قضايا وآراء

في أولويات المعارضة المصرية وفخ التخبط

جيتي
لم يمض الأسبوع الأول من آذار/ مارس إلا بطوفان من المآسي طال عدداً من أفضل أبناء مصر، فبعد حصر المعتقلين منذ بداية العام الحالي حتى بداية الشهر الجاري تبين أنهم 371 مواطناً، أفاد محامٍ حقوقي حر بهذا بعيداً عن المعارضة وكوادرها وقدراتها ومواردها، وإن أفاد صاحب الإحصاء نفسه بأنه تم الإفراج عن 30 منهم لاحقاً.

بعدها انتشرت مقولات على مواقع التواصل بأن إحدى جبهات المعارضة المتعددة بدأت مفاوضات مع النظام من أجل الإفراج عن المعتقلين خاصة النساء، وجاء الرد قاصماً للظهر حاسماً من جانب النظام؛ إذ تم الحكم على 30 معارضاً بمن فيهم عدة نساء جديدات بالسجن بين المؤبد و5 سنوات. وقبلها بيوم أي في 4 آذار/ مارس الجاري، أُعلن عن وفاة مسجون جديد هو محمد السيد مرسي -تقبله الله في الشهداء- وراح المعارضون للنظام يعدونه حسب شهداء الشهر الحالي أو حتى 2023م، بما يعنيه هذا من عدد محدود للشهداء؛ أو الذين نحسبهم كذلك وربهم أدرى وأرحم به.

فمع إيماننا بأن التسبب في موت إنسان واحد جريمة تهتز لها السموات والأرض، لكن أسانا يتضاعف لعدم معرفة أحد من المراكز الحقوقية -أياً ما تكون ويكون تمويلها- للعدد الدقيق لشهداء المعارضة في السجون والمعتقلات منذ تموز/ يوليو 2013م، فضلاً عن غيرهم بالطبع.

وبين الغفلة والانشغال بالمتع والملذات من معارضي الخارج تتقهقر مصر من سيئ إلى أسوأ حتى بالغ السوء، ويعاني المواطن البسيط وغيره من شظف العيش، بمن فيهم مئات الآلاف على الأقل من أتباع المعارضة نفسها على اختلاف وتنوع مسمياتها، وأقطاب المعارضة المقيمون بالخارج يرون أن حياتهم في تنعم وأمن وقدرة على التنقل بين المدن العالمية وهذا يكفيهم، وأن المطلوب من مصر -لديهم- أن تسقط أو تفلس نهائياً أو حتى تقوم بها ثورة جياع لا تبقي ولا تذر، ليتم استدعاؤهم على عجل لسدة الحكم، فيملوا شروطهم المختلفة، ويفترض بهم عندها أن يتجاوزوا خلافاتهم وكثرة مناصبهم ومسمياتهم، ليحكموا وطناً يعشش اليباب والخراب بين جنباته.

ومع بساطة الطرح الشديدة إلا أن المرء ليعجب من كيفية تسرب مفرداته بين كلمات رجال من المفترض أنهم يعقلون الموقف ويدرون أبعاده جيداً ولا ينقصهم المنطق السديد في التفكير وأخذ مناسب القرارات، وما تصريح أحدهم منذ أيام، وهو مأخوذ بحذافيره من مقولة لمدير مكتبة الإسكندرية سابقاً الأكاديمي مصطفى الفقي في 2012م، من أن رئيس مصر يجب أن يحوز رضا أمريكا والكيان الصهيوني، ثم إضافة القائل بأنه لا وجود للشعب المصري في المعادلة.. إلا استمرار للمعادلة المعكوسة من عدم الفهم الكافي للحظة ومفرداتها، وإن خالف صاحب التصريح المستقر لديه -هو نفسه - منذ سنوات من وجوب الثورة وتنحية الجنرال رأس النظام، بل رغبة القائل نفسه في الحكم مكانه، فإن خالف القائل اليوم رغبة لأمثاله الآن في العصف بالنظام شابههم في عدم إدراك المرحلة واللحظة وسابقتها وما يمكن أن يلحق بها، فضلاً عن عدم اتساق الإنسان مع نفسه وسابق تصريحاته ومواقفه غير البعيدة، وعدم اتخاذ سياسة وصف الواقع والسير وسط الجموع ثم القول بأنه يقودهم!

اعتادت مصر منذ تموز/ يوليو 1952م على المعارضة الاحتجاجية التي تهدي الأنظمة المتعاقبة "متعة التنفيس" عن الملايين، تنتقد هذه المعارضة الأنظمة بقسوة وشدة ثم تهدأ وتجدد ولا تفعل شيئاً. وقد شارك في المسيرة على مدار عشرات السنوات علماء دين، وشعراء عامية وغير هذا، وكُتَّاب وصحفيون، ومذيعون ومحاورون ومدعو الخبرة الاستراتيجية، وهلم جراً. وأولاء جميعاً يضاف إليهم طرف من قادة أحزاب منذ قرب نهاية عصر الرئيس الراحل أنور السادات، وأضيف إليهم برلمانيون خاصة في عصر الراحل حسني مبارك، وهم لم يقدموا شيئاً سوى كلمات ذهبت هباء منثوراً في الهواء الطلق والمحبوس. وللأسف غذت الأنظمة وناصرت بعضهم -على الأقل- في السر وأحياناً العلن حسب الحاجة، وبين أحضان هذه المعارضة "الصوتية" تربى على مدار نحو ثلاثين عاماً أقطاب معارضة اليوم، فقد اعتاد مبارك تقليم أظافر الجميع وإبعادهم عن الخبرة السياسية الحقيقية، طالما "أعلنوا" أنهم ليسوا معه، أو حتى كانوا معه وخاف من أن يعلوا عنه جماهيرياً أو فهماً!

وتطورت تلك المعارضة بسرعة لكن لتراوح حالتها الأولى، حرية التحدث وعدم الإقدام على فعل مفيد أياً ما كان، بل مراقبة الواقع وتخيل تغييره وفق المقتضيات التي يراها كل منهم أو تراه تحالفاتهم ومصالحهم، ثم إصدار التصريحات ومحاولة البحث عن دور لهم فيها أو في غيرها. والنتيجة أن أولئك رفضوا فرصاً لا تعوض لحلحة الأزمة المصرية وإهداء الأمة كلها بعض أنفاس الحرية الدائمة، وأدركتهم حرفة السياسة بالمزيد من الأموال والمناصب بعد 2013م بما بعث بأنفسهم "قبلة الاستمرار"، فراحوا يتنادون متناسين رفقاء الدرب الذين يعانون في داخل مصر أو في داخل الداخل (السجون)، فما دامت لديهم القدرة على الحديث والتصريح وانتشار الأقوال والنجاة بالنفس فيهون ما دون هذا، وإن خص رفاق درب أو مناضلين مغلوبين على أمورهم!

ويبقى السؤال: لمصلحة من يظل المصريون يعانون شظف العيش في الداخل -إلا القليل- ويظل القادة المتنعمون في بحبوحة العيش في الخارج إلا القليل النادر؟

لمصلحة من يظل المصريون يعانون شظف العيش في الداخل -إلا القليل- ويظل القادة المتنعمون في بحبوحة العيش في الخارج إلا القليل النادر؟

وماذا لو وضع المهملون من المناضلين في الداخل والخارج أيديهم في أيدي بعضهم بحثاً عن انفراجة تزحزح صخرة الظلم والاستبداد والطغيان في الداخل؟ فللأسف المرير صارت الثورة مجرد حلم بعيد المنال، لا نشك في حدوثه لكننا لا نراه قريباً على أرض الواقع.

وماذا لو كف الذين اعتادوا تبرير وجودهم بالأحاديث المكررة.. عن مجرد الكلام وتفكروا في أولويات المعارضة ومفهوم الثورة الحقيقي بعيداً عن "بالونات الهواء"؟

لكم نود أن يهدي أي من أولاء مصر بعض أنفاس من الحرية لتكون لتضحية المضحين فائدة، وليتقي غيرهم من قادة المعارضة الله في أنفسهم قبل غيرهم، ويبقى أن نزع الأمل من النفوس يساوي استسلاماً للموت المقنع وقبولاً بالعجز، وهو ما لا نرضاه لأنفسنا قبل أهلنا الصادقين وبلادنا، ولذا سنظل على عهد التذكير بما نراه طريقاً أو حتى بصيص نور أو ضياء يقود لحل!