قضايا وآراء

الأزمة السودانية والأيادي الخفية

جيتي
حرب أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها حرب همجية تلعب فيها المصالح الشخصية والمكاسب المادية الدور الأكبر، حرب محكومة بالأيديولوجيا القبلية والمستوى الثقافي الضحل، وانعدام الشعور بالمسؤولية.. نحن من نصنع الفشل ونحن من نمكّن لأعدائنا ركوب ظهورنا، ونحن من نجلب أعداءنا لينصرونا على أنفسنا ويدمروا بلادنا.. لقد حرقت الأنانية السوداوية السودان وأحالته إلى بؤرة صراع مميتة بين لحظة وضحاها.

مستشفيات تدمر، سيارات إسعاف تستهدف، مدنيون يقتلون بدم بارد، حرب قذرة، تفتقر إلى أدنى مقومات الأخلاق والرحمة والإنسانية، ومن يظن أن الحرب ستنتهي قريبا فهو واهم، فما عمليات الإجلاء لرعايا الدول ودبلوماسييها، وهروب السودانيين إلى دول الجوار، أو إلى أماكن أكثر أمنا، والتدخلات الإقليمية والمليشياوية إلا دليل على حرب ستطول، ناهيك عن العقليات المتعفنة التي تقود الحرب على طريقة داحس والغبراء التي استمرت نحو أربعين عاما.

إن ثمة مصالح لعدة دول في السودان وثمة أياد خفية وغير خفية تلعب في الساحة السودانية، وعلى رأس تلك الدول الإمارات المتحدة التي تقوم بدور خطير ضد أية ثورة تقوم في الوطن العربي، وهي جاهزة دائما للعب أقذر الأدوار لتحطيم الدول التي تسعى إلى الحرية والديمقراطية، وتقوم بهذه الأدوار عبر السياسة الناعمة وتقديم الهبات المالية، ولا تنسى نصيبها من الغنائم؛ فهي تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى؛ فنصيبها من الذهب السوداني، يوفر لها أكثر مما تقدم لحميدتي من مساعدات عسكرية عبر حفتر وفاغنر.

ثمة مصالح لعدة دول في السودان وثمة أياد خفية وغير خفية تلعب في الساحة السودانية، وعلى رأس تلك الدول الإمارات المتحدة التي تقوم بدور خطير ضد أية ثورة تقوم في الوطن العربي، وهي جاهزة دائما للعب أقذر الأدوار لتحطيم الدول التي تسعى إلى الحرية والديمقراطية، وتقوم بهذه الأدوار عبر السياسة الناعمة وتقديم الهبات المالية، ولا تنسى نصيبها من الغنائم

وغير خاف على أحد العلاقات المتشابكة لدولة الإمارات مع كل من مليشيات فاغنر من جهة وقوات حفتر من جهة أخرى، والعلاقات المصلحية مع روسيا التي تقاسمها جزءا من ذهب حميدتي الذي تقوم مليشيات فاغنر باستخراج جزء كبير منه على مرأى من العالم ومسمع لصالح روسيا، والذي اشترت منه مصر كميات كبيرة من روسيا مباشرة أو من خلال وسطاء سودانيين، إلى أن توقفت هذه التعاملات مع بداية الحرب القائمة اليوم، فأصيب سوق الذهب المحلي في مصر بانتكاسة وارتفاع غير مسبوق في الأسعار.

تقف كل من روسيا والإمارات وحفتر وفاغنر في صف قوات الدعم السريع، بينما تقف الحكومة الليبية الشرعية ومصر والسعودية مع الجيش الشرعي على استحياء، ودائما تكون مصر هي الجانب الخاسر في كل معاركها الباردة في كل موطئ قدم لها؛ فقد أسر جنودها في السودان بطريقة مذلة من قبل قوات حميدتي، ولم يزل مصير بعضهم مجهولا، وتم استهداف موظف رفيع من طاقم السفارة المصرية عن قصد وترصد، ولم تستطع مصر لعب أي دور حقيقي في الأزمة السودانية، مع أنها أكثر المعنيين بها لأسباب يطول شرحها، لكن لا بد من إشارة سريعة إلى أن أمن السودان يعد جزءا مهما من أمن مصر القومي، فهي امتداد جغرافي وسياسي لمصر ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

المؤامرة على السودان كما أراها عربية بامتياز، ولا علاقة مباشرة بينها وبين الكيان الصهيوني الذي اعتدنا على تحميله كل مصائبنا، وجعلنا منه أسطورة قادرة على صناعة المستحيل، وأنه قادر على محو دول وإقامة أخرى.. المؤامرة بالدرجة الأولى إماراتية للتخلص من البرهان الذي بدا لها أنه لا يسير وفق خططها، وربما كان لديها هواجس من ميله للإسلاميين، كما صرح حميدتي، والإمارات لا تريد حاكما قد يتعاطف يوما مع الإسلاميين. ولا أدري إن كان البرهان فعلا لديه نفس إسلامي أم لا، تلك الذريعة التي اتخذها حميدتي حين خاطب الكيان المحتل وغيره قائلا إن البرهان من الإخوان المسلمين، ليكتسب بذلك مزيدا من تعاطف الإمارات واستمالة الكيان المحتل، علما بأن البرهان صرح بوضوح في 15 كانون الثاني/ يناير 2023 بأنه يريد قوات مسلحة خالية من الإخوان المسلمين واليساريين وداعمي الديمقراطية.

وتميل روسيا في هذه الحرب القذرة إلى حميدتي بغير قناعة كافية بأن الأخير يمثل كيانا معتبرا يمكن الاعتماد عليه حليفا مستقبليا؛ لإحساسهم بأنه لن يحقق الانتصار على الجيش، وأن الاعتماد عليه مشوب بكثير من الشك وكثير من التقليل من قيمته المعنوية والمادية كجهاز صلب قادر على إحداث التغيير؛ لذلك تحاول روسيا التنصل من الحرب، وتسخير فاغنر للقيام بدورها، لا سيما أن ثمة مصالح اقتصادية لروسيا في مناجم الذهب التي تذهب أثمانها في جيوب عديدة.

ويستمر حميدتي في شراء الذمم ومحاولة التقرب من الكيان الصهيوني بحذف كلمة (قدس) من شعار قوات الدعم السريع، وهي اختصار لكلمات قواته، ناهيك عن موقفه المخزي من حركة حماس حيث وصف مستشاره خلال لقاء مع قناة إسرائيلية المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بـ"الإرهاب". وأضاف: "ما نتعرض له (المعارك مع الجيش السوداني) تعرضت له إسرائيل آلاف المرات على أيدي المجموعات الإرهابية، مثل حماس وغيرها من المجموعات التي يعرفها المواطنون الإسرائيليون جيدا. هذا ما نتعرض له وسنتصدى له"..!!

علاقته مع فاغنر التي زودته بالذخيرة والسلاح هي علاقات اقتصادية تتعلق بمناجم الذهب وشراء الأسلحة، وعلاقته بحفتر قائمة على أساس علاقة حفتر بالإمارات؛ من باب "صديق صديقي صديقي"، بينما يحظى البرهان بتأييد السعودية الخجول، وتأييد مصر التي تكتفي بالفرجة وإصدار البيانات الفارغة من المضمون والتي تشعرك بأنها صدرت فقط لتقول "نحن هنا.. نحن موجودون"، دون أدنى فعل، بل بعجز كبير عن الفعل

وعلاقته مع فاغنر التي زودته بالذخيرة والسلاح هي علاقات اقتصادية تتعلق بمناجم الذهب وشراء الأسلحة، وعلاقته بحفتر قائمة على أساس علاقة حفتر بالإمارات؛ من باب "صديق صديقي صديقي"، بينما يحظى البرهان بتأييد السعودية الخجول، وتأييد مصر التي تكتفي بالفرجة وإصدار البيانات الفارغة من المضمون والتي تشعرك بأنها صدرت فقط لتقول "نحن هنا.. نحن موجودون"، دون أدنى فعل، بل بعجز كبير عن الفعل، كيف لا وقد وسّطت الإمارات لدى حميدتي للإفراج عن أفراد القوات المسلحة الذين تم أسرهم في مطار مروي، ولم تتوانَ قوات حميدتي عن قتل موظف في السفارة المصرية بإطلاق النار على سيارته، وهو ما يؤشر على استهانة بمصر وحضورها الإقليمي. لكن حميدتي اليوم ادعى أن طائرات مصرية تقصف قواته وأنها أوقعت فيهم قتلى وجرحى لم يتم إحصاء عددهم. ولا أدري حتى الساعة إن كان كلامه صحيحا أم لا..

لقد أدرك حميدتي مبكرا بأن القوات المصرية الموجودة في قاعدة مروي الجوية، لم تكن في مهمة تدريبية كما قالت الخارجية المصرية، بل جاءت لتقديم الدعم للبرهان، وادعى حميدتي أن هذه القوات قامت بشن غارة على قواته بداية الحرب. مع أن تصريحاته لا يمكن أن تكون مصدر ثقة، ولا ندري إن كان صادقا أم كاذبا، فالكذب كان من أبرز عناوين هذه الحرب على الطرفين، وهو ما يؤشر على انعدام المسؤولية وغياب الذمة وهشاشة الموقف لدى طرفي النزاع.