قضايا وآراء

الثورة التي نريد (6)

من يتقدم صفوف ثورات الشعوب؟ عربي21
"ما ملامح هذه "الثورة التي نريد"؟ وهل هي نسخة من الثورات التاريخية التي سبقتها، أم يجب أن تكون مختلفة عنها؟ وما أدواتها؟ ومَن المنوط به قيادتها؟"..

كانت هذه خاتمة مقالي السابق التي تضمنت أربعة أسئلة، سأحاول الإجابة عنها تباعا، بحول الله..

للثورات ملامح

لكل ثورة ملامح تتجلى في أيديولوجيتها التي اختارتها مرجعية لها؛ لتعيد على أساسها مراجعة، أو صياغة، أو صبغ، أو تفسير كل ما يتعلق ببنيَة الدولة وشؤون المواطن كافة: الدين، الهوية، الدستور، نمط الحكم، القوانين، نمط الاقتصاد، الأحوال الشخصية، الأحوال المعيشية، المحاكم الثورية، العدالة الانتقالية، العلاقات الخارجية، المعاهدات الدولية.. إلخ.

الثورات الثلاث الكبرى (الفرنسية، الروسية، الإيرانية) كان لها موقف شديد الوضوح من الدين، وكذلك "ثورتنا التي نريد" بطبيعة الحال، ولِمَ لا، والدين يأتي في مقدمة المكونات التي تساهم في تكوين الفرد، روحيا ومعرفيا وسلوكيا، ومن ثم يؤثر في اختياراته وقراراته، أو هكذا يجب أن يكون، إذا كان يدين بدين معين
ولا غرابة في أن أضع الدين (عامدا) على رأس كل ذلك؛ فالثورات الثلاث الكبرى (الفرنسية، الروسية، الإيرانية) كان لها موقف شديد الوضوح من الدين، وكذلك "ثورتنا التي نريد" بطبيعة الحال، ولِمَ لا، والدين يأتي في مقدمة المكونات التي تساهم في تكوين الفرد، روحيا ومعرفيا وسلوكيا، ومن ثم يؤثر في اختياراته وقراراته، أو هكذا يجب أن يكون، إذا كان يدين بدين معين، ونحن مجتمع صاحب دين، سواء كان الإسلام، أو المسيحية، أو اليهودية، حتى لو كان اليهود في مجتمعنا عشرة أفراد.

الدين في الثورة الفرنسية

اختارت الثورة الفرنسية إبعاد الدين عن السياسة، بل عن "الحياة العامة" بالكلية، وحصرته في الكنائس والأديرة التي تم مصادرة وبيع الكثير الكثير من أملاكها إبان الثورة، وهو ما يُطلَق عليه "العلمانية"، ولها عند العرب (دون سواهم) نُطقان، ومن ثم تفسيران:
"العَلمانية" بفتح العين، وهي مشتقة من كلمة "عالَم"، وتعنى في تعبير جامع: هناك عالَمان: "عالم الدنيا" وهو لأهلها يعيشون فيه بالكيفية التي تحقق مصالحهم، وتشبع رغباتهم، وفق ما يقررونه من تشريعات. و"عالَم الآخرة" أو "الملكوت" وهو للرب

النطق الأول: "العَلمانية" بفتح العين، وهي مشتقة من كلمة "عالَم"، وتعنى في تعبير جامع: هناك عالَمان: "عالم الدنيا" وهو لأهلها يعيشون فيه بالكيفية التي تحقق مصالحهم، وتشبع رغباتهم، وفق ما يقررونه من تشريعات. و"عالَم الآخرة" أو "الملكوت" وهو للرب، يُدخل فيه مَن آمن بالمسيح مُخَلِّصا، ويَحرِم منه مَن لم يؤمن بالمسيح المُخَلِّص.. وبذلك تكون "العَلمانية" أكثر "تديُّنا" من الإكليروس "رجال الدين" الذين هيمنوا (وقتذاك) على السياسة باسم الرب، فأفسدوا الدين والسياسة معا، بل أفسدوا الحياة كلها! وكأنهم لم يقرأوا في إنجيل مرقس: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". والحقيقة أنهم قرأوه، وعقلوه، وخالفوه عن عمد؛ تكريسا لمنافعهم المادية والمعنوية والاجتماعية.

النُّطق الثاني: "العِلمانية" بكسر العين، وهي مشتقة من "العِلم"، ولهذا النطق وجاهته، رغم انتفاء ارتباطه بـ"العَلمانية الأم" التي اصطلح على دلالتها ناحتوها الأوائل.. فالعلمانية نشأت (في الأساس) ردا على الفكر المسيحي "المنحرف" الذي أسست له الكنيسة، وسيطر على أوروبا منذ سقوط روما، في بداية الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي، وحتى بداية عصر النهضة. أما وجاهة نطق الكلمة بكسر العين، فيكمن في طبيعة علاقة "الحقائق الكونية" المذكورة في "الكتاب المقدس" بـ"الحقائق العلمية" التي ثبتت وتأكدت لاحقا، وهذا استنتاج متأخر جاء مواكبا للاكتشافات والأبحاث العلمية، ولا علاقة له بالمفهوم "الأساس" للعلمانية (بفتح العين).
"العِلمانية" بكسر العين، وهي مشتقة من "العِلم"، ولهذا النطق وجاهته، رغم انتفاء ارتباطه بـ"العَلمانية الأم" التي اصطلح على دلالتها ناحتوها الأوائل.. فالعلمانية نشأت (في الأساس) ردا على الفكر المسيحي

الدين في الثورة الروسية

أما الثورة الروسية التي اتخذت من أفكار ونظريات ماركس أيديولوجيا ومرجعية لها، فقد وصفت الدين بـ"أفيون الشعوب"، ذلك لأن الدين (حسب زعم ماركس): "يُخدِّر الناس ويلهيهم عن شقاء الحياة"! وما عرف الشعب الروسي الشقاء (على حقيقته) إلا بعد أن أصبحت أفكار ونظريات ماركس واقعا ملموسا لسبعين سنة، تحت الحكم الشيوعي الذي حوَّل البشر إلى تروس في آلة كبيرة اسمها "المجتمع الشيوعي" أو "المجتمع الاشتراكي" الذي عُرف سياسيا باسم "الاتحاد السوفييتي"، مقابل الفتات، بينما استأثرت نسبة قليلة من أفراد هذا المجتمع بكافة الامتيازات، نظير إدارتهم هذه المنظومة الاستعبادية!

إن الثورة الروسية لم تكن "لا دينية"، وإنما اختارت أن يكون "دينها" الإلحاد! ذلك، لأن "اللا ديني" ليس بالضرورة أن يكون له موقف سلبي من الدين، أو ينكر وجود الإله، على العكس (تماما) من ماركس الذي سخر من الدين، ولم يسلِّم بأن لهذا الكون إله.

الدين في الثورة الإيرانية

وأما الثورة الإيرانية، فقد نصت (بكل وضوح) في المادة 12 من دستور "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" على أن "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الاثنا عشري، ويبقى هذا المبدأ قائما وغير قابل للتغيير إلى الأبد".

نلاحظ في هذا المقطع من هذه المادة "واو العطف" التي عطفت المذهب "الجعفري الاثني عشري" على "الإسلام"، في بداية المادة: "الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب الجعفري الاثنا عشري".. ولمزيد من الإيضاح، يمكن قراءتها على النحو الآتي: "الدين هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشري".. أي أن "الإسلام" و"المذهب الجعفري الاثني عشري" هما "الدين" عند معتنقي هذا المذهب، وليس مجرد اجتهادات فقهية يمكن التعامل معها (بمرونة) أخذا وتركا، تبعا لمقتضى الحال والحاجة. إذ أن القيمة المعتبرة والأهم للمذاهب الفقهية تكمن في أن أصحابها (رحمهم الله) أعملوا عقولهم واجتهدوا في تحقيق مصالح العباد، كلٌّ في زمانه، مهتدين بالقرآن والسنة. ولست أعلم أن أيا من هؤلاء الفقهاء الأعلام، طلب من تلاميذه أن يعتبروا اجتهاداته "دينا" موازيا للإسلام، أو جزءا منه!

هذه المادة تعني بوضوح، أنه لا يصح إسلام المرء إذا لم يكن "يدين" بالمذهب الجعفري الاثني عشري! وهذا ينطوي على تكفير واضح لأصاحب المذاهب الإسلامية الأخرى، ناهيك عن غير المتمذهبين الذين يشكلون السواد الأعظم من المسلمين! لذا، كانت تتمة الجملة منطقية ومتسقة مع بدايتها ودلالتها: "ويبقى هذا المبدأ قائما وغير قابل للتغيير إلى الأبد".. طبعا، لا بد أن يكون غير قابل للتغيير، ويبقى إلى الأبد؛ لأن المذهب الجعفري الاثني عشري "دين"، وليس "اجتهادا"!

وقد تعاملت تتمة المادة نفسها مع أتباع المذاهب الأخرى (السنية والشيعية على السواء) باعتبارهم "أقليات دينية"، مع ملاحظة غياب أو تجاهل "المذهب الإباضي":

"أما المذاهب الإسلامية الأخرى التي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي، فإنها تتمتع باحترام كامل، وأتباعها أحرار في أداء طقوسهم الدينية المذهبية حسب فقههم. وتحظى هذه المذاهب باعتراف رسمي في مسائل التعليم والتربية الدينية والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث والوصية)، وما يتعلق بها من دعاوى المحاكم".

الدين في أعرق ديمقراطية
الديمقراطية الإنجليزية التي هي أقدم ديمقراطية في العالم اليوم.. فالملك في المملكة المتحدة هو "رأس الكنيسة"، ويحمل لقب "حامي الإيمان" و"حامي العقيدة"، والكنيسة هي التي تتولى تتويج الملوك وتقيم مراسم زواجهم، ما يعني أن المملكة المتحدة دولة "ديمقراطية دينية"، وليست "ديمقراطية عَلمانية"!

وأعني الديمقراطية الإنجليزية التي هي أقدم ديمقراطية في العالم اليوم.. فالملك في المملكة المتحدة هو "رأس الكنيسة"، ويحمل لقب "حامي الإيمان" و"حامي العقيدة"، والكنيسة هي التي تتولى تتويج الملوك وتقيم مراسم زواجهم، ما يعني أن المملكة المتحدة دولة "ديمقراطية دينية"، وليست "ديمقراطية عَلمانية"! وكما هو معلوم، فقد وقع انفصال الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما (الأم) لأسباب سياسية، أو بالأحرى "شخصية"، وليس لأسباب دينية أو "لاهوتية"، وذلك عندما أراد الملك هنري الثامن الطلاق من زوجته، إلا أن القيود الكنسيّة لم تسمح بذلك، فأعلن انفصاله عن الكنيسة "الرومانية"، وأسس الكنيسة "الإنجليكانية"، ويعد هذا الانفصال "تمردا دينيا" أو "ثورة دينية" ولا شك؛ لأنه استحدث "كنسية جديدة".

هل يقبل العلمانيون في بلادنا بأن يتمتع "الرئيس المسلم" بمثل هذه "السلطة الدينية"، حتى لو أصبحنا "دولة ديمقراطية" على النمط الإنجليزي؟

(يتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com