الطرفان إن مثل هذه النقاشات غير البناءة من البعض، تضر بمسيرة عملية السلام والحكومة معاً. إنه من البديهيات أن نرى تباينات في الرأي بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، لكن المختلف هنا أن رئيس الوزراء "داود أوغلو" ورئيس الجمهورية "أردوغان" يتباحثان كل 24 ساعة، ويجتمعان عند كل مشكلة قبل أن تتفاقم وتتحول إلى أزمة. لكن هذا لا يعني أن تركيا لن تواجه أبداً أزمات في المستقبل، هي فقط علاقة جمعت "أردوغان" و"داود أوغلو"، وشكلت صمام أمان في تركيا، وأي احتكاك سلبي غير مرغوب به بين "أردوغان" ورئاسة الوزراء لن ينفع أحداً بشيء، وسيضر مكانة تركيا.

نحن لا نحب رئيس الجمهورية "أردوغان" من أجل موقعه في الدولة أو مكانته، نحن نحبه لأنه "رجب طيب أردوغان" بطبيعته الإنسانية، وكذلك القول لـ"أحمد داود أوغلو". نحن نؤمن أنه من خلال الانسجام بين "أردوغان" و"داود أوغلو" ستظفر تركيا بمزيد من النجاحات. ونقول للذين يودون حصول احتكاك سلبي بينهما، إن ذلك لن يضر الحكومة ورئاسة الوزراء فحسب، بل سيرجع ضرره إلى الشعب وكل مظلوم استنجد بتركيا، ولبت تركيا نداءه. ولا حق لأحد أن يتمنى مثل هذه الأمنيات...

لا أعلم إن كنتم تدرون، لقد بقي للانتخابات البرلمانية 75 يوماً فقط. وهنا أنصح الجميع... لا تقولوا إن الشعب سيذهب في 7 حزيران/يونيو المقبل إلى صناديق الاقتراع، وينتخب حزب "العدالة والتنمية" بغالبية عظمى، ويعطي له الحق بإنشاء حكومة وحده، وكما عودنا مواطنونا دائماً. 

عن صحيفة يني شفق التركية