كلٌّ لأسبابه ودوافعه الخاصة، يجتمع العالم، والعربي، خصوصاً على التعبير عن قلق شديد، بسبب اندلاع ما يشبه الحرب الأهلية في
السودان.
منذ بداية الأسبوع الحالي، وبالرغم من حرمة شهر رمضان، تندلع اشتباكات بكلّ أنواع الأسلحة، بين أطراف كانت حتى، الأمس القريب، ضمن فريق واحد.
السودان كان قد سبق جميع الدول العربية، حين تعرّض لانقسام بين شمال وجنوب، شكّل الأخير قاعدة مهمّة لإسرائيل قبل أن يلتحق السودان شمالاً، بـ"قطار التطبيع".
إسرائيل كانت موجودة دائماً هناك، وقد لعبت دوراً أساسياً في دفع الأزمة السودانية، نحو الانفجار والانقسام. لكن المشكلة ليست في الدور والمساعي الإسرائيلية التي لم ولا تتوقّف عن القيام بما يلزم لتفتيت المفتَّت العربي، ولإضعاف الخصوم العرب، وتوظيفهم في المزيد من مخطّطات تقسيم دول عربية أخرى.
اليد الإسرائيلية، موجودة بقوّة ظاهرة للعيان في أزمة "سد النهضة"، ونحو التحكّم بمياه نهر النيل من بلدان المنبع للتحكّم في حياة دول المصبّ وعلى نحو خاص مصر الكبيرة.
في زمن سابق، كان أحد زعماء إسرائيل قال صراحة، إن الحروب القادمة في المنطقة، ستكون حروباً حول المياه، بما أنه شريان الحياة، وكان يقصد مصر، العدوّ الأكبر والأقوى لإسرائيل، ومخطّطاتها بالرغم من "اتفاقيات كامب ديفيد".
بعد الملء الرابع لـ"النهضة" التي أسهمت إسرائيل في بنائه وأرسلت منصّات "قبّة حديدية" لحمايته، بدأت تظهر ملامح احتداد الأزمة حول حصص المياه للدول المستفيدة من "النيل".
لم يكن لأثيوبيا، الدولة الفقيرة، أن تأخذ هذا المنحى، المتحدّي لمصر والسودان، لولا اعتمادها على الدعم الإسرائيلي الذي يتجنّب الكثيرون الإشارة إليه، رغم معرفتهم بالحقيقة سيظهر في لاحق السنين بعد أن تكمل
أثيوبيا بناء كامل منشآت السدّ، وتشرع في ملئه بالكامل، فضلاً عن عشرات السدود الأخرى، إذا ما كان ذلك سيؤثّر على كمية المياه التي تصل إلى مصر والسودان، وإذا ما كان ذلك سيؤدّي إلى اندلاع صراع مسلّح نظراً لأن الأمر يتعلق بالوجود.
السودان يشكّل الحلقة الأضعف بسبب تنوّعه الإثني والعرقي وبسبب فشل سياسات العسكر، الذين ارتدوا الزيّ الإسلامي وفشلوا في احتواء هذا التنوّع، وتسبّبت سياساتهم في تهيئة الظروف لاندلاع الصراع، وربّما سلخ المزيد من الأقاليم، خصوصاً دارفور عن الدولة والمجتمع السوداني.
إسرائيل ستكون هناك دائماً، بيدها اليُمنى، تلعب مع العسكر الذين يحكمون وباليد الأخرى، تلعب في المجتمع، ومع قوى أخرى.
هذه المرّة كان لا بدّ أن تتحرّك أيادٍ خارجية لقطع الطريق أمام العملية السياسية، التي تمّ التوقيع عليها من القوى المدنية، وحتى من عبد الفتاح البرهان، ومحمد حميدتي، أقطاب الصراع الدّامي الجاري.
منذ اليوم الأوّل لاندلاع الصراع الدّامي، ووسط تصريحات رسمية من قبل "الأمم المتّحدة"، وعدد من الدول العربية، ودول العالم تعبّر عن القلق، وتطالب بالوقف الفوري للقتال، كان هناك تصريح لافت للنظر من قبل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن.
تصريح بلينكن أشار بوضوح إلى وجود طرف آخر خارجي، يقف خلف القتال من أجل تعطيل العملية السياسية، التي كانت قاب قوسين أو أدنى، من تسليم السلطة من قبل العسكر للقوى المدنية.
بعد هذا التصريح، كثرت التصريحات من قبل مسؤولين عرب وغير عرب، تشير إلى وجود أطراف خارجية ضالعة في التدخّل وتقف خلف اندلاع القتال.
من الطبيعي أن ننتظر من العسكر الحاكمين في السودان، أن يجدوا الطريق للانقلاب على الاتفاقية التي تتعلّق بإنجاح العملية السياسية وهم قد فعلوا ذلك أصلاً، إثر اندلاع الثورة الشعبية ضد حكم الرئيس السابق المخلوع عمر البشير.
غير أن اندلاع القتال يشير إلى أن ثمّة خلافا بين العسكر بين من يسعى للاستمرار في التمسك بالسلطة وتعطيل العملية السياسية وبين من يرغب في إنجاح العملية السياسية.
"حميدتي" يدّعي أن "البرهان" يخون الأمانة، وأنه متطرّف إسلامي أشر، وأنه المسؤول عن تعطيل المسار السياسي.
يظهر "حميدتي" من خلال تصريحاته على أنّه الحريص على العملية السياسية، والمسار الديمقراطي. لكن أحداً لا يمكنه أن يجزم بحقيقة مواقف الطرفين المتقاتلين.
وإذا كانت الثقة بفريق "البرهان" ضعيفة، فإن الثقة قد تكون معدومة بـ"حميدتي" ذلك أن قواته في الأساس، قد تشكّلت للقيام بقمع القوى المعارضة في الداخل، وأنها أشبه بميليشيا شكّلها نظام "البشير"، وفرز لها أطقما عسكرية من الجيش والشرطة الرسمية.
القتال اندلع على نحوٍ واسع، والعداء يتعمّق، ويحصد معه أرواح مئات السودانيين المدنيين والعسكريّين، والأوضاع الميدانية غامضة بسبب ادّعاءات كل طرف، إزاء ما يحقق من انتصارات على الأرض.
لا يعرف أحد كيف لهذا القتال أن يتوقّف ومتى، لكن الأكيد أن بذور الخلاف والصراع، قد تعمّقت وخلقت مساحة جديدة، لاندلاع المزيد من الأزمات التي تهدّد وحدة السودان، وأهداف الثورة؟
وما هي طبيعة التدخُّلات التي يمكن أن تقع من دول أخرى في الجوار لحماية مواطنيها وقوّاتها الموجودة في السودان لإجراء تدريبات.
السؤال هو من هي القوة الخارجية التي أشار إليها بلينكن، وفتحت عيون آخرين على وجود تدخُّل خارجي؟ الأطراف الوحيدة صاحبة المصلحة، والتي قد تكون خلف هذا الصراع المميت هي المثلّث الذي تقف فيه، وتشكّل العامل المشترك فيه وهي إسرائيل إلى جانب جنوب السودان وأثيوبيا.
قد لا تظهر الأحداث مؤشرات ملموسة، لتأكيد هذا الاتهام أو نفيه، ولكن حين نفحص طبيعة المصالح، والدوافع فإنّ هذا المثلّث سيبقى في دائرة الاتهام.
السودان على كفّ عفريت، وما لم يتدخّل العرب بشكل مباشر وظاهر وقوي ومؤثّر في مجريات ومآلات الأحداث، فإن الأمور لا تُبشّر بخير.
(الأيام الفلسطينية)