أفكَار

المدرسة المغاربية والمدرسة السلفية.. محاولة للفهم

منطقة المغرب العربي استقرت على حالة عامة في فهم الدين والتديّن به، منذ نهاية القرن الثاني للهجرة
هناك قضية علمية منهجية، يحتاج " العلماء الصادقون" من الإخوة السلفيين في ليبيا خاصة وفي المغرب العربي عامة، وممن تأثر بالمدرسة الدينية في المملكة السعودية وغيرها؛ أن يتدارسوها بتجرد وموضوعية مع العلماء والفقهاء في ليبيا والمغرب.

هذه القضية باختصار شديد؛ أن أقليمنا المغاربي ـ وليبيا جزء منه ـ، قد استقر على حالة عامة في فهم الدين والتديّن به، منذ نهاية القرن الثاني للهجرة-، وهذا باتفاق المؤرخين وأصحاب التراجم والسِيَر-، ثم ازدهر وانتشر واستقر، وتناوب على شرحه ونشره وتأصيل مسائله عبر القرون، أئمة أعلام كبار،  كأسد بن الفرات وسحنون وعلي بن زياد وابن أبي زيد  وابن رشد والقرافي والشاطبي وخليل بن إسحاق، وغيرهم كثير .

هذه الحالة التي قصدتها، هي صفاء مذهبي قام على منهج الأئمة الأعلام من أهل السنة، في الاستدلال والاستنباط والنظر في مسائل العقيدة والعبادات على حد سواء.

ثم انتشر واستقر بعد القرن الخامس، منهجُ السادة الأشاعرة ـ وهم السواد الأعظم لأهل السنة والجماعة ـ، الذين دعموا صحيحَ النقل بصريح العقل، ومشهورَ الأثر بسلامة النظر، وكان لهم منهجٌ معتدل في تقرير مسائل العقيدة ودفع الشبهات عنها وتحرير مسائلها.

من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الشباب المتدين، ظنهم أن الاختلاف والخلاف مجرد تحقيق لآراء فقهية متعددة واجتهادات متنوعة، لا علاقة لها " بمطالب" مدرسة دينية تسعى لنشر مذاهبها، ومشاريع مُغرضة- أحيانا- تستهدف هوية التدين الليبي وما استقرت عليه المجتمعات المغاربية، وقد نشأت حركات إصلاحية قديمة واجهت هذه الظاهرة قديما، مثل حركة المهدي بن تومرت، وحركة الإمام أبو بكر بن العربي.
هذه الحالة، كوّنت عندنا معشر المغاربة "حساسية" علمية واجتماعية إزاء أي شذوذ عن المستقر عندنا، وموقفا مترصدا ورافضا لأي مخالفة للحالة الدينية العامة القائمة على مذهب الإمام الأشعري في العقيدة ومذهب الإمام مالك في الشريعة، بينما كانت البلاد الإسلامية في نجد واليمن والشام ومصر، تعيش حالة من تلاطم أمواج المذاهب المتعددة والطوائف المختلفة والآراء المستجدة.

ينبغي أن يتعامل طلبة العلم والفقهاء الصادقون من أهل الحديث أو السلفية أو الوهابية أو الظاهرية الجدد (أعتذر صادقا لأني لا أعرف لهم وصفا محددا بعد)، أقول: ينبغي أن يتعاملوا مع هذه الظاهرة بموضوعية علمية متجردة، ويستخدموا الأدوات المنهجية في التشخيص والتحليل، كي يصلوا إلى فهم ما يحدث الآن!

ومن المعلوم، والمشروع أيضا، أن كلَ إقليم أو دولة مسلمة، تريد الحفاظ على هُويتها الدينية من الاختراق والاضطراب، لاعتبارات كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، وتسعى كذلك لنشر مذهبها خارج حدودها، وهذا ما تفعله السعودية من قبل عبر نشر الوهابية وجلب طلاب العالم الإسلامي لتربيتهم على منهجها في التدين وتأهيلهم لغرسه في بلادهم الأصلية، وما تفعله إيران عبر دعمها الكبير للحوزات العلمية ونشر التشيع في العالم السني وتأهيل الدعاة لذلك، وما تفعله مصر عبر الجامع الأزهر من دعم مذاهب أهل السنة في الفقه والاعتقاد وتأهيل الطلبة حول العالم، وما كانت تفعله الدولة العثمانية من ترسيخ المذهب الحنفي وصياغته في مجلة الأحكام العدلية ونشره والانتصار له، وهكذا.

من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الشباب المتدين، ظنهم أن الاختلاف والخلاف مجرد تحقيق لآراء فقهية متعددة واجتهادات متنوعة، لا علاقة لها " بمطالب" مدرسة دينية تسعى لنشر مذاهبها، ومشاريع مُغرضة- أحيانا- تستهدف هوية التدين الليبي وما استقرت عليه المجتمعات المغاربية، وقد نشأت حركات إصلاحية قديمة واجهت هذه الظاهرة قديما، مثل حركة المهدي بن تومرت، وحركة الإمام أبو بكر بن العربي.

والسبب في هذا "الاستهداف"، أمران كبيران تتفرع عنهما أشياء كثيرة:

الأمر الأول: هو حاجة الحكومات العربية وأجهزتها الأمنية لمن يقوم بدور "الدبلوماسية الاجتماعية" في المجتمعات الإسلامية الأخرى، بحيث يكون جسر عبور وقناة مرور لتلك المجتمعات، قد تتحقق بهم بعض الأهداف السياسية لاحقا، وذلك عبر "مشايخ" من بعض بلاد المغرب، يحملون الهوية الدينية لتلك الدولة، ويرتبطون بمؤسساتها وعلمائها دون علماء ومؤسسات بلادهم.

الأمر الثاني: هو "قناعة" دينية عند علماء نجد وغيرهم، تكوّنت عبر دراسة وطول زمن بأن دول المغرب حدث فيها نوع من الانحراف العقدي ينبغي تصحيحه دون لُبث، وانحراف فقهي يجب تقويمه على مُكث، ويتمثل هذا الانحراف العقدي ـ بزعمهم ـ في اعتماد مذهب الأشاعرة في العقيدة، ومذهب المالكية في الشريعة، وأن الحق والصواب (عندهم) يتلخص في: الرجوع لعقيدة "أهل الحديث أو السلفية "في العقيدة؛ باعتبارهم السلف الصالح والفرقة الناجية، والرجوع إلى "اللامذهبية، أو الظاهرية، أو الكتاب والسنة مباشرة"؛ باعتبار أن المذهبية هي تقليد للرجال وليس اتباعا للدليل !!!!

وبطبيعة الحال، يختلف مشايخ هذه المدرسة في "طريقة" طرحهم وتناولهم لهذه المسائل بحسب سعة علومهم ورقي أخلاقهم ومنهجيتهم في الطرح، ولكنهم متفقون على الإطار الكلي الذي ذكرته آنفا.

الموضوع كما يظهر لكم ذو شجون وتتشعب أطرافه ومُدخلاته، لكني أكرر مُطالبا ومتمنيا، أن تتم حوارات هادئة شجاعة، ومطارحات علمية جادة بين هذه الأطراف، وجها لوجه، على بساط من الإخاء الإيماني والحب وحسن الظن، وإلا فإن حالة الاستقطاب ستُفضي إلى نبذ أخلاق الإسلام في الخِلاف، ومنهجية أهل السنة في الاستدلال، مما يؤدي لنزاع طائفي ديني حاد، لا ينفع معه أي معالجة سياسية أو أمنية لاحقا.