كتب

هل "الإسماعيليّة" تجربة تقليديّة أم تجديديّة في الممارسة الصّوفيّة؟

كتاب يشرح المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها الطّريقة الإسماعيليّة
الكتاب: "الشيخ إسماعيل الهادفي وفكره الصوفي"
المؤلف: الدّكتور بلقاسم القاسمي
الناشر: مجمّع الأطرش للكتاب المختص
الطبعة الأولى: تونس 2022
عدد الصفحات: 152


يؤكّد المؤرخ التونسي التليلي العجيلي في كتابه "الطرق الصوفيّة والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية"، أن تونس عرفت مبكّرا ظاهرة التصوّف الطّرقي، بوصفها مَعبَرا للعائدين من المشرق والذاهبين إليه من حجيج وتجّار وطلبة علم، فضلا عمّا أتاحته السلطتان المُوحّديّة والحفصيّة من حريّة للنشاط الطرقي، على عكس ما لقيه من صدّ ومعارضة في المشرق. وقد ساعد هذا الحضور المبكّر لظاهرة التصوّف الطرقي بالبلاد التونسيّة في منح طرق صّوفيّة عدّة ورجالاتها حيّزا مُهمّا من الكتابة والدّراسة الأكاديمية.

ولئن حظيت كلّ من الطريقة القادريّة نسبة لعبد القادر الجيلاني (توفّي 651 هجريّة) والشاذليّة نسبة لمؤسسها أبو الحسن الشاذلي (توفي 656 هجريّة) والتيجانيّة لصاحبها أحمد التيجاني (توفّي 1230 هجريّة) بمعظم الاهتمام بالبحث والكتابة في تاريخيّة الطرق الصّوفيّة وأعلامها وطقوسها، فإنّ طُرُقا أخرى، وإن كانت لا تقلّ انتشارا بالبلاد التونسية وجيرانها أو عدد مريدين، لا تزال مغمورة ومجهولة ولا يزال رجالاتها قليلي التناول الأكاديمي من أمثال الشيخ محمّد المدني والشيخ إسماعيل الهادفي (توفّي 1994 ميلاديّة).

القطع مع تصوّف التبرّك

اعتبارا للحضور المتميّز للشيخ إسماعيل الهادفي من حيث تجاوزه لكلّ من "التصّوف النّظري"، الذي يصنّف ضمن دائرة التصوّف الفلسفي و"الثقافة العالمة"، وكذلك تجاوزه "التصوّف الطرقي"، المرتبط عادة بدراسة المناقب والكرامات والكشوفات والذي يصنّف في إطار "الثقافة الشعبية"، فإنّه يكون من الأهميّة بمكان الحفر عميقا في التجربة الصّوفية للشيخ إسماعيل الهادفي وإعادة إنتاج أدبيّاته المعرفيّة والعرفانيّة  وتحسّس إسهاماته في نشر ما يسمّى بتصوّف الإرادة القائم على اتباع شيخ حي، ممّا عدّ إحياء لأصول التصوّف بعد قرون من سيادة تصوّف التبرّك القائم على التبرّك بشيخ مُتوفّى.

في هذا الإطار يتنزّل تقديمنا لكتاب "الشيخ إسماعيل الهادفي وفكره الصّوفي" للدكتور الباحث بلقاسم القاسمي الذي اجتهد في "ملامسة التمثّلات الطّقسيّة والدّلالات الرّمزية التي نسجها الشيخ إسماعيل الهادفي من خلال قصائده ومناجاته والأوراد المتّبعة داخل طريقته"، وذلك من خلال القيام ببحث استطلاعي ذو طابع كيفي يطمح إلى التعرّف على مميزّات تجربة الطّريقة الإسماعيليّة (نسبة إلى الشيخ إسماعيل الهادفي) وخصائصها.

وقد تركّز بحث المؤلف، على وجه الخصوص، على البحث في القيمة المضافة للشيخ إسماعيل الهادفي للفكر الصّوفي وللتجربة الذّوقيّة والعرفانيّة، وذلك في إطار التعريف برجالات الزيتونة وإبرازهم إلى السّاحة الثقافيّة من خلال منتوجهم الأدبي على غرار الشيخ إسماعيل الهادفي الذي أفرغ تجربته الصّوفيّة في بعض قصائده وأذكاره وأوراده والمنهج الذي صاغه في التربية والسّلوك. جماع القول إن مبحث المؤلف الرئيس في كتاب "الشيخ إسماعيل الهادفي وفكره الصّوفي" هو التدقيق إن كان الفكر الإسماعيلي امتدادا لتجربة صوفيّة تقليديّة أم أنّه صاغ لنفسه منهجا غير تقليدي في الممارسة الصّوفيّة؟

بنية الكتاب

بُني كتاب "الشيخ إسماعيل الهادفي وفكره الصوفي" في خمسة فصول. لامس فصله الأوّل الإطار النظري والمنهجي، أي في أيّ إطار تتنزّل الدّراسة من حيث البعد النّظري، لذلك حاول المؤلّف موضعة الفكر الإسماعيلي داخل الفضاء المعرفي والثقافي التونسي من خلال الخصوصيّة التي ميّزت التصوّف داخل البلاد التّونسيّة.

وتمثّل الإطار المنهجي المتّبع في هذا الكتاب- البحث في "توخّي منهجيّة متعدّدة المستويات من أجل الإحاطة بالموضوع من عدّة جوانب، اعتمدت للدّراسة على المنهج الكيفي والمنهج الوصفي والتحليلي وذلك من خلال المستويات التالية: تفكيك الأدبيّات الصّوفيّة عند الشّيخ إسماعيل الهادفي وتحليلها، الملاحظة المباشرة للممارسة الصّوفيّة داخل نشاط الزّاوية، المقابلات والمحادثات وأخيرا استنطاق الأدبيّات التي تعتمد في الطّريقة الإسماعيليّة أي ما أنتجه شيوخها المتعاقبون: محمّد المدني وأحمد العلوي.

تناول المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب الجذور التاريخيّة للتصوّف من خلال سيرورة الصّوفي، فكان المبحث الأوّل: سيرورة التصوّف في العالم الإسلامي، لأن فهم أيّ ظاهرة فكريّة أو اتّجاه معرفي أو عقائدي يجب أن ينزل في سياقه التاريخي لنعرف طبيعة الفكر والمؤثرات الفاعلة فيه.

فيما عني الفصل الثالث من الكتاب بظروف نشأة الطريقة الإسماعيليّة ومناخات التجاذب التي سادت المشهد بعد وفاة شيخه محمّد المدني على المشيخة، والمبحث الأوّل من هذا الفصل تناول نبذة عن حياة الشّيخ إسماعيل الهادفي وانتقل المبحث الثاني إلى سند الشيخ إسماعيل الهادفي على اعتبار أهميّة السّند داخل الفكر الإسلامي عامّة الذي يمثّل استمرارية تعاليم الشّرع عبر سيرورة الزّمان والمكان.

وتناول المؤلف في الفصل الرابع من الكتاب المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها الطّريقة الإسماعيليّة والتي ترتكز على الأركان الثلاثة: الشيخ، المريد والعهد. ويشكّل كلّ ركن مبحثا خاصّا به وطقوس الطّريقة الإسماعيليّة. لينتهي المؤلف في الفصل الخامس والأخير من الكتاب إلى قراءة فكر الشيخ إسماعيل الهادفي من حيث البعد الصّوفي والكلامي.

إعادة إنتاج العمليّة الصوفية في العصر الحديث

يرى الدكتور بلقاسم القاسمي أنّ الفكر الصّوفي عند الشيخ إسماعيل الهادفي هو ديمومة الحدث الصّوفي في المخيال المجتمعي من خلال التكرار واستدامة القواعد الصّوفيّة كما وردت في كتاب "قواعد التصوّف" لأحمد زروق (توفّي سنة 899 هجريّة) و"الحكم العطائيّة" لابن العطاء السكندري (توفّي سنة 709 هجريّة)، فالفكر الإسماعيلي يعتبر إعادة إنتاج للعمليّة الصّوفيّة في العصر الحديث واستدعاء التاريخ إلى اللحظة التاريخية الرّاهنة.

إعادة إنتاج للعمليّة الصّوفيّة بما تمثّله من "غوص في مضامين النصوص الدّينية وتجاوز المنطوق إلى الدّلالات والمعاني عبر منهج تزكَوِي يشتغل على النّفس ابتداء، لذا كانت التجربة الصوفيّة فريدة على اعتبار هذا التميّز والخصوصيّة". التصوّف بما هو: "الفرد من حيث أنّه يعتبر المحور لعمليّة التربية من أجل صياغته ونحته وتشكيل شخصيته وفقا لرياضة نفسية تقوم على مخالفة النّفس للوصول بهذه الشخصيّة الصّوفيّة إلى المحق والمحو والفناء للذات فلا يرى لها وجودا ليبقى بالله وينعم بوحدة الشهود".

تحدّيات البحث في التجربة الصّوفية للشيخ الهادفي

يشير الدكتور بلقاسم القاسمي إلى أهمّ عائق اعترضه في دراسة التجربة الصوفية للشيخ إسماعيل الهادفي والمتمثّل في قلّة كتابات الشّيخ، إذ أنّ الشيخ إسماعيل الهادفي لم يهتمّ بالكتابة وإنّما كان اهتمامه بتربية المريدين، فهو "أفرغ شحنته العرفانيّة في المريدين تربية وسلوكا، ويمكن قراءة فكره من خلال التمثّلات الطّقسيّة أثناء النشاط الصّوفي داخل الزّاوية"، وهذا ما يعقّد عمليّة استنطاق الأدبيّات التّربويّة من خلال الممارسة الطّقسيّة.
يتمثّل الفكر الصّوفي عند الشيخ إسماعيل الهادفي، وفق المؤلف، في سيرورته التاريخية داخل النسق المعرفي الصّوفي العام لذلك نجده وفيّا للمدوّنة الصّوفيّة في الحفاظ على القواعد الأصوليّة للتصوّف المتمثّلة في النواحي الإجرائيّة والطقسيّة،

وقد دفعت قلّة كتابات الشيخ إسماعيل الهادفي المؤلّف إلى الاقتصار على البحث في فكره الصوفي من خلال التمثّلات السلوكيّة والتّعبيرات الشّكليّة والدّلالات الطقسيّة، أي التصوّف كما عاشه أفراد الطريقة الإسماعيليّة إذ يعكس البعد التربوي للشيخ إسماعيل كيف فهموه ومارسوه في ظلّ واقع مركّب تداخلت فيه المعايير وانقلبت فيه القيم.

ويرى المؤلف أنّ الطّريق الإسماعيلي مشحون بالألغاز والأسرار، إذ يعتبرون الممارسات الطّقسيّة صورة خارجيّة لا تعبّر عن مضمون الطّريق، إذ أنّ حقيقة الممارسات تدرك بالمعايشة والتّجربة وهذا ما يقوله السّهروردي في قصيدة منسوبة إليه:

بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم       وكذا دماء البائحين تباح

من الاستدلال البرهاني والعقلاني إلى التمثّل الشعائري والطقسي


يتمثّل الفكر الصّوفي عند الشيخ إسماعيل الهادفي، وفق المؤلف، في سيرورته التاريخية داخل النسق المعرفي الصّوفي العام لذلك نجده وفيّا للمدوّنة الصّوفيّة في الحفاظ على القواعد الأصوليّة للتصوّف المتمثّلة في النواحي الإجرائيّة والطقسيّة، إذ يعتبر الشيخ إسماعيل الهادفي أنّ الشيخ ركن ركين في التصوّف ويفرّق بين الصّوفي والمتصوّف، فالصّوفي هو السّالك طريق القوم على يد شيخ عارف متّصل إسنادا بسلسلة من المشايخ والمتصوّف هو السّالك دون شيخ وهذا لا يأمن على نفسه الانحراف والاستدراج.

وقد تجاوز المنهج الإسماعيلي الاستدلال البرهاني والعقلاني إلى التمثّلات الشعائريّة والطقسيّة التي تمرّ عبر الذّكر والتسبيح فهما وسيلتان موصلتان إلى معرفة الله. فالسير الصوفي عند الشيخ إسماعيل الهادفي يمرّ عبر منهج التخلية والتحلية، أي أن يتخلّى المريد عن كلّ وصف مذموم ليتحلّى بكلّ وصف محمود، وهذا المنهج القيم يوالخلقي يتحقق عبر الالتزام الذي يمثّل في صياغته في مجال الممارسة والفعل بعدا قيميّا ورسما لمنهج الطّريق إذ أنّ التّسبيحات الخمس الواجبة على المريد الالتزام بها تعكس هذا البعد التربوي والتزكوي.

أذواق وجدانيّة تميّز الفكر الإسماعيلي

يوصي المؤلف بأهميّة دراسة الفكرالإسماعيلي وطريقته الصّوفيّة دراسة سوسيولوجيّة وفلسفيّة وصوفيّة وكلاميّة لما يحمله فكره من شحنات معرفيّة وأبعاد فلسفيّة وأذواق وجدانيّة تميّزه عن غيره من الطّرق الصّوفيّة.

وقد تركّز بحثه في الطريقة الإسماعيليّة وفكر شيخها الهادفي من خلال تسليط الضّوء على المعيش في تلك الطقوس والشعائر الخاصّة في حياة الصّوفي المريد في فضاء الزّاوية أثناء النشاط العام وتلك العلاقات التي تربط المريد بالمريد والمريد بالشيخ. وقد انتهى إلى أنّ الشيخ إسماعيل الهادفي إنّما يستعمل مصطلح "الفقير" عوض "المريد" ذلك للدّلالة التي يحملها مصطلح "الفقير" إذ أنّ كلّ حرف يعبّر عن مرحلة من مراحل السّير ولعلّه يذهب بذلك مذهب أحمد بن عطاء الروذباري (توفّي 369 هجريّة) في وصف الفقراء إذ قال:

فاء الفقير فِناؤُه ببقائِه            والقاف قرُب محلُّه للقائه
والياء يُعلم كونه عبدا له         في جملة العتقاء من طلقائه
والرّاء راحة جسمه من           وبلائه وعنائه وشقائه
هذا الفقير إن طلبت وجِدَّتُه     في جملة الأصحاب من رفقائه
أهل الصّيانة والدّيانة والنقد    مضمون قصد الحُقّ من تلقائه


يختصّ الفكر الإسماعيلي في اعتبار ادّعاء مريديه والمنتسبين إليه أنّه قطب عصره وفريد زمانه والأوحد في التّربية والسّلوك والمأذون الوحيد في تلقين "الاسم الأعظم". وتتميّز القصائد المدوّنة في دواوين تعود إلى مؤسسي الطريقة الإسماعيلية والفاعلين في بنائها حتى استوى عودها مع الشيخ إسماعيل بزخمها القصائدي والشعري وهي تحمل أبعادا بلاغيّة وإيحاءات رمزيّة ومناهج تربويّة.

 بالرغم من هذا الرخم التربوي، يرى المؤلّف الدكتور بلقاسم القاسمي أنّ الفكر الإسماعيلي وإن كان لا يحمل حسّا عدائّيا للحياة والإنسان والواقع فإنّه لا يحمل مشروعا إصلاحيّا مجتمعيّا واضح المعالم على اعتبار خصوصيّة المنهج، إذ يستهدف الإنسان كذات في إطاره الفرداني.