كتب

أزمة الأمن الغذاء العالمي أخلاقية أولا.. وهذا الدليل

مهما كانت "العقيدة التنموية فإن المشاكل الأساسية لدى العالم كانت دائما أخلاقية (وثقافية) وليست تكنولوجية".
الكتاب: "عار الجوع.. الغذاء والعدالة والمال في القرن الحادي والعشرين"
المؤلف: ديفيد ريف
المترجم: أحمد عبد الحميد أحمد
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، 2022

بحلول أواخر التسعينيات من القرن الماضي كان الأمن الغذائي العالمي قد خرج عن جدول أعمال العالم. وجزء من الأسباب وراء ذلك كان تجريبيا، وجزء آخر كان أيديولوجيا. الجزء التجريبي استند إلى ما بدا أنه تراجع دائم بدلا من كونه مؤقتا في أسعار المواد الغذائية، التي بحلول العام 2000 بلغت أدنى مستوياتها على الإطلاق. والجزء الأيديولوجي كان بافتراض نجاح "الثورة  الخضراء الثانية" في الزراعة التي ساعدت مئات الملايين في أمريكا اللاتينية وآسيا على تفادي حياة الجوع الشديد والفقر المدقع. وافترضت الحكومات، في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، أن هذا النجاح سوف ينتشر، ومن ثم خفضت استثماراتها في الزراعة، وحولت اهتماماتها إلى مجالات أخرى.

يلفت ديفيد ريف، الصحافي والمحلل السياسي الأمريكي والمختص في موضوعات الحرب والمساعدات الإنسانية والتنمية، إلى هذه الحقيقة في مقدمة كتابه الذي يتمحور حول محاولة الإجابة عن سؤال: لماذا أخفق العالم في إيجاد حل لأزمة الجوع في القرن الحادي والعشرين؟.

يصف ريف الافتراضات السابقة بأنها كانت الأكثر خطأ، ففي نهاية العام 2006 بدأت أسعار القمح والذرة وفول الصويا ترتفع بشكل جنوني في الأسواق العالمية، وهي أغذية أساسية يعتمد عليها ما يقرب من ثلاثة مليارات شخص حتى لا يقعوا فريسة الجوع ، يعيشون على أقل من دولارين في اليوم. وبلغت أسعار هذه الأغذية ذروتها مطلع 2008، فارتفع سعر الذرة بنسبة 31%، والأرز بنسبة 74%، وفول الصويا بنسبة 87%، والقمح بنسبة 130%، بالمقارنة مع ما كانت عليه أسعار هذه الأغذية في أوائل العام 2007 في بداية ماعرف فيما بعد بأزمة الغذاء العالمية.

تسبب ذلك، بحسب ريف، بارتفاع فاتورة الغذاء لدى الفقراء في العالم التي زادت بنسبة 40%، في حين ارتفعت فاتورة استيراد الغذاء لدى الكثير من الدول الفقيرة بنسبة 25%، وفي ثلاثين من أسوأ الدول تأثرا بهذه الأزمة من أثيوبيا إلى أوزبكستان تفجرت حوادث شغب جراء نقص الغذاء. ويوضح ريف أنه بالنسبة للأشخاص الأشد فقرا بين فقراء العالم، الذين يعيشون على أقل من دولار واحد يوميا كان هذا التهديد وجوديا بالمعنى الحرفي للكلمة. وبالنسبة إلى مزيد من المليارات العديدة من سكان العالم فإن أمل الحصول على ما يكفي من الغذاء على مدار العام بدأ يتبخر. لم تكن المشكلة عدم وجود غذاء كاف بل أن هذه المليارات من الناس لن يعود بمقدورهم تحمل تكلفة شرائه.

أما في العالم الغني فقد رأى كثيرون أنه نظرا إلى أن آثار الأزمة تحدث في أجزاء من العالم التي حدثت فيها زيادات هائلة في عدد السكان فإن الديمغرافيا هي السبب الجذري لما حدث، وهو سوء فهم أساسي لما حدث، بحسب ريف الذي يقول أنه عندما وقعت الأزمة، وحتى بعد ذلك بعقد من الزمان، كان هناك غذاء أكثر من كاف لإطعام كل شخص في العالم.

عاصفة هوجاء

يركز ريف في كتابه على البحث على البحث عن الأسباب الكامنة وراء أزمة الأمن الغذائي، والأسباب التي تقف وراء الاخفاقات في الاستجابة لهذه الكارثة الإنسانية، من المشكلات الناجمة عن التغير المناخي، إلى سوء إدارة الأزمات والتفاؤل المضلل، محذرا من عواقب الخصخصة المتزايدة لخطط وبرامج مساعدات التنمية، وكذلك ممارسات التدخل من قبل نشطاء حقوق الغذاء من المشاهير، مثل بيل غيتس، لافتا إلى أن ما يطرحونه من حلول، تحركها المصالح والأعمال التجارية، تفرغ التنمية من مضمونها السياسي. وهو إلى ذلك يرفض فكرة أن ندرة الغذاء يمكن حلها عن طريق الابتكار التكنولوجي وحده، مطالبا بإعادة النظر في الأسباب الجوهرية التي تقف وراء التفاوتات "الغريبة" في الثروات حول العالم.

يصف ريف أزمة الغذاء بالعاصفة الهوجاء، ويرى أن أسبابها كثيرة ومعقدة، لكنه يلفت إلى أن ثمة محرك رئيس واحد غير قابل للجدال كان وراء وقوعها، وهو ارتفاع سعر النفط، فمنذ أواخر العام 2006 أثر ذلك بشكل واضح في سعر الأسمدة التي تحتاج إليها الصناعة الزراعية، فهذا النوع من الزراعة بات بشكل متزايد المعيار السائد في مختلف دول العالم بما فيها الدول الفقيرة، على حساب جماهيره من المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة. وثمة عامل آخر وهو الطقس السيء إبان العام 2006 الذي تراوح بين الجفاف في أستراليا، ثاني أكبر منتج للقمح في العالم، إلى إعصار نرجس الذي ضرب ميانمار في 2008  الذي سبب تدميرا لإنتاج الأرز في تلك الدولة. يضيف ريف إلى ذلك الممارسة الخاصة بتحويل الحبوب من الأعلاف للماشية إلى إنتاج الوقود الحيوي(40%من محصول الذرة في الولايات المتحدة يذهب إلى إنتاج الإيثانول). وسيطرة المضاربين على أسواق السلع العالمية ما تسبب بتقلبات حادة في أسعار الأغذية الأساسية.

أهداف غائمة

يرى ريف أن الجوع والفقر مترابطان  ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر. ويقول أنه على الرغم من النجاحات الحقيقية للجهود الرامية إلى الحد من الفقر في أجزاء كثيرة من جنوب الكرة الأرضية، فإنه من غير المرجح أن تظل هذه المكاسب مستدامة إذا ما فاقت الارتفاعات في أسعار المواد الغذائية الأساسية الزيادات في الدخول لدى الفقراء نتيجة لسياسات التنمية. ويعلق ريف على أهداف التنمية المستدامة، التي أعلن عنها في العام 2014 من قبل الأمم المتحدة، وتضمنت "إنهاء الفقر بكل أشكاله في كل مكان"، و"إنهاء الجوع وتحقيق الأمن الغذائي، والتغذية الكافية للجميع، وتشجيع الزراعة المستدامة"، و" تحقيق حياة صحية للجميع من كل الأعمار" وحماية النظم البيئية الأرضية واستعادتها، ووقف فقدان التنوع البيولوجي" و"ضمان الاستهلاك المستدام وأنماط الإنتاج"، بالإضافة إلى الأهداف السياسية التي تمهد الطريق من أجل "مجتمعات سلمية وشاملة، وحكم القانون، ومؤسسات قادرة وفعالة".

يعلق بالقول أنه كان من الواضح أن عددا من هذه الأهداف الإنمائية لن يتحقق، وأكثر من ذلك كان واضحا بحلول الوقت الذي صدرت فيه هذه الأهداف أن أربعين دولة فقيرة على الأقل كانت تفتقر إلى بيانات كافية تمكنها من تلبية الهدف الأول المتمثل بالقضاء على الفقر والجوع. بل إن هذه الأهداف ووجهت بانتقادات كبيرة حتى من المتفائلين بالقضاء على الفقر مثل تشارلز كيني(زميل مركز التنمية العالمية) الذي وصفها بأنها "عديمة الفائدة في الأساس لتحديد أولويات أي شيء.. وغير واقعية، وتفشل كرؤية شاملة بشأن كيف نحب أن نرى العالم في العام 2030".

يرى ريف أن الجوع والفقر مترابطان ولا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر. ويقول أنه على الرغم من النجاحات الحقيقية للجهود الرامية إلى الحد من الفقر في أجزاء كثيرة من جنوب الكرة الأرضية، فإنه من غير المرجح أن تظل هذه المكاسب مستدامة إذا ما فاقت الارتفاعات في أسعار المواد الغذائية الأساسية الزيادات في الدخول لدى الفقراء نتيجة لسياسات التنمية.
يقول ريف إن الحلول التي "طرحتها المؤسسة الغذائية الرئيسية تعاني على نحو جماعي اعتمادا مفرطا على الإيمان الغامض بشأن تطبيق إنجازات علمية، ستعطي مزارعين في العالم الفقير المدخلات التقنية ودهاء السوق المطلوب، لزراعة غذاء كاف لإطعام التسعة أو العشرة مليارات نسمة على نحو مريح، الذين سيعيشون على ظهر هذه الأرض بحلول العام 2050" ويضيف " المشكلة تكمن في أن الرأي السائد يعتمد على الافتراض أن التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعترض طريق الوصول إلى عالم يوفر سبل العيش الكريم لمزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة، والأمن الغذائي للجميع، يمكن التغلب عليها بسهولة نسبيا، وذلك مع افتراض أنه يمكن حشد المال الكافي ، والذكاء والالتزام".

يؤكد ريف أنه مهما كانت "العقيدة التنموية فإن المشاكل الأساسية لدى العالم كانت دائما أخلاقية (وثقافية) وليست تكنولوجية". ويقول إنه حتى وقت قريب إبان السبعينيات من القرن الماضي لم يكن من المتصور أن القضية الكبرى بشأن محاولة التخفيف من حدة الفقرالمدقع والجوع، كان يمكن التعاقد عليها من الباطن، من قبل الحكومات الأقوى في الشمال العالمي، ومن قبل منظومة الأمم المتحدة، وذلك لمصلحة شركات متعددة الجنسيات، ولهؤلاء الأشخاص الذين ينتمون إلى نسبة الواحد بالمائة الأكثر ثراء بين سكان العالم، لمصلحة الأفراد والمؤسسات الذين يفتقرون كثيرا إلى الديمقراطية، والأقل خضوعا للمساءلة في هذا العالم. لذلك يجد ريف نفسه منحازا إلى صف  النشطاء "النقاد المتطرفين" للنظام الغذائي العالمي، لأن تقييمهم له أكثر واقعية وإقناعا من وجهة النظر السائدة، سيما في ما يخص عداوتهم للسوق الحرة العالمية، وتأكيدهم على مركزية العدالة والثقافة والتنوع.

ويرى أنه "ليس هناك شيء مفرط أو غير معقول بشأن تطوير الاقتراح بأن حقوق أرض الفلاحين يجب أن تكون لها الغلبة على حقوق المستثمر الأجنبي في شراء الأرض. أو أن نظاما للبذور تسيطر عليه شركات متعددة الجنسيات يمكن أن يبرهن تماما على أنها كأس مسمومة لصغار المزارعين الفقراء، حتى لو كانت تلك البذور ترقى إلى مستوى الوعد المقدم لهم بشأن تحقيق زيادة كبيرة في غلة المحصول( والذي لم ينفذ بعد إلى حدي كبير).. كما أن بعض الاقتراحات المطروحة من قبل هذه الحركات للتغلب على أزمة الغذاء  تبدو مقبولة أخلاقيا.. على سبيل المثال ما اقترحه الناشط الغذائي خوسيه لويس فيفيرو بول بأنه حيث أن الطعام سلعة عامة ، وحاجة بشرية أكثر من كونها رغبة بشرية، فإن المضاربة عليها في أسواق السلع- التي تسبب تقلبات في السعر قد وضعت حرفيا عملية التغذية لمئات الملايين من الأشخاص الأكثر فقرا في العالم في خطر- هذه المضاربة غير مقبولة ويجب منعها تماما".