سياسة عربية

الأسس النظرية لعالم متعدد الأقطاب عبر تفكيك الهيمنة الغربية.. قراءة في كتاب

لا يتطابق العالم متعدد الأقطاب مع النظام العالمي متعدد الأطراف، لأنه لا يتفق مع عالمية قيم الغرب..
الكتاب: "نظرية عالم متعدد الأقطاب"
الكاتب: ألكسندر دوغين
ترجمة: د. ثائر زين الدين، د. فريد حاتم الشحف
الناشر: دار سؤال للنشر والتوزيع، واستفهام للنشر والتوزيع، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 2023
(571 صفحة من القطع الكبير)

المفهوم الأمريكي لعالم متعدد الأطراف


ينتقد الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين المفهوم الأمريكي لعالم متعدد الأطراف(تعددية الأطراف) ،بوصفه نموذجًا آخر للنظام العالمي، ينأى بنفسه إلى حد ما عن الهيمنة الأمريكية المباشرة . هذا المفهوم شائع جداً في الولايات المتحدة في الحزب الديمقراطي، وهذا هو المفهوم الذي يلتزم رسمياً في السياسة الخارجية من قبل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما يتناقض هذا النهج في سياق مناقشات السياسة الخارجية الأمريكية، مع أحادية القطب التي ينادي بها المحافظون الجدد.

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين :"إن تعددية الأطراف (multilateralism) تعني في الممارسة، أنَّ الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتصرف في مجال العلاقات الدولية بالاعتماد كلياً على قواها الخاصة ووضع جميع حلفائها والتابعين بطريقة منظمة أمام الأمر الواقع. يجب على واشنطن بدلاً من ذلك، أن تأخذ في الحسبان مواقف شركائها، وتقنعهم بقراراتها، وتبرِّرَها بالحوار معهم، وتجذبهم إلى جانبها بمساعدة الحجج العقلانية، وفي بعض الأحيان، بالمقترحات الوسطية. يجب أن تكون الولايات المتحدة في مثل هذه الحالة الأولى بين أنداد، وليس ديكتاتوراً بين المرؤوسين. وهذا يفرض على سياسة الولايات المتحدة الخارجية التزامات معينة تجاه الحلفاء في السياسة العالمية، ويتطلب الخضوع لاستراتيجية مشتركة. هذه الاستراتيجية العامة في هذه الحالة، هي استراتيجية الغرب، لإرساء الديمقراطية العالمية واقتصاد السوق، وتنفيذ أيديولوجية حقوق الإنسان على النطاق الكوكبي. ولكن يجب على الولايات المتحدة، في هذه العملية، باعتبارها الرائد، ألا تربط مصالحها الوطنية بشكل مباشر بالقيم العالمية للحضارة الغربية، وتعمل بالنيابة عنها. يُفضل العمل في تحالف في بعض الحالات وأحياناً تقديم تنازلات للشركاء.

تختلف تعددية الأطراف عن الأحادية القطبية من حيث التركيز هنا على الغرب ككل، وبخاصة على عنصر قيمته (أي معياره). يقترب بذلك المدافعون عن نهج تعدد الأطراف، عن أولئك الذين يقفون مع عالم غير قطبي. يكمن الاختلاف بين التعددية وغير القطبية، في حقيقة أن التعددية تركز على التنسيق بين الدول الغربية الديمقراطية فيما بينها فحسب، بينما تشمل اللاقطبية المؤسسات غير الحكومية كجهات فاعلة - المنظمات غير الحكومية والشبكات والحركات الاجتماعية، إلخ (ص 39 ـ 40).

من الواضح، أنَّ تعددية الأطراف لا تختلف في الممارسة العملية لسياسة أوباما، والتي كرَّرها مراراً وتكراراً هو نفسه ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، كثيراً عن الإمبريالية المباشرة والشفافة في عهد جورج دبليو بوش التي كان يسيطر عليها المحافظون الجدد حيث استمرت التدخلات العسكرية الأمريكية (ليبيا)، وحافظت القوات الأمريكية على وجودها في أفغانستان والعراق المحتلتين.

لا يتطابق العالم متعدد الأقطاب مع النظام العالمي متعدد الأطراف، لأنه لا يتفق مع عالمية قيم الغرب، ولا يعترف بأهلية دول الشمال الغني ـ سواء بمفردها أو بشكل جماعي ـ للعمل نيابة عن البشرية جمعاء، والتصرف؛ وإن كان مركباً وجماعياً، كمركز صنع القرار الوحيد في المسائل الرئيسية وشديدة الأهمية.

خاتمة هذا البحث

إنَّ تقييد معنى مفهوم عالم متعدد الأقطاب بسلسلة من المصطلحات المتجاورة أو البديلة، يحدد المجال الدلالي، الذي سيتعين على المحلل العقلاني فيه بناء نظرية التعددية القطبية لاحقاً. إذْ يمثل العالم متعدد الأقطاب، بديلاً جذرياً للعالم أحادي القطب (الموجود بالفعل في الوضع الحالي)، من حيث إنه يصرّ على وجود مراكز عدة مستقلة وذات سيادة، لاتخاذ قرارات استراتيجية عالمية على مستوى الكوكب.

يجب أن تكون هذه المراكز مجهزة بشكل كافٍ، ومستقلة مالياً لتكون قادرة على الدفاع عن سيادتها على المستوى المادي في مواجهة غزو مباشر من قبل عدو محتمل، ويجب اعتبار نموذجها هو الأقوى حتى الآن يتلخص هذا المطلب في القدرة على مقاومة الهيمنة المادية والعسكرية والاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو.

مراكز صنع القرار هذه، غير ملزمة بعالمية المعايير، والقيم الغربية، باعتبارها شرطاً لا غنى عنه (الديمقراطية، الليبرالية، الأسواق الحرة، البرلمانية، حقوق الإنسان، الفردية، العالمية، إلخ) ويمكن أن تكون مستقلة تماماً عن الهيمنة الروحية للغرب.

لا يطرح ألكسندر دومغين ولا يفترض العالم متعدد الأقطاب كعودة إلى النظام ثنائي القطب، فلا توجد اليوم، لا استراتيجياً ولا أيديولوجياً، أي قوة واحدة يمكنها بمفردها مقاومة الهيمنة المادية والروحية للغرب الحديث ورائدته الولايات المتحدة، يجب أن يكون هناك أكثر من قطبين في العالم متعدد الأقطاب.

لا يمكن اختزال التعددية القطبية إلى لا قطبية أو تعددية الأطراف، لأنها لا تضع مركز صنع القرار (القطب) لا في الحكومة العالمية، ولا في نادي الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين (الغرب العالمي)، ولا على مستوى الشبكات والمنظمات غير الحكومية، وغيرها من منظمات المجتمع المدني. فالقطب يجب أن يوطن في مكان آخر أيضاً.
إنَّ العالم متعدد الأقطاب حسب تنظير ألكسندرى دوغين لا ينظر بجدية إلى سيادة الدول القومية القائمة، طالما أُعلن عنها على مستوى قانوني بحت، ولم يؤكد ذلك من خلال وجود إمكانات عسكرية، واستراتيجية، واقتصادية وسياسية كافية لكي تكون دولة ذات سيادة في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الدولة القومية كافية. إن مجموعة فحسب، وتحالف عدد من الدول، يمكن أن يُحقق سيادة حقيقية في ظل هذه الظروف. ولم يعد النظام الوستفالي، الذي لا يزال موجوداً بحكم القانون، يعكس حقائق نظام العلاقات الدولية ويتطلب مراجعة.

لا يمكن اختزال التعددية القطبية إلى لا قطبية أو تعددية الأطراف، لأنها لا تضع مركز صنع القرار (القطب) لا في الحكومة العالمية، ولا في نادي الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين (الغرب العالمي)، ولا على مستوى الشبكات والمنظمات غير الحكومية، وغيرها من منظمات المجتمع المدني. فالقطب يجب أن يوطن في مكان آخر أيضاً.

تحدد هذه النقاط الست الطريق إلى مزيد من التطورات؛ وتجسد بشكل مركز السمات الرئيسية لتعدد الأقطاب. ومع ذلك، فإن هذا الوصف، على الرغم من أنه يقدم لنا بشكل كبير تقدماً في فهم جوهر تعددية الأقطاب، إلا أنه غير كاف بعد للادعاء بوجود نظرية. هذا هو الاستنتاج الأولي الذي بدأ منه التنظير الكامل للتو.

بلورة الأسس النظرية لعالم متعدد الأقطاب عبر تفكيك الهيمنة الغربية

ينطلق الفيلسوف الروسي ألكسندر في سياق بلورته للأسس النظرية لعالم متعدد الأقطاب من خلال تقديم عرض تاريخي وفلسفي عميق لنظام العلاقات الدولية نفسه،ونقده في الوقت للمركزية العرقية التي تميز الثقافة والعلم والسياسة في أوروبا الغربية، وتفكيك إرادة القوة وهيمنة الغرب (في الفترة الأخيرة من التاريخ - الولايات المتحدة) كمحتوى رئيسي لكل الخطاب النظري في هذا المجال.

يوضح ممثلو النظرية النقدية وما بعد الحداثة في العلاقات الدولية، ومؤيدو النهج التاريخي الاجتماعي والمعياري، إلى حد ما، أن جميع نظريات العلاقات الدولية الحديثة مبنية على خطاب الهيمنة خطاب الهيمنة هذا، هو سمة مميزة لحضارة أوروبا الغربية، ومتجذرة في المفهوم اليوناني الروماني لبنية المسكونية، التي في قلبها جوهر "الحضارة" و"الثقافة"، وعلى الأطراف ـ مناطق من "البربرية" و"الوحشية". كانت هذه الفكرة أيضا من سمات الإمبراطوريات الأخرى الحضارات الفارسية، والمصرية، والبابلية والصينية، والهندية، التي عدت نفسها دائماً "مركز العالم"، و"المملكة الوسطى".

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين: "إنَّ تحديد الهيمنة الغربية كأساس للخطاب الغربي، ووضع هذا الخطاب في سياق تاريخي وجغرافي محدد، هو الخطوة الأساسية الأولى في بناء نظرية عالم متعدد الأقطاب. لن تصبح التعددية القطبية حقيقية، إلا إذا تمكنت من تفكيك الهيمنة ودحض مزاعم الغرب بعالمية قيمه وأنظمته وأساليبه وأسسه الفلسفية. إذا لم يكن بالإمكان الإطاحة بالهيمنة، فإنَّ أي نماذج متعددة الأقطاب ستكون مجرد مجموعة أو مجموعة أخرى من النظريات المتمركزة حول الغرب وأولئك الذين ينتمون إلى الثقافة الفكرية الغربية، ويسعون إلى تجاوز الهيمنة وخلق خطاب مضاد للهيمنة (على سبيل المثال، ر. كوكس)، يظلون محكومون ضمن هذه الهيمنة، حيث إنَّهم يبنون نقدهم على فرضيات مثل "الديمقراطية"، و"الحرِّية"، و"المساواة"، و"العدالة"، و"حقوق الإنسان"، وما إلى ذلك، والتي بدورها، هي مجموعة من وجهات النظر العالمية الغربية.

وتكمن النزعة العرقية في أساسها. إنَّهم يرسمون الطريق الصحيح لكنَّهم أنفسهم غير قادرين على اتباعه حتى النهاية. إنَّهم يفهمون تصنع وزيف ادعاءات حضارتهم بالعالمية، لكنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى البني الحضارية البديلة. لذلك، يجب إنشاء نظرية مكافحة الهيمنة خارج المجال الغربي للأفكار، في المنطقة الوسيطة بين نواة المنظومات العالمية (حسب مصطلحات ي. والرستاين) و "المحيط" (حيث، وفق الظروف الثقافية، فهم الهيمنة الغربية بعيد الاحتمال لدرجة إمكانية إهمالها). والعالم الثاني، بدوره، وعلى وجه التحديد بسبب مشاركته في حوار مستمر ومكثف مع الغرب، من ناحية، يمكن أن يدرك طبيعة الهيمنة وبنيتها، ومن ناحية أخرى لديه في أصوله أنظمة بديلة للقيم الثقافية والمعايير الحضارية الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها في رفض هذه الهيمنة. بعبارة أخرى، الهيمنة المضادة في الفضاء الفكري للغرب نفسه مجبرة دائماً على أن تظل مجردة، بينما في منطقة العالم الثاني يمكن أن تصبح محددة.

تتمثل الخطوة الأولى في تركيز الانتباه على إرادة الغرب للسلطة كحضارة"(ص97).

إنَّ تحديد الهيمنة الغربية كأساس للخطاب الغربي، ووضع هذا الخطاب في سياق تاريخي وجغرافي محدد، هو الخطوة الأساسية الأولى في بناء نظرية عالم متعدد الأقطاب. لن تصبح التعددية القطبية حقيقية، إلا إذا تمكنت من تفكيك الهيمنة ودحض مزاعم الغرب بعالمية قيمه وأنظمته وأساليبه وأسسه الفلسفية.
يدعي الغرب اليوم شمولية نظام قيمه وكماله، ويتظاهر بأنه موضوع عالمي. وبناءً على هذا النظام، يسعى إلى إعادة تنظيم العالم بأسره، ناشراً فيه تلك الإجراءات، والمعايير، والقواعد التي طورت في هذا الغرب نفسه في القرون الأخيرة. وكما رأينا، فإن تطابق الثقافة المحلية مع الثقافة العالمية، وتحديد مجموعة محدودة مع البشرية جمعاء (أو على الأقل مع جزء مختار من الإنسانية، النخبة القادرة على التصرف نيابة عنها) هو سمة متأصلة في أي مجتمع، إمبراطوري وقديم. لذلك، فإن مطالبة الحضارة الغربية بالعالمية لا تنطوي على أي شيء فريد وخارج عن المألوف. المركزية العرقية، وتقسيم العالم كله إلى مجموعة نحن (عادة ما نكون "الأفضل، المعياري، النموذجي") ومجموعة هم (عموماً "الأسوأ، العدائي، المهدّد") يُعدُّ ثابتاً اجتماعياً. وفي الوقت نفسه، فإن تعسف ونسبية هذا الموقف الواضحين لا ينعكسان أو ينعكسان بشكل غير كافٍ حتى من قبل المجتمعات الأكثر تطوراً وتعقيداً، وتظهر في مسائل أخرى مرونة في الحكم ومهارات الإدراك. إن إرادة القوة تحرّك المجتمعات، لكنها تتجنب بحذر إلقاء نظرة مباشرة على نفسها. إنها تسعى إلى الاختباء وراء "الوضوح" أو نظام الحجج المعقد.

ينبغي البدء في بناء نظرية عالم متعدد الأقطاب، من خلال الاعتراف بالغرب على أنه نواة الهيمنة، وتثبيت ذلك في بدهيات واضحة لا لبس فيها. بمجرد أن نحاول القيام بذلك، نواجه على الفور اعتراضاً شديداً من المثقفين الغربيين أنفسهم. سيقولون إن هذا اللوم مبرر تماماً فيما يتعلق بالماضي الأوروبي. لكن في الوقت الحاضر، تخلت الثقافة الغربية نفسها عن الممارسات الاستعمارية والنظريات الأوروبية، واعتمدت معايير الديمقراطية والتعددية الثقافية. وللاعتراض على هذا، يمكن للمرء أن يأخذ موقف الوقوف مع وجهة نظر الماركسية ويثبت أن الغرب في العصر البورجوازي ربط مصيره برأس المال، وأصبح منطقة تثبيته جغرافياً. وهدف رأس المال هو الهيمنة على البروليتاريا، وبالتالي تختبئ تحت قناع "الديمقراطية" و"المساواة" في ظل الرأسمالية، إرادة القوة نفسها وممارسات الاستغلال والعنف. هذا هو موقف ممثلي النظرية النقدية، وهم على حق في هذا تماماً. ولكن حتى لا نكون مرتبطين بالماركسية وبمعتقداتها المثقلة بالأعباء، وكثير منها بعيد كل البعد عن الوضوح وغير المقبول، من الضروري توسيع الأساس النظري لفضح الهيمنة وتحويلها من اقتصاد اجتماعي إلى سياق ثقافي حضاري أكثر عمومية.

و"الثقافة" إحداهما عن الأخرى، حيث تفهم الثقافة على أنها مجتمع روحي وفكري، و"الحضارة" هي تثبيت للبنى والمنشآت التكنولوجية والعقلانية. وفقاً لشبينغلر، الحضارة هي ثقافة بَرَدت وهدأت، ثقافة فقدت قوتها الداخلية وإرادتها على التطور والازدهار، وانحدرت إلى بنى وأشكال ميكانيكية منفردة. ومع ذلك، لم يُقبل هذا التقسيم بشكل عام، وفي معظم الأعمال (على سبيل المثال، عند أ. توينبي، إن مفهومي "الحضارة" و"الثقافة" مترادفان عملياً. ومن المهم عندنا أن س. هنتنغتون يستوعب مفهوم "الحضارة" عملياً تماماً كما يستوعب مفهوم "الثقافة"، وبالتالي فليس من قبيل المصادفة أنه عند وصف الحضارات وإدراجها في قائمة، يشير بشكل أساسي إلى الأديان أو الأنظمة الدينية.

يصادف هذا المفهوم لأول مرة في المجال النظري للعلاقات الدولية، والآن فقط أصبح لاعباً محتملاً في السياسة العالمية. ووفقاً لتصنيف بوزان ـ ليتل.

في النظام الكلاسيكي أو القديم للمنظومة العالمية (المجتمع التقليدي، ما قبل الحداثة)، تظهر الدول والإمبراطوريات التقليدية.

في النظام العالمي العلاقات الدولية في العصر الحديث) ـ ثمة الدول القومية ذات النموذج البرجوازي.

في النظام الأخير: ما بعد الحداثة ـ إلى جانب الدول، نجد مجتمعات الشبكات العابرة للقارات، والمجموعات غير المتكافئة، ومجموعات أخرى.

ليست الحضارات في أي من الأنظمة السابقة، لاعباً أو مؤثراً فاعلاً. تظهر الحضارة كمفهوم في العلوم التاريخية، وعلم الاجتماع، والدراسات الثقافية. ولكن يُطرح هذا المفهوم في العلاقات الدولية، لأول مرة.

إن منطق هنتنغتون، الذي طرح فرضية الحضارة في العلاقات الدولية، واضح تماماً. نهاية العالم الثنائي القطب، والمواجهة بين المعسكرين الأيديولوجيين، الرأسمالي والاشتراكي، تنتهي بانتصار الرأسمالية وتصفية الاتحاد السوفييتي. ولم يعد من الآن فصاعداً، لدى الغرب الرأسمالي خصم رسمي قادر على إثبات موقفه على مستوى عقلاني ومفهوم، وتقديم سيناريو بديل مماثل للنظام العالمي، وإثبات قدرته التنافسية في الممارسة. يستخلص فوكوياما من هنا، استنتاجاً متسرعاً بأن الغرب أصبح الآن ظاهرة عالمية، وأن جميع دول العالم وجميع المجتمعات قد تحولت إلى مجال واحد متجانس، يعيد عموماً إنتاج الديمقراطية البرلمانية، واقتصاد السوق، وأيديولوجية حقوق الإنسان، مع انحرافات طفيفة. لذلك، يعتقد فوكوياما أن زمن الدول القومية قد ولى، والعالم على وشك الاندماج الكامل والنهائي. وتتحول الإنسانية إلى مجتمع مدني عالمي أمام أعيننا، والسياسة تفسح المجال للاقتصاد، والحرب تستبدل تماماً بالتجارة، والأيديولوجية الليبرالية تُصبح معياراً معترفاً به عالمياً بدون بدائل، وتختلط جميع الشعوب والثقافات وتنصهر في بوتقة مجتمع أممي واحدة.

اتبع فوكوياما قواعد التحليل الدقيق في هذه الحالة. إنه يميز عن حق السمات الرئيسية والأكثر وضوحاً للأحداث الجارية. في الواقع، نهاية الاشتراكية تزيل من الساحة التاريخية، الخصم الأيديولوجي الأكثر جدية وإثارة، للديمقراطية الليبرالية، مما يجعلها "عالمية". ما من أيديولوجية أخرى في هذه اللحظة من التاريخ لديها ما يكفي من الانتشار، والجاذبية، والمصداقية، بحيث تنافس الليبرالية بجدية.

تقبل دول العالم جميعاً تقريباً بحكم الأمر الواقع، وبحكم القانون، معايير الحضارة الغربية. إن المجتمعات التي تتجاهل معايير الديمقراطية واقتصاد السوق وحرية الصحافة قليلة ومتباعدة، وهي في حالة انتقال إلى النموذج الغربي. هذا سبب كاف للإعلان عن نهاية التاريخ، التي إن لم تأتِ فهي على وشك الحدوث. وقد توصل إلى استنتاج مماثل الواقعيون الجدد الذين يبررون علانية هيمنة الولايات المتحدة (ر. جيلبين سي كراو ثامر)، والليبراليون الجدد (الذين رحبوا بحماس بانتصار الديمقراطية في بلدان الكتلة الشرقية)، وبعض ما بعد الحداثيين (الذين رأوا آفاقاً جديدة للحرية الفردية في العولمة).

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين :"يقارن هنتنغتون ذلك بالتحليل الكثيف (thick)، الذي يولي مزيداً من الاهتمام للتفاصيل والجوانب النوعية للعمليات التي حللت، ويسعى إلى فهم أفضل للبعد العميق لتحولات عالم ما بعد القطبين المدروسة. وقد توصل إلى استنتاج مفاده أن التحديث والدمقرطة، وكذلك معايير ليبرالية السوق، أثرت على المجتمعات الغربية فحسب، بينما تبنت جميع الدول الأخرى قواعد اللعبة هذه تحت ضغط الضرورة، ولم تدخلها في أعماق ثقافاتها. مستعيرة بشكل عملي لحظات انتقائية معينة فحسب تطبيقية وتكنولوجية من الحضارات الغربية. وهكذا، يتحدث هنتنغتون عن ظاهرة التحديث بدون التغريب الشائعة في البلدان غير الغربية، عندما يستعير ممثلو المجتمعات غير الغربية تقنيات غربية معينة، لكنهم يسعون إلى تكييفها مع الظروف المحلية وغالباً ما يوجهونها ضد الغرب نفسه. وبالتالي، فإن دمقرطة وتحديث المجتمعات غير الغربية، في ضوء التحليل الكثيف، تصبح ملتبسة ونسبية، وبالتالي، لا تضمن بأي حال النتائج التي ينبغي توقعها دون مراعاة الخلفية الداخلية لهذه العمليات. كلما وسع الغرب حدوده لتشمل الآخرين جميعاً (the Rest، المجتمعات غير الغربية)، تعمق هذا الالتباس وازدادت الفجوة بين الغرب والمناطق غير الغربية، التي تتلقى تقنيات جديدة وتزيد من إمكاناتها، بينما تحافظ في الوقت نفسه على العلاقات مع البنى التقليدية لمجتمعاتها. هذا هو الظرف الذي يقود إلى مفهوم "الحضارة" كمفهوم علمي للعلاقات الدولية (ص 111).

الحضارات في بنية العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين - هي مناطق مكانية شاسعة، تزداد قوتها وإمكاناتها الفكرية، تحت تأثير التحديث والاعتماد على التقنيات الغربية، ولكن بدلاً من القبول الكامل لنظام القيم الغربي، تحتفظ بروابط عضوية وقوية مع ثقافاتها ودياناتها ومجمعاتها الاجتماعية التقليدية، وأحياناً تدخل في صراع حاد مع الغرب أو حتى تقف على النقيض. لم يؤد انهيار المعسكر الاشتراكي إلا إلى تحفيز هذه العمليات وفضح هذه الحالة. وبدلاً من تعارض أو تناقض متناظر بين الشرق والغرب، يظهر مجال توتر بين عدة حضارات. هذه الحضارات، التي تفصلها اليوم في أغلب الأحيان الحدود الوطنية، سيزداد وعيها في سياق العولمة والتكامل بقواسمها المشتركة وتعمل في نظام العلاقات الدولية، مسترشدة بالقيم والمصالح المشتركة الناشئة عن هذه القواسم. نتيجة لتطور هذه العمليات وفي حالة "التحديث بدون التغريب"، نحصل على صورة جديدة بشكل أساسي لميزان القوى على نطاق عالمي. هذا هو العالم متعدد الأقطاب.

اقرأ أيضا: العالم ينتقل من القطبية الأحادية إلى التعددية القطبية.. قراءة في كتاب

اقرأ أيضا: نظام التعددية القطبية ليس نظام الثنائية القطبية.. قراءة في كتاب