قضايا وآراء

عندما تواجه إيران أمريكا في قطر

1300x600
حيث لا تنفع مسيرات ولا مليشيات، ولا طائرات ولا أقمار اصطناعية، إنما من أتى المباراة بخطة محكمة وفريق متين، يلتقي منتخب إيران لكرة القدم غريمه الأمريكي في مباراة تحمل من الرسائل السياسية والأخلاقية أكثر مما تحمله على مستوى النتائج والنقاط وفرص الصعود للدور الثاني من كأس العالم المقام في قطر.

منتخب إيران الذي أدى أداء يشكر عليه في المباراتين اللتين لعبهما، يشكر لاعبوه على موقفهم الأخلاقي تجاه ثورة الشعب الذي يمثله في هذا الاستحقاق العالمي، فلقد لاقى موقف لاعبي المنتخب الإيراني امتنان ذوي من قتلوا ومن أصيبوا ومن اعتقلوا في تظاهرات إيران على مدى ثلاثة أشهر ومستمرة، جنبا إلى جنب مع الذين لم ينخرطوا حتى الآن في التظاهرات خوفاً من البطش الأمني الغاشم الذي عهدوا.
والنظام الدكتاتوري يستغل المناسبات الرياضة الكبيرة، ككأس العالم، لإرسال رسائل سياسية أو تمرير قرارات حساسة، أو على أقل تقدير تخدير الشعب فترة إقامة البطولة

والنظام الدكتاتوري يستغل المناسبات الرياضة الكبيرة، ككأس العالم، لإرسال رسائل سياسية أو تمرير قرارات حساسة، أو على أقل تقدير تخدير الشعب فترة إقامة البطولة، فإذا كان الدين أفيون الشعوب إذا حمل رسالته رجال دين خدام للسلطة، فإن الرياضة أفيون الشعوب إذا حمل رسالتها إعلام أدوات للسلطة. لكن الثورة الإيرانية المندلعة إثر مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في طهران منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر، كسرت كل القواعد وأحبطت كل الخطط، فخروج الشباب في التظاهرات وانخراط العمال في الإضرابات والتحركات التي شهدتها كل المحافظات من كل العرقيات، نموذج لوعي شعب، وسابقة في كتاب الثورات، وعلى تلاميذ جوستاف لوبان ومريديه من مخابرات الدول الاستبدادية والاستعمارية، أن يعيدوا النظر فيما كتبه أستاذهم في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، فنظرية لوبان عن الخصائص العامة للجماهير والقانون النفسي لوحدتها الذهنية، حطمتها جماهير إيران الثائرة على النظام الغاشم.

هذا النموذج للشعوب الثائرة والمطالبة بأبسط حقوق الإنسان، من مسكن وتعليم جيد وحرية رأي وكرامة إنسانية من غير توقيف شرطي وما يصاحبه من إهانة وتعذيب، ومن ثم حق الشعب في اختيار من يمثله لتحقيق العدالة الاجتماعية بين كل مكونات ذلك البلد المترامي الأطراف والمحتضن للعديد من العرقيات، يكبر على من يحكموه بطائفيتهم وفاشيتهم.

قبل لقاء الولايات المتحدة بإيران بعد أيام يجب أن تقف كثيراً عند هذا النموذج من الجماهير، ومن ثم يجب أن تضطلع راعية الديمقراطية والحقوق بدورها ومسئوليتها تجاهه، وإلا فإن الصورة النمطية التي رسمتها الولايات المتحدة لدورها في العالم من حماية الحريات ورعاية الداعين لها، سينالها كثير من التشويه.

قبل أن تلتقي أمريكا بإيران بعد أيام عليها أن تنظر إلى أهل السنة في إيران الذين صبروا كثيراً، وتحملوا أكثر مما صبروا، فعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية وموثوقة فإن أهل السنة في إيران يقدرون بخمسة عشر في المئة من سكان الجمهورية الإسلامية، أو هكذا تسمي نفسها، هذا المكون الذي عانى التهميش منذ اعتلاء أصحاب العمائم السود حكم البلاد، فساموا تلك الطائفة عذاب التهميش ومرارة عدم التكافؤ في التمثيل والتعبير السياسي.
وإن كانت الثورة في إيران لم تكتب سطورها الأخيرة، في ظل تصعيد النظام لوتيرة القمع، إلا أن الحراك سيترك بصمته، بلا شك، على الجميع، سواء الجماهير التي ثارت وعلى من بعدهم من أولادهم، أو على النظام الذي يتزايد يقينه بفقدان الشرعية حتى مع القمع، ما يعني أن حراك اليوم سينتج شيئا لعل أهمه خفض وتيرة الطائفية وفتح أفق أوسع للحرية

ولعل الناظر إلى الانتفاضة الشعبية التي تتصاعد وتيرتها منذ مقتل مهسا أميني، يجد أن انخراط أهل السنة في الانتفاضة الشعبية تأخر كثيراً، وهو ما يرجع إلى حساسية الحسابات وتعقيدها في أوساط القيادات الروحية والاجتماعية وحتى السياسية لتلك الأقلية، فسوابق النظام في طهران وتمكنها من اللعب على وتر العرق لضرب الطائفة، جعلت هذه القيادات تراجع حساباتها ألف مرة قبل الخوض في مشروع قد ينعكس سلباً على أهل السنة. ولعل التاريخ قد حفر ذكريات مؤلمة في نفوسهم في السبعينيات من القرن الماضي بعد الأحداث الدامية في مدينة سنندج، ثم مدينتي مهاباد وسردشت في أذربيجان الغربية، ثم في غلستان وأخيراً في تلك الحقبة في محافظة خوزستان.

الحديث عن السنة في إيران هو حديث الشرائح لا التمييز، فالكل في إيران يذوق الفقر والبطالة والتهميش والقمع، ويطالب بحياة كريمة تضمنها العدالة والحرية والحفاظ على الكرامة الإنسانية ومساواة في الحقوق كما الواجبات في دولة قانون، لا دولة أهواء رجال دين يحكمون بالأحلام لا النصوص، يحكمون بالأهواء لا الأعراف، دولة تحترم خصوصية المواطن ومساحات حريته الشخصية، دولة تحترم حرية الفكر والدين، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر في العلن من دون خوف، هذا ما تريده الثورة في إيران الآن، بمختلف أعراقها وطوائفها.

وإن كانت الثورة في إيران لم تكتب سطورها الأخيرة، في ظل تصعيد النظام لوتيرة القمع، إلا أن الحراك سيترك بصمته، بلا شك، على الجميع، سواء الجماهير التي ثارت وعلى من بعدهم من أولادهم، أو على النظام الذي يتزايد يقينه بفقدان الشرعية حتى مع القمع، ما يعني أن حراك اليوم سينتج شيئا لعل أهمه خفض وتيرة الطائفية وفتح أفق أوسع للحرية، وهو ما يعني بداية النهاية لذلك النظام ولو بعد حين.