تقارير

أحاديث صحيحة ليس عليها العمل.. لماذا لم يعمل الفقهاء بها؟

مختصون: المالكية والحنفية هم من يستعملون مصطلح (ليس عليه العمل) أو (العمل على خلافه) مع اختلاف الاستعمال بينهم.
يُطلق المحدثون والفقهاء في تعاملهم مع بعض الأحاديث النبوية عبارة "أحاديث صحيحة ليس عليها العمل"، ويقصدون أن تلك الأحاديث مع صحتها من جهة السند إلا أنه لا يُعمل بها، أو تركوا العمل بها لأسباب واعتبارات يذكرونها ويبينونها في مواضعها الخاصة بها، وهو ما تناقله العلماء ودرجوا عليه.

ومن المعروف المقرر في أصول الفقه، أن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر أدلة الأحكام، وتندرج في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم في مراتب أدلة الشريعة، وهي مما يجب على كل عالم مجتهد الأخذ بها، والتسليم بما جاءت به وقررته، لكن لأئمة الاجتهاد أصول وقواعد في التعامل مع الأحاديث النبوية، كأن يكون الحديث صحيحا وسالما مما يعارضه من أدلة الشريعة وأصولها المقررة عند ذلك المجتهد.

إن توقف الفقهاء عن الأخذ ببعض الأحاديث الصحيحة، وجعلها من النصوص التي ليس عليها العمل، يثير أسئلة عديدة حول الأسباب التي منعت الفقهاء من العمل بتلك الأحاديث الصحيحة، وما هي مناهج الفقهاء أهل الاجتهاد في التعامل مع تلك الأحاديث؟ وهل هي معروفة محصورة العدد؟

ووفقا لباحثين في الحديث النبوي وعلومه، فإن الإمام الترمذي في كتابه (الجامع أو السنن.. وهو أحد أصول الحديث النبوي) يورد في مواضع كثيرة من جامعه عبارات مثل "والعمل على هذا عند أهل العلم"، وقد يقول: "والعمل على هذا الحديث عند عامة الفقهاء.."، وأحيانا يقول: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم".

وذكر في كتابه العلل، أن "جميع ما في هذا الكتاب (الجامع) من الحديث فهو معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم، ما خلا حديثين: حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر ولا مطر، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه، وقد بينا علة الحديثين جميعا في الكتاب".

في هذا الإطار، أشار الباحث والأكاديمي السوري المتخصص في النقد الحديثي، الدكتور عداب الحمش إلى أن أول من وقف له "على استعمال هذه الصيغة (ليس عليه العمل) من المحدثين؛ هو الإمام مالك في الموطأ، بتحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي"، مضيفا "المالكية والحنفية هم من يستعملون مصطلح (ليس عليه العمل) أو (العمل على خلافه)، مع اختلاف الاستعمال بينهم".


                            عداب الحمش، أكاديمي وباحث متخصص في النقد الحديثي

وواصل الحمش حديثه لـ"عربي21" بالقول: "فالمالكية يقصدون بذلك إذا خالف حديث الآحاد ما كان عليه عمل أهل المدينة، الذي هو حجة لديهم، وأقوى في الاستدلال من خبر الآحاد، أعرضوا عن خبر الآحاد، واستدلوا بالعمل دونه".

وتابع: "وأما الحنفية، فيردون خبر الواحد، الذي يخالف الكتاب أو السنة المشهورة (التي عليها العمل) أو (ما تعم به البلوى)، أو القياس الجلي، ويعبرون بقولهم (يخالف الأصول)، خاصة إذا جاء الحديث عن صحابي غير فقيه، مثل أبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري على الانفراد، وليس عليه عمل الصحابة، فهذا الذي يردونه، ويقولون (ليس عليه العمل) أو نحوها من العبارات".

وعن موقف الإمام الشافعي من الأحاديث التي زعم الحنفية والمالكية أنه لم يعمل بها؛ أوضح الحمش أن موقفه هو ما "قاله الربيع في كتاب الأم؛ "فإن قلتُ: لم يعمل بها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الشافعي: "قد بينا لك قبل هذا، ما نرى أنا وأنتم نُثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يعمل به بعده استغناء بالخبر عن رسول الله، عما سواه فلا حاجة لنا بإعادته".

ووفقا للحمش، فإن "هذا يعني أن الشافعي ومن بعده الإمام أحمد، وأكثر المحدثين، لا يقيمون وزنا لدعوى (ليس عليه العمل) لأنها دعوى عامة الظاهر، لكنها مخصوصة عند المالكية بمخالفة ما عليه العمل في المدينة، كما يدّعون، وقد بين الشافعي في كتبه مخالفة المالكية حتى لبعض فقهاء أهل المدينة، وهي دعوى عامة عند الحنفية أيضا، وهي مخصوصة بما إذا خالف خبر الواحد ما هو أقوى منه، أو خالف الأصول، وخاصة إذا كان راويه من الصحابة غير فقيه في نظرهم".

من جهته، ذكر مدرس أصول الفقه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدسوق، جامعة الأزهر الشريف، الدكتور سعيد الشيشيني أن "أول من قال ذلك – على حد علمه – هو الإمام الترمذي في كتابه العلل، في آخر كتابه (الجامع)، حيث ذكر حديثين اتفق العلماء على عدم العمل بهما، وهما حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين.. وحديث معاوية في قتل مدمن الخمر إن شرب الرابعة".


                                  سعيد الشيشيني، مدرس أصول الفقه بجامعة الأزهر

وردا على سؤال "عربي21" عن عدم سبب العمل بالحديث مع صحته متنا وسندا، قال: "إما أن يكون سبب ذلك النسخ، وإما أن يكون الحديث عاما قد خُصص أو مطلقا قد قُيد، ووجود مثل ذلك في المذهب الواحد كثير لا يمكن حصره، ووجوده في كل المذاهب بالإجماع فقليل جدا".

وتابع: "لكن بعض العلماء يدّعي الإجماع على عدم العمل به، ويكون خطأ لأن ناقل الإجماع يدّعي ذلك بناء على عدم العلم بالمخالف، وهذا ليس بإجماع، وأما منهج الفقهاء في التعامل مع ذلك، فيختلف جمهور الحنفية عن جمهور العلماء عن جمهور المحدثين، وذلك لأن ترك هذا الحديث الصحيح يكون عند التعارض بين الأدلة لا لمجرد أن أحدا لا يعمل به.. فالحنفية يقدمون النسخ إن علم تاريخ ورود الحديثين، وجمهور الفقهاء يقدمون الجمع بين الحديثين، والمحدثون يقدمون الترجيح..".

بدوره لفت الباحث المتخصص في الفقه وأصوله، خليل مصطفى أنشاصي إلى أن جمعا من العلماء ذكروا وصرحوا "أن هناك عددا من الأحاديث الصحيحة ليست عليها العمل، وهناك عبارات متعددة اللفظ، متحدة المعنى في هذا الأمر، ناقلا عن الحافظ ابن عبد البر بعدما ذكر حديثا قوله: "على هذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث، ومن قال بقولهم، وقد جاء عن عمر، وعثمان، ما في هذا الباب شيء موافق لقول أبي الشعثاء، ليس عليه العمل عند الفقهاء فيما علمت".

وتابع في رسالته التي نال بها درجة الماجستير من الجامعة الأردنية عام 2018، والموسومة بـ"أحاديث الأحكام التي ليس عليه العمل.. أسبابها وتطبيقاتها دراسة فقهية تأصيلية": "وقال ابن عبد البر في موضع آخر "وذكر الحارث بن مسكين عن يوسف بن عمر عن ابن وهب عن مالك، أنه قال في حديث عروة عن عائشة في الحج، ليس عليه العمل عندنا قديما ولا حديثا، ولا ندري أذلك كان ممن حدثه أو من غيره، غير أنّا لم نجد أحدا من الناس أفتى بهذا".

وخلص الباحث أنشاصي إلى القول: "وهذا بيان من ابن عبد البر بأن هناك أحاديث لم يعمل بها، فليس كل من قرأ حديثا وجب عليه العمل به، بل لا بد من النظر في مذاهب الفقهاء قبل أن يعمل بما هو متروك عند أهل العلم، وذكر ابن بطال في شرحه على البخاري بعدما ذكر حديثا رواه البخاري في الصلاة على القبر، بعد الدفن وقال عنه: "قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل".

ونقل عن الحافظ ابن رجب الحنبلي أنه ذكر عدة أحاديث ليس عليها العمل عند الفقهاء، منها ما ذكره الترمذي، وأكثرها عند غيره، وبيّنها نصّا، وذكر أقوال العلماء فيها، وذلك لبيان حجم قضية ترك العمل، وأن الأمر بحاجة لدراسة وتتبع، وإيضاح الأسباب التي أدت إلى ترك العمل بتلك الأحاديث مع صحتها، وعدم الطعن فيها، فكان ولا بد من سبب وجيه أدى إلى عدم اعتبارها والأخذ بها، إذ من المستحيل أن يترك العلماء العمل بها بلا سبب.".



أفاض الباحث في ذكر وبيان الأسباب التي أدّت إلى ترك العمل بتلك الأحاديث مع صحتها، وأدرجها تحت خمسة أسباب "نسخ الحديث، شذوذ الحديث، خصوصية الحديث (كونه من الأحكام الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، الإجماع على عدم العمل بالحديث، والخامس وقائع الأعيان"، موضحا أن هذه الخمسة أسباب قد اتفق عليها الفقهاء والأصوليون أنها من أسباب ترك العمل بالحديث النبوي، من حيث كونها سببا، لكنهم قد يختلفون في التطبيقات.".

وأوصى الباحث في ختام بحثه بـ"عدم العمل بالحديث قبل النظر فيمن عمل به من الفقهاء، لكي لا يعمل بما لم يعمل به، وعدم اتهام المذاهب بترك العمل بالحديث الصحيح، فلا بد من استقراء المذاهب، والبحث عن السبب الذي دفع المذهب لترك العمل بذلك الحديث، ولا بد من استقراء أحاديث الأحكام في كتب السنن، واستخراج أحاديث الأحكام التي لا يعمل بها وتتبع المذاهب الأربعة، وجميع أحاديث الأحكام التي لا يعمل بها داخل المذهب، في باب العبادات، والمعاملات، أو في أحدهما".