كتب

من جمر إلى جمر.. قراءة في مسيرة الكاتب الفلسطيني منير شفيق

يعطي كتاب "من جمر إلى جمر"، شريطاً كاملاً أو شبه كامل عن حياة صاحبها وتجاربه، فقد أبرز مثابرته وطول نفسه، وتفاؤله، وتركيزه على المبدأ الأخلاقي، والمسلك الثوري الصحيح.
العنوان لأي كتاب يشبه الاسم لأي كائن، ولكن العنوان بالنسبة للكتاب يكون أكثـر دقـة وموضوعية وخصوصية، فـ"عنـوان المذكرات يمثل تحدياً واضحاً وصعباً أمام كل من يكتب مذكراته، كذلك يعكس العنـوان الـذي يستقر عليه المؤلف كثيراً من ملامح فكره وتفكيره، وإن كثيراً من العناوين تتميز بقدرة رائعـة على إعطاء الإيحاءات".

عليه، فإن عنوان الكتاب يجب أن يعطي دلالات واضحة عن مضمونه، وبالنظر لعنوان مذكرات المفكر العربي منير شفيق، "من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق"، تدوين وتحرير الإعلامي والأديب الراحل نافذ أبو حسنة، الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربيّة" (ط3، 2023).

نجد أن العنوان يوحي بـ "النَّارُ الْمُتَّقِدَةُ"، ويبدو أن صاحب المذكرات أراد أن يؤكد لنا بأن التحوّلات الفكريّة التي مرّ بها خلال حياته النضاليّة والفكريّة؛ من الماركسيّة إلى القوميّة، والتأثر بالماوية، وصولاً للإسلام، "لم تكن لأسباب انتهازية أو لأسباب نفعية"، ولا كان مضطرًا لها. وفي كل الأحوال، "كانت كل التغيّرات التي حدثت، انتقالًا من الإمساك بجمر إلى الإمساك بجمر أشدّ تلهّبًا. فعندما كان الشيوعي يُعذَّب ويُضطهد ويُحكم بالسجن أعوامًا طويلة كنت أنا شيوعيًا، وعندما أصبح الشيوعيون يساومون الحكومات، وما عادوا يُسجنون، وبردت جمرتهم الأولى وأصبح الاتحاد السوفييتي ذا أنياب ونفوذ عالمي، كنت أنا في طريق خروجي من الشيوعية، وانتقالي ـ كماركسي ـ إلى الناصرية، وأنا في السجن عام 1961، بعد الانفصال، أصبح القومي والوحدوي تحت الحصار ومرمى كل رامٍ عربياً وإقليمياً ودولياً. ثم انضممت لـ "فتح" بعد عام 1967 التي كانت تعتبر إرهابًا، والمنتسبون إليها عرضة للقتل والسجن. ولما أرادت "فتح" الذهاب إلى التسوية، وأن تصير مقبولة من النظام الدولي، وصار هناك من يبحث عن البحبوحة في العيش، ولا سيما بعد اتفاق أوسلو والتحوّل إلى سلطة، تركتهم وذهبت إلى "الغلابى" الذين استمروا في المقاومة والجهاد، حيث التضحية والإمساك بالجمر من جديد. وحيث تهمة الإرهاب" (ص 426).

إذن تكمن دوافع صاحب المذكرات في تقديم رؤية وتجربة نضالية وفكرية يسارية وقومية وعربية وفلسطينية وإسلامية طوال المراحل الممتدة نحو سبعين عاماً من نكبة فلسطين 1948 حتى 2020. التي لا يمكن فهمها إلاّ بالاطلاع على كل مؤلفات صاحب المذكرات المطبوعة والمنشورة، إضافة إلى خطبه ومحاضراته ومقالاته وأبحاثه في الصحف والمجلات.

هذه الرؤية النضالية والفكرية للمفكر العربي منير شفيق، تتلخص في أربع مبادئ:

1 ـ التمسك التام بتحرير فلسطين التاريخية بكامل ترابها، ورفض الاعتراف بأي شرعية للاحتلال على أي جزء منها، أرضاً ومقدسات.

2 ـ مناهضة المشروع الإمبريالي الأمريكي.

3 ـ خط الجماهير، الذي يرنو إلى الانغماس في صفوف الشعب.

4 ـ ربط المشروع في فلسطين بمشروع تغير عربي جذري ووحدي وهو شرط تحرير كل فلسطين. ولكن من دون أن يتدخل الفلسطينيون بالصراعات والخلافات والمحاور العربية لأن عليهم أن يركزوا كل الجهود على المشروع في فلسطين والا كما، ثبتت التجربة سيضيعون في الخضم العربي الذي لا قبل لهم عليه أو الدخول فيه. وقد لحقت ويلات بالفلسطينيين في أكثر من بلد عربي بسبب الانجرار إلى التدخل خارج فلسطين.

 البدايات

وُلِدَ منير في فبراير/ شباط من عام 1936، في حي النّمامرة بالبقعة التّحتا في مدينة القدس، وهو أحد أحياء القدس الغربية التي كانت تُسمّى "القدس الجديدة"، ثم انتقلت عائلته بعد ولادته بستة أشهر إلى حي القطمون (ص 17) التي يتذكره منير جيدًا حتى الآن، لدرجة أنه يستطيع أن يرسم "القطمون بالشارع، والبيت، والمداخل، والشّجر" (ص 37). فلم تغادر تفاصيه ذاكرته قطّ.


                                                                    منير شفيق

ترعرع منير في عائلة مسيحيّة ثريّة، والده كان محاميًا ماركسيًا، ووالدته كانت معلمة، فقد تخرجت من دار المعلمات. اهتم والده بتحفيظه "القرآن والشّعر، وخصوصًا شعر المتنبي، وديوان الحماسة لأبي تمّام" (ص 24) كان منير يجلس مع أصدقاء والده، من الشعراء، والأدباء، والخطباء، ويستمع إلى نقاشاتهم وأحاديثهم وأشعارهم، بالإضافة إلى الاهتمام بما يجري في فلسطين.

يذكر منير حادثة طريفة، وهي قصة لقائه ووالده بالمجاهدين عبد القادر الحسيني وإبراهيم أبو ديّة، وخلال جولة في المنطقة  كان أبو ديّة يشرح عن المكان، والطفل منير يُصحّح أخطاءَه، فخاطبه عبد القادر مداعبًا "دع منير يشرح لي" (ص 32). وبعد انتهاء الجولة وصلوا إلى المكان المراد، فطلب الطفل منير الذي بلغ من العمر 12 عاماً من المجاهد عبد القادر الحسيني أن يخفض رأسه، لكي يعبر سريعًا، خوفًا من القناصة، لكنه "رفض أن يخفض رأسه" (ص 32).

الحزب الشيوعي

التحق منير في مدرسة الرشيدية، وكانت المدرسة في تلك المدة "تغلي" بالسياسة، ففي هذه المدرسة كانت النقاشات حامية الوطيس، و"منها بدأت المشاركة في التظاهرات، والاحتجاجات، والعمل في الحزب الشيوعي" (ص 73). الذي انتسب إليه في "منتصف عام 1952" (ص 80). ومن ذلك الحين، لم يفكر منير في "مستقبل غير مستقبل النضال والحزب" (ص 91). وهكذا تلاشت احلام والده بأن ينهي دراسته القانونية في جامعة دمشق.

على مدى ما يقارب المائة والخمسون صفحة من المذكرات (ص 73 ـ 224)، يعرض صاحب المذكرات تجربته عبر الحزب الشيوعي، والاعتقال المتكرر، وحياة السجن، وموقف السوفيت من قرار التقسيم، والخلاف مع الحزب، ولقاءه مع خالد بكداش، وموقفه من جمال عبد الناصر، وأسباب خروجه من الحزب.

كان جل فكر منير شفيق، في السبعينيات، "محاولة للتخلص من التفكير الماركسي الأوروبي، والتوصل إلى فكر تأصيلي عربي إسلامي ثوري، يفيد الماركسية وينسجم مع الشعب وقيمه وعادات المجتمع في ظل الثورة وتحرير فلسطين
تُشكّل هذه الصفحات (73 ـ 224) مخزونًا معرفيًّا ومعلوماتيًّا، ليس عن التجربة الشيوعية في فلسطين فقط، ولكن في كافة الأقطار العربية، وإضافةً هامّةً عن هذه الفترة التي يقلّ توثيقها في الكتب والدراسات الفلسطينية المعاصرة.

على أي حال، غادر منير الحزب الشيوعي لعده أسباب أولًا: أسلوب التلقين في الحزب، والنفور من التفكير المعمق في النظرية «وكان جل القيادة والكوادر يركزون على ما يصدره الحزب من بيانات سياسية وتعليمات فحسب» (ص 83). ثانيًا: موافقه الحزب على قرار تقسيم فلسطين، وارتهان الحزب للاتحاد السوفيتي (112- 115)، ثالثًا: مهاجمة الحزب جمال عبد الناصر (208 ـ 217). رابعًا: عدم تبنّى الحزب مشروع الوحدة العربية (225)، خامسًا: موقف الحزب من النظام الأردني (ص 218).

نحو "فتح"

لم تكن مغادرة منير للحزب هربًا من الماركسية والثورية، بل كانت منطلقًا للبحث عن إضافات أخرى مهمة، فقد وجد ضالته في منطلقات حركة "فتح"، فقد أشار إلى ذلك بالقول: "فقد صار عنده تحول حقيقي، وفتح أثرت فيّ جدًا بمنطلقاتها. لذلك، فإن معظم كتاباتي الفلسطينية تاليًا، كانت مستمدة من فتح ومنطلقاتها، ولولاها ما كنت كتبت ما كتبت في القضية الفلسطينية" (ص 237).

بدأ منير نشاطه في فتح كمسؤول "في دائرة العلاقات الخارجية والإعلام" (ص 277). كما أدي "دورًا في استقبال وكسب وتأييد الأجانب من اليساريين اللذين كانوا يوفدون لدعم القضية الفلسطينية في عمان" (ص 277). و"الحوار مع المنظمات اليسارية والثورية المتعاطفة مع الثورة الفلسطينية" (ص 278). بالإضافة إلى كان يساهم «في العمل الإعلامي، وبتحرير صحيفة فتح (...) [و] بإصدار الكتب والكراسات، وتقديم منطلقات فتح والقضايا التي تهمّ الثورة بأفضل صورة ثورية وإيجابية" (ص 290)

تيار داخل "فتح"

بعد الخروج الفلسطيني من الأردن بإتجاه لبنان، "فقدت المقاومة أهم وضع كان لها" (ص 293). واشتد الصراع كثيرًا بين الاتجاهات والفصائل الفلسطينية. "كان منزل ناجي علوش في عين الرمانة في بيروت مكان اجتماع ليلي لكل قوى اليسار في حركة فتح الناقمة على قيادة الحركة" (ص 294). وفي أحدى الليالي اقترح صاحب المذكرات أن "نشكل، تحت الثوريين اليساريين، مجموعات مقاتلة وننزل إلى الداخل، ونثبت لهم أن الخطّ الثوري هو الذي يمكنه أن ينجز ويحقق الانتصارات، فنشكل قوات مقاتلة ونعمل داخل حركة فتح، وهو أمر مشروع داخل الحركة، بدلًا من أن نكتفي بالنقد دون الفعل" (ص 299). تمت الموافقة على هذا الاقتراح، وبدأ تشكيل نواة التيار من: منير شفيق، وناجي علوش، وأبو داوود، أبو حسن قاسم (محمد بحيص)، وسعيد جرادات، وباسم التميمي، وعلي أبو طوق، وأبو خالد جورج، وآخرون.

تم تشكيل التيار "بقناعات ضمن حركة "فتح" ومنطلقاتها، وليس كتنظيم جديد (...) [ولكن] بعيدًا من قرارات القيادة أو هيمنتها" (ص 303). كان لهذا "التيار ترجمة معمّقة لمنطلقات فتح المتعلقة باعتبار الثورة الفلسطينية جزءًا من الثورة العربية، واعتبار الشعب الفلسطيني جزءًا من الأمة العربية. فهو تيار ذو بُعد قومي عروبي، وبُعد يساري ثوري (بالمعنى الجماهيري)، وبُعد عالم ثالثي، وله تعاطف خاص مع الصين والثورة الفيتنامية بسبب تميّز موقفها من تحرير فلسطين كلها" (ص 305).

عبرت كتابات صاحب المذكرات بعد عام 1975 عن خط التيار. و"لم تكن تصدر قبل الموافقة عليها، لهذا كانت هي المرجعية الفكرية والنظرية بالنسبة إلينا. فضلًا عن الكتابات السابقة. بعد 1975 كنت أصوغ [منير شفيق] النقاشات وما نتفق عليه، وبعد كتابتها كان يطّلع عليها أبو حسن وسعد وحمدي وآخرون، قبل نشرها. ثم صارت تمرّ على ثلاثة أو أربعة من الأخوة الذين يقرأونها ويبدون ملاحظاتهم عليها، فأقوم بإحداث تغير وتبديل، ونعقد تقاشات حولها قبل أن تصدر في صيغتها النهائية" (ص 316).

المرجعية الإسلامية

كان جل فكر منير شفيق، في السبعينيات، "محاولة للتخلص من التفكير الماركسي الأوروبي، والتوصل إلى فكر تأصيلي عربي إسلامي ثوري، يفيد الماركسية وينسجم مع الشعب وقيمه وعادات المجتمع في ظل الثورة وتحرير فلسطين" (ص 397). [يُراجع منير شفيق، في الوحدة العربية والتجزئة (دار الطليعة، بيروت، 1979) ـ عبد القادر جرادات وجورج عسل، أفكار ثورية في ممارسة القتال (دار الطليعة، بيروت، 1978)]. هكذا، "كنا نفكر بصوت جماعي موحّد، وكان أغلب المنتمين إلى السرية الطلابية وكتيبة الجرمق، وللتيار عمومًا، قد راحوا يبحثون عن توليد ثوري نابع من خصوصية الثورة في بلادنا، فلسطينيًا وعربيًا" (ص 403). هكذا، فقد انفتح التيار، على الموضوع الإسلامي من خلال نقاش فكري واسع داخل التيار. فالانتقال إلى المرجعية الإسلامية تم عمليًا بجهد جماعي واسع النطاق ومتعدد الأبعاد [يُراجع: نيكولا دوت بويار، اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة "فتح"، ترجمة: عومرية سلطاني (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2010)]

علاوة على ذلك، يوثق صاحب المذكرات بدايات الكفاح المسلح للفصائل الإسلامية، ونشوء سرايا الجهاد الإسلامي.

يعطي كتاب "من جمر إلى جمر"، شريطاً كاملاً أو شبه كامل عن حياة صاحبها وتجاربه، فقد أبرز مثابرته وطول نفسه، وتفاؤله، وتركيزه على المبدأ الأخلاقي، والمسلك الثوري الصحيح. [يُراجع كتابات منير شفيق خلال عقد السبعينيات، "موضوعات من تجربة الثورة الفلسطينية"].

أخيرًا، إن كتاب "من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق"، أولى أهتماماً للأحداث والوقائع، التي مرت بها القضية الفلسطينية، والتحولات العربية والإقليمية والدولية، أكثر مما أولت لصاحب المذكرات نفسه.

*مؤرخ فلسطيني
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع