إنها الميليشيات الشيعية والكردية وإيران وأمريكا والنظام السوري.. هذه الأطراف نفسها تماما هي التي دخلت في صراع دموي مع نظام صدام حسين القومي العلماني. تبدو «القبيلة السنية» بوجهها العلماني القومي كصدام حسين، أو وجهها الإسلامي الجهادي كالبغدادي، تعيش صراعا مزمنا مع محيطها الشيعي
الإيراني ومع الغرب.
وتبدو أحزاب القومية العربية، أو الاسلام السياسي، وكأنها تمظهر سياسي بنمط حداثي لمشروع القبيلة وشيخها، وإضافة إلى الحاضر، فإن الاختلاف بين هوية أبناء «القبيلة السنية» عن محيطهم المتصارع معهم يظهر جليا في نظرتهم للتاريخ، فبينما ينظرون لتاريخ الخلافات الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية على أنها مصدر إلهام وفخر، تنظر الشيعية السياسية وبعض الأقليات والعرقيات، ويشترك معهم الغرب، إلى تاريخ الخلافات الإسلامية نظرة تتراوح بين العدائية والقطيعة، أو قبوله على مضض، بعد النظر إليه على أنه تاريخ «أمة عربية» مجردة من عنصرها الإسلامي، لدرجة أن يعتبر قومي عربي علوي كزكي الأرسوزي، أن اعظم عصور العرب هو العصر الجاهلي قبل الإسلام، ويعتبر الأكراد القوميون أن صلاح الدين الأيوبي مسلم وليس كرديا. أما الشيعية السياسية فإنها تعتبر صلاح الدين الأيوبي وهارون الرشيد ومعاوية وأبا جعفر المنصور رموزا «للطغاة» بنت عليهم مظلوميتها. إنه اختلاف على نموذج الدولة والحكم ممتد من الماضي إلى الحاضر.. فكيف سيكون المستقبل؟
عام 2003 وبعد سقوط بغداد بأيام زرت تكريت، خلال عيد ميلاد صدام حسين، نهاية أبريل، كانت مجموعة من الاطفال وبعض العائلات قد تجمعوا أمام همرات القوات الأمريكية وأخذوا يهتفون لصدام حسين. الشيء نفسه شاهدته بالموصل، وثقت ذلك بالفيديو. اليوم وبعد 12 عاما أتلقى رسالة من أحد الشباب يقول «أنت لا تتذكرني، كنت في العاشرة من عمري عندما جئتنا عام 2003». ابتهجت بهذه الرسالة، فما أجمل شهود الذاكرة، أسأله: وما حالكم اليوم؟ يجيب: «كثيرا ما عرف عن أهل تكريت المنافسة مع سامراء، والبغدادي من سامراء، وكما كتبت أحزاب
الشيعة على جدران بغداد يوم دخول القوات الأمريكية «ألف أمريكي ولا تكريتي» أصبحنا نقول اليوم «ألف دولاوي داعشي ولا ميليشياوي شيعي». إن تكريت تمثل أحد أوجه رمزية «القبيلة السنية» في صراعها مع القوى الشيعية وإيران والغرب، فهي معقل للبغدادي زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومدينة صدام البعثي العلماني، ومسقط رأس الناصر صلاح الدين الأيوبي، كلهم زعماء من «القبيلة السنية»، وكلهم خاضوا صراعا دمويا مع القوى الشيعية وإيران، وكلهم أيضا خاضوا حروبا مع الغرب بوجهه العلماني الأمريكي اليوم، أو المسيحي أيام الحملات الصليبية.
في
العراق يبدو الحاضر وكأنه لا يختلف عن الماضي.. يذهب صدام ويأتي البغداي وسيذهب البغدادي يوما ويظل النزاع نفسه، هو ممتد من مقتلة كربلاء حتى العباسيين وصولا ليومنا هذا.. ولهذا ربما نجد أن أكثر الكلمات شيوعا في قاموس الأحزاب الشيعية وإيران هي «الصداميون والتكفيريون» فهم ينعتون كل حالة سنية قوية تحاول التصدي لهم بأنهم صداميون بعثيون أو تكفيريون. والمفارقة أن إيران والميليشيات الشيعية قاتلت لسنوات نظام صدام البعثي بنخبته السنية، وهي الآن تقاتل دفاعا عن نظام الأسد البعثي بنخبته العلوية، حتى معظم قيادات الميليشيات الشيعية والجيش الحكومي كانوا من البعثيين والضباط في الجيش العراقي السابق، ولكنهم شيعة، تماما كالضباط
السنة البعثيين الذين انتمى كثير منهم للجماعات المسلحة الإسلامية و"القاعدة"، لقد انهار حكم البعث فعاد كل لقبيلته.
وقد أمكن لي ملاحظة احتفاظ حتى البعثيين بتأثير هوياتهم الفرعية من الأسبوع الأول لسقوط بغداد، عندما بحثت عن الدكتور المرحوم المفكر إلياس فرح عضو القيادة القومية فوجدته مختبئا في كنيسة خوفا من الميليشيات الشيعية، التي أخذت تبحث عن البعثيين لقتلهم، ولم يحظ بحماية أي مقر أو فرقة حزبية بعثية، بينما لم يستطع عزت إبراهيم رفيقه في الحزب الحفاظ على نفسه إلا بالاختباء في تكية نقشبندية بحماية أنصاره الصوفية. إن الانتماءات الكامنة والهوية العميقة، البدائية من روابط قبلية أو عقائدية دينية، هي التي ما زالت تؤثر في توجيه الناس والجماعات بعد ألف عام، وما زالت تشكل دافعا أساسيا للصراع، مهما اختلفت الواجهات الحداثية والأقنعة التي تسقط في أول اختبار. واجهات كالتيار القومي واليساري مثلت محاولات عظيمة للتوفيق والتعايش في المشرق العربي بين السنة والأقليات، لكنها فشلت لأنها حاولت إخفاء وإنكار اختلافات كان من الأجدر التوقف عندها ومواجهتها وحلها بدلا من الهروب منها بمحاولات توفيق تنهار في أول اختبار، لترجع مجتمعاتنا لعقلية الغاب، بعد أن تمظهرت بالحداثة.
فاليوم بدا واضحا أن السنة ومعظم الشيعة وأبناء الاقليات الذين انتموا للأحزاب القومية واليسارية جميعهم ارتدوا إلى هوياتهم الأصيلة العميقة، فالقومي العلماني السني عاد ليتماهى مع مظلومية قبيلته بشيخها الجديد، واليساري الشيعي والمسيحي العربي بات حليفا للخميني والإسلام الفارسي، وحتى إن لم يحالفه فهو يشترك معه وجدانيا بحساسية مفرطة وعداء جامح للإسلاميين السنة، تجمعهم ذاكرة نزاع أزلي لأكثر من ألف عام مع السلطة الإسلامية السنية.
إن أكبر صراعات العالم القديم، ما زالت تحركها نزعات بدائية دينية، وهويات كامنة، من إسرائيل التي يدعمها الغرب، وهي مثال واضح على شعب تجمعه روابط الانتماءات الدينية الكامنة التي حافظ عليها ليشكل بعد مئات السنين دولته المعتمدة على أساطير اليهودية.. أما باكستان والهند فقد باتت الهندوســية والإسلام يمثلان لهما عقائد مرتبطة بنشوئهم وكيانهم القومي أكثر منها أديانا.
في مناطق الصراعات تنطبق تلك المقاربة غالبا، العرب السنة في فلسطين، وعلى مدى نزاعهم مع إسرائيل، ظلوا يوصفون بالإرهابيين العرب، سواء كان وجه الفلسطينيين العرب السياسي علمانيا أم يساريا كياسر عرفات وجورج حبش، أو كان وجها إسلاميا كحماس، فالصراع مع إسرائيل يجعلهم بنظر الإسرائيليين اليهود شيئا واحدا: عربا مسلمين إرهابيين. والصومال المسلمة تعيش صراعا مزمنا مع إثيوبيا بسلطتها المسيحية، سواء كان وجه الصومالي السياسي يساريا ملحدا كسياد بري أم إسلاميا من المحاكم الإسلامية.. وهو التفسير الذي توصلت إليه بعد ثلاث زيارات للصومال في ثلاثة عهود، فكنت ألحظ تمسك السكان بالإسلام، في المدارس الصوفية وجدت الأطفال يحفظون القرآن حتى من غير أن يفهموا العربية.. الإسلام بالنسبة للصوماليين مقترن بهويتهم القومية التي تميزهم عن محيطهم الإثيوبي المسيحي النزعة.
والأمر ينطبق داخل العرب السنة أحيانا، ففي ليبيا، هناك صراع بين قبائل على السلطة والنفوذ، مثلا الصراع بين مصراته وبني وليد يتمظهر كل فترة بشكل سياسي معين، مرة قبليا أيام الاستعمار الإيطالي، ومرة بالثورة الليبية التي كانت فيها مصراته إلى جانب الثورة وبني وليد ضدها، ويذهب القذافي ويعود الصراع نفسه برايات مختلفة، ولم أستغرب أن أرى بعض قبائل بني وليد وحلفائهم في سرت ينضمون لتنظيم الدولة الإسلامية تمايزا ربما عن مصراته ذات التوجه الإخواني.
إن تجاوز تأثير الانتماءات الفرعية والاتفاق على هوية جامعة، تؤمن بالتعايش على قواسم إنسانية مشتركة هو تحد فشلنا به للآن، خصوصا بالمشرق العربي، بلا شك أنها مسألة مهمة لإنهاء النزاعات، وإرساء السلم، ولكن أيضا التخلي عن هذه الروابط والعصب زمن الصراعات في عالم قديم قائم على روابط العصب يعني أمرين لا ثالث لهما.. إما الفناء والإبادة، وإما البقاء ضعيفا تابعا لمشروع خصمك ممن حافظ على العصبة والرابطة في وقت تخليت أنت عنها.
إن «القبيلة السنية» وإن أحبت الظهور دائما بأنها «الأمة» تعيش تحديا داهما، فهي فقدت قيادة الأمة وفي طريقها للتلاشي إذا فقدت العصبة الرابطة بين أبنائها من أجل التماهي مع الحداثة، وفي سبيل التمظهر بالتعايش والتوافق مع مكونات محيطها التي احتفظت بروابطها وعصبياتها العتيقة التي تمنحها القوة والحماية، سواء كانت مذهبية كالشيعة وطوائف الأقليات أم عرقية كالأكراد.
الإسلام كان عاملا وحيدا في تحقيق النهضة القومية والوحدة للقبائل العربية لأكثر من أربعة عشر قرنا، وتحقيق أول كيان سياسي جامع لهم، وهو يعود اليوم ليشكل بتياره المعتدل الإخواني وتياره المقاتل الجهادي معبرا وحيدا عنهم في السلم والحرب.